الباحث القرآني

ولَمّا أوْعَزَ سُبْحانَهُ في أمْرِ الجِهادِ، وأزاحَ جَمِيعَ عِلَلِهِمْ وبَيَّنَ أنَّ حُسْنَهُ لا يَخْتَصُّ بِهِ شَهْرٌ دُونَ شَهْرٍ وأنَّ بَعْضَهم كانَ يَحِلُّ لَهم ويُحَرِّمُ فَيَتْبَعُونَهُ بِما يُؤَدِّي إلى تَحْرِيمِ الشَّهْرِ الحَلالِ وتَحْلِيلِ الشَّهْرِ الحَرامِ بِالقِتالِ فِيهِ، عاتَبَهُمُ اللَّهُ سُبْحانَهُ عَلى تَخَلُّفِهِمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الآمِرِ لَهم بِالنَّفْرِ في غَزْوَةِ تَبُوكَ عَنْ أمْرِهِ سُبْحانَهُ، وكانَ ابْتِداؤُها في شَهْرِ رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ، فَقالَ تَعالى عَلى سَبِيلِ الِاسْتِعْطافِ والتَّذْكِيرِ بِنِعْمَةِ الإيمانِ (p-٤٦٩)بَعْدَ خَتْمِ الَّتِي قَبْلَها بِأنَّهُ لا يَهْدِي الكافِرِينَ - الَّذِي يَعُمُّ الحَرْبَ وغَيْرَهُ المُوجِبَ لِلْجُرْأةِ عَلَيْهِمْ [لِأنَّ مَن لا هِدايَةَ لَهُ أعْمى، والأعْمى لا يَخْشى]: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أيِ ادَّعُوا ذَلِكَ ﴿ما لَكُمْ﴾ أيْ: ما الَّذِي يَحْصُلُ لَكم في أنَّكم ﴿إذا قِيلَ لَكُمُ﴾ أيْ: مِن أيِّ قائِلٍ كانَ ﴿انْفِرُوا﴾ أيِ: اخْرُجُوا مُسْرِعِينَ بِجِدٍّ ونَشاطٍ جَماعاتٍ ووُحْدانًا إمْدادًا لِحِزْبِ اللَّهِ ونَصْرًا لِدِينِهِ تَصْدِيقًا لِدَعْواكُمُ الإيمانَ، والنَّفْرُ: مُفارَقَةُ مَكانٍ إلى مَكانٍ لِأمْرٍ هاجَ عَلى ذَلِكَ ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أيْ: بِسَبَبِ تَسْهِيلِ الطَّرِيقِ إلى المَلِكِ الَّذِي لَهُ جَمِيعُ صِفاتِ الكَمالِ، وقالَ أبُو حَيّانَ: بَنى ”قِيلَ“ لِلْمَفْعُولِ والقائِلُ النَّبِيُّ ﷺ ولَمْ يَذْكُرْ إغْلاظًا ومُخاشَنَةً لَهم وصَوْنًا لِذِكْرِهِ؛ إذْ أخْلَدَ إلى الهُوَيْنا والدَّعَةِ مَن أخْلَدَ وخالَفَ أمْرَهُ. انْتَهى. ﴿اثّاقَلْتُمْ﴾ أيْ: تَثاقَلْتُمْ تَثاقُلًا عَظِيمًا، وفِيهِ ما لَمْ يَذْكُرُوا لَهُ سَبَبًا ظاهِرًا بِما أشارَ إلَيْهِ الإدْغامُ إخْلادًا ومَيْلًا ﴿إلى الأرْضِ﴾ أيْ: لِبَرْدِ ظِلالِها وطِيبِ هَوائِها ونُضْجِ ثِمارِها، فَكُنْتُمْ أرْضِيِّينَ في سُفُولِ الهِمَمِ، لا سَمائِيِّينَ بِطَهارَةِ الشِّيَمِ. ولَمّا لَمْ يَكُنْ - في الأسْبابِ الَّتِي تَقَدَّمَ أنَّها كانَتْ تَحْمِلُ عَلى التَّباطُؤِ عَنِ الجِهادِ - ما يَحْتَمِلُ القِيامَ بِهِمْ في هَذِهِ الغَزْوَةِ إلّا الخَوْفُ مِنَ القَتْلِ والمَيْلُ إلى الأمْوالِ الحاضِرَةِ وُثُوقًا بِها والإعْراضُ عَنِ الغِنى المَوْعُودِ بِهِ (p-٤٧٠)الَّذِي رُبَّما يَلْزَمُ مِنَ الإعْراضِ عَنْهُ التَّكْذِيبُ، فَيُؤَدِّي إلى خَسارَةِ الآخِرَةِ، هَذا مَعَ ما يَلْزَمُ عَلى ذَلِكَ - ولا بُدَّ - مِنَ الزُّهْدِ في الأجْرِ المُثْمِرِ لِسَعادَةِ العُقْبى بِهَذا الشَّيْءِ الخَسِيسِ؛ قالَ مُبَيِّنًا خِسَّةَ ما أخْلَدُوا إلَيْهِ تَزْهِيدًا فِيهِ وشَرَفِ ما أعْرَضُوا عَنْهُ تَرْغِيبًا مُنَبِّهًا عَلى أنَّ تَرْكَ الخَيْرِ الكَثِيرِ لِأجْلِ الشَّرِّ اليَسِيرِ شَرٌّ عَظِيمٌ مُنْكِرًا عَلى مَن تَثاقَلَ مُوَبِّخًا لَهُمْ: ﴿أرَضِيتُمْ بِالحَياةِ الدُّنْيا﴾ أيْ: بِالخَفْضِ والدَّعَةِ في الدّارِ الدَّنِيَّةِ الغارَّةِ ﴿مِنَ الآخِرَةِ﴾ أيِ: الفاخِرَةِ الباقِيَةِ؛ قالَ أبُو حَيّانَ: و”مِن“ تَظافَرَتْ أقْوالُ المُفَسِّرِينَ أنَّها بِمَعْنى بَدَلَ، وأصْحابُنا لا يُثْبِتُونَ أنَّ ”مِن“ تَكُونُ لِلْبَدَلِ. انْتَهى. والَّذِي يَظْهَرُ لِي أنَّهم لَمْ يُرِيدُوا أنَّها مَوْضُوعَةٌ لِلْبَدَلِ، بَلْ إنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْها لِما قَدْ يَلْزَمُها في مِثْلِ هَذِهِ العِبارَةِ مِن تَرْكِ ما بَعْدَها لِما قَبْلَها فَإنَّها لِابْتِداءِ الغايَةِ، فَإذا قُلْتَ: رَضِيتُ بِكَذا مِن زَيْدٍ، كانَ المَعْنى أنَّكَ أخَذْتَ ذَلِكَ أخْذًا مُبْتَدِئًا مِنهُ غَيْرَ مُلْتَفِتٍ إلى ما عَداهُ، فَكَأنَّكَ جَعَلْتَ ذَلِكَ بَدَلَ كُلِّ شَيْءٍ يُقَدَّرُ أنَّهُ يَنالُكَ مِنهُ مِن غَيْرِ ذَلِكَ المَأْخُوذِ. ولَمّا كانُوا قَدْ أُعْطَوُا الآخِرَةَ عَلى الاتِّباعِ فاسْتَبْدَلُوا بِهِ الِامْتِناعَ، كانَ إقْبالُهم عَلى الدُّنْيا كَأنَّهُ مُبْتَدِئٌ مِمّا كانُوا قَدْ تَوَطَّنُوهُ مِنَ الآخِرَةِ مَعَ الإعْراضِ عَنْها، فَكَأنَّهُ قِيلَ: أرَضِيتُمْ بِالمَيْلِ إلى الدُّنْيا مِنَ الآخِرَةِ؟ ويُؤَيِّدُ ما فَهِمْتُهُ أنَّ العَلّامَةَ عَلَمَ الدِّينِ أبا مُحَمَّدٍ القاسِمَ بْنَ المُوَفَّقِ الأنْدَلُسِيَّ ذَكَرَ في شَرْحِ الجَزُولِيَّةِ (p-٤٧١)أنَّهم عَدُّوا لِ: ”مِن“ خَمْسَةَ مَعانٍ كُلُّها تَرْجِعُ إلى ابْتِداءِ الغايَةِ عِنْدَ المُحَقِّقِينَ، وبَيَّنَ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ حَتّى البَيانِيَّةِ، فَمَعْنى ﴿فاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثانِ﴾ [الحج: ٣٠] الَّذِي ابْتِداؤُهُ مِنَ الأوْثانِ؛ لِأنَّ الرِّجْسَ جامِعٌ لِلْأوْثانِ وغَيْرِها. ولَمّا كانَ الِاسْتِفْهامُ إنْكارِيًّا كانَ مَعْناهُ النَّهْيَ، فَكانَ تَقْدِيرُ: لا تَرْضَوْا بِها فَإنَّ ذَلِكَ أسْفَهُ رَأْيٍ وأفْسَدُهُ! فَقالَ تَعالى مُعَلِّلًا لِهَذا النَّهْيِ: ﴿فَما﴾ أيْ: بِسَبَبِ أنَّهُ ما ﴿مَتاعُ الحَياةِ الدُّنْيا فِي﴾ أيْ: مَغْمُورًا في جَنْبِ ﴿الآخِرَةِ إلا قَلِيلٌ﴾ والَّذِي يُنْدَبُ هُمُ المَتْجَرُ ويَدَّعِي البَصَرَ بِهِ ويُحاذِرُ الخَلَلَ فِيهِ يُعَدُّ فاعِلُ ذَلِكَ سَفِيهًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب