الباحث القرآني
ولَمّا نَفى أيْمانَهم بِنَفْيِ إيمانِهِمْ، شَرَعَ يُقِيمُ الدَّلِيلَ عَلى ذَلِكَ بِأُمُورٍ ارْتَكَبُوها، كُلٌّ مِنها بِسَبَبٍ باعِثٍ عَلى الإقْدامِ عَلَيْهِمْ، ويَحُثُّ عَلى قِتالِهِمْ في صُورَةِ تَعْجِيبٍ مِمَّنْ يَتَوانى فِيهِ فَقالَ: ﴿ألا﴾ وهو حَرْفُ عَرْضٍ، ومَعْناهُ هُنا الحَضُّ لِدُخُولِ هَمْزَةِ الإنْكارِ عَلى النّافِي فَنَفَتْهُ فَصارَ مَدْخُولُها مُثْبَتًا عَلى سَبِيلِ الحَثِّ عَلَيْهِ فَهو أبْلَغُ مِمّا لَوْ أُثْبِتَ بِغَيْرِ هَذا الأُسْلُوبِ ﴿تُقاتِلُونَ قَوْمًا﴾ أيْ: وإنْ كانُوا ذَوِي مَنَعَةٍ عَظِيمَةٍ ﴿نَكَثُوا أيْمانَهُمْ﴾ أيْ: في قِصَّةِ عاصِمٍ وأصْحابِهِ والمُنْذِرِ وأصْحابِهِ والإعانَةِ عَلى خُزاعَةَ وغَيْرِ ذَلِكَ، (p-٣٩٣)فَكانَ النَّكْثُ لَهم عادَةً وخُلُقًا، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ قِتالَ النّاكِثِينَ أوْلى مِن قِتالِ غَيْرِهِمْ لِيَكُونَ ذَلِكَ زاجِرًا عَنِ النَّقْضِ، وكانَتْ قِصَّةُ خُزاعَةَ أنَّهُ كانَ بَيْنَهم وبَيْنَ بَنِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَناةَ بْنِ كِنانَةَ قَتْلٌ في الجاهِلِيَّةِ، وكانَتْ خُزاعَةُ قَدْ دَخَلَتْ في عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ بِالحُدَيْبِيَةِ لِما كانَ لَهم فِيهِ مِنَ المَحَبَّةِ مِن مُسْلِمِهِمْ وكافِرِهِمْ لِما بَيْنَهم مِنَ الحِلْفِ - كَما تَقَدَّمَ آخِرَ الأنْفالِ، ودَخَلَتْ بَنُو بَكْرٍ في عَهْدِ قُرَيْشٍ فَمَرَّتْ عَلى ذَلِكَ مُدَّةٌ، ثُمَّ إنَّ أنَسَ بْنَ زَنِيمٍ الدِّيلِيَّ هَجا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَسَمِعَهُ غُلامٌ مِن خُزاعَةَ فَوَقَعَ بِهِ فَشَجَّهُ فَخَرَجَ إلى قَوْمِهِ فَأراهم شَجَّتْهُ فَثارَ الشَّرُّ مَعَ ما كانَ بَيْنَهُمْ، وما تَطْلُبُ بَنُو بَكْرٍ مِن خُزاعَةَ مِن دِمائِها، فَكَلَّمَتْ بَنُو نُفاثَةَ مِن بَنِي بَكْرٍ أشْرافِ قُرَيْشٍ فَوَجَدُوا القَوْمَ إلى ذَلِكَ سِراعًا فَأعانُوهم بِالسِّلاحِ والكُراعِ والرِّجالِ، فَخَرَجَ نَوْفَلُ بْنُ مُعاوِيَةَ الدِّيلِيُّ وهو يَوْمَئِذٍ قائِدُهُمْ؛ قالَ ابْنُ إسْحاقَ: ولَيْسَ كُلُّ بَنِي بَكْرٍ بايَعَهُ - وقالَ الواقِدِيُّ: واعْتَزَلَتْ بَنُو مُدْلِجٍ فَلَمْ يَنْقَضُوا العَهْدَ - حَتّى بَيْتُ خُزاعَةَ وهم عَلى الوَتِيرِ ماءٍ لَهُمْ، فَأصابُوا مِنهم رَجُلًا وتَجاوَزُوا واقْتَتَلُوا وقاتَلَ مَعَهم (p-٣٩٤)مِن قُرَيْشٍ مَن قاتَلَ بِاللَّيْلِ مُسْتَخْفِيًا مُتَنَكِّرِينَ مُنْتَقِبِينَ: صَفْوانُ بْنُ أُمَيَّةَ ومِكْرَزُ بْنُ حَفْصِ بْنِ الأخْيَفِ وحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ العُزّى وعِكْرِمَةُ بْنُ أبِي جَهْلٍ وأجْلَبُوا مَعَهم أرِقّاءَهُمْ، وكانَتْ خُزاعَةُ آمِنَةً لِمَكانِ العَهْدِ والمُوادَعَةِ.
ولَمّا ذَكَّرَهم بِمُطْلَقِ نَكْثِهِمْ في حَقِّهِمْ عامَّةً، وذَكَّرَهم بِما خَصُّوا بِهِ سَيِّدَهم بَلْ سَيِّدَ الخَلْقِ كُلِّهِمْ فَقالَ: ﴿وهَمُّوا بِإخْراجِ الرَّسُولِ﴾ أيْ: مِن مَكَّةَ في عُمْرَةِ القَضاءِ، بَلْ أمَرُوهُ بِالخُرُوجِ عِنْدَ انْقِضاءِ الثَّلاثَةِ الأيّامِ وألَحُّوا في ذَلِكَ وهو وإنْ كانَ قاضاهم عَلى ذَلِكَ، لَكِنْ قَدْ نَقَلَ ابْنُ إسْحاقَ وغَيْرُهُ في قِصَّةِ النِّداءِ بِسُورَةِ بَراءَةَ أنَّهُ كانَ في القَضِيَّةِ والعَهْدِ الَّذِي كانَ بَيْنَهُ وبَيْنَهم أنْ لا يُمْنَعَ مِنَ البَيْتِ أحَدٌ جاءَهُ زائِرًا، ولَعَلَّهم هَمُّوا بِإخْراجِهِ قَبْلَ الثَّلاثَةِ الأيّامِ لِما داخَلَهم مِنَ الحَسَدِ عِنْدَما عايَنُوا مِن نَشاطِ أصْحابِهِ وكَثْرَتِهِمْ وحُسْنِ حالِهِمْ، وذَلِكَ غَيْرُ بَعِيدٍ مِن أفْعالِهِمْ، وإظْهارِهِمُ التَّبَرُّؤَ بِهِ ﷺ حَتّى اجْتَرَؤُوا - وهو أعْلى الخَلْقِ مِقْدارًا، وأظْهَرُهم هَيْئَةً وأنْوارًا وأطْهَرُهم رُسُومًا وآثارًا - عَلى الإلْحاحِ عَلَيْهِ في الخُرُوجِ مِن بَلَدِ آبائِهِ وأجْدادِهِ الَّذِينَ هم أحَقُّهم بِها ومَسْقَطُ رَأْسِهِ ومَوْضِعُ مَرْباهُ، ولَكِنْ لَمْ أراهُ مُصَرِّحًا بِهِ، وهو عِنْدِي عَلى ما فِيهِ أوْلى مِمّا ذَكَرُوهُ مِنَ الهَمِّ بِإخْراجِهِ عِنْدَ الهِجْرَةِ عَلى ما لا يَخْفى، أوْ يَكُونُ (p-٣٩٥)المُرادُ ما هَمَّ بِهِ ابْنُ أُبَيٍّ المُنافِقُ ومَن تابَعَهُ مِن أصْحابِهِ مِن إخْراجِ النَّبِيِّ ﷺ مِنَ المَدِينَةِ حَيْثُ قالَ في غَزْوَةِ المُرَيْسِيعِ: ﴿لَئِنْ رَجَعْنا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنها الأذَلَّ﴾ [المنافقون: ٨] بَعْدَ إعْطائِهِمُ العُهُودَ عَلى الإيواءِ والنُّصْرَةِ والإسْلامِ، وذَلِكَ لِتَذْكِيرِ المُؤْمِنِينَ بِمُسارَعَتِهِمْ إلى النَّقْضِ بَعْدَ أنْ أثْبَتَ أنَّهم في الِالتِحامِ في كَيْدِ الإسْلامِ كالجَسَدِ الواحِدِ، فَكَأنَّهُ يَقُولُ: إذا تَرَكَ هَؤُلاءِ إيمانَهم فَأُولَئِكَ أحْرى أنْ يَنْقُضُوا أيْمانَهُمْ، وهو بَعْثٌ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلى التَّبَرُّؤِ مِنَ الكافِرِينَ مُنافِقِينَ كانُوا أوْ مُجاهِرِينَ مُقارِبِينَ أوْ مُباعَدِينَ.
ولَمّا ذَكَرَهم بِالخِيانَةِ عامَّةً وخاصَّةً، أتْبَعَها ما حَقَّقَها بِالقِتالِ فَقالَ: ﴿وهم بَدَءُوكُمْ﴾ أيْ: بِتَطابُقٍ مِن ضَمائِرِهِمْ وظَواهِرِهِمْ ﴿أوَّلَ مَرَّةٍ﴾ أيْ: بِالقِتالِ والصَّدِّ في الحُدَيْبِيَةِ بَعْدَ إخْبارِكم إيّاهم بِأنَّكم لَمْ تَجِيئُوا لِلْقِتالِ وأنَّكم ما جِئْتُمْ إلّا زُوّارًا لِلْبَيْتِ الحَرامِ الَّذِي النّاسُ فِيهِ سَواءٌ وأنْتُمْ أحَقُّ بِهِ مِنهُمْ، وذَلِكَ أوَّلُ بِالنِّسْبَةِ إلى هَذا الثّانِي مِثْلَ قَوْلِهِ: ﴿إنَّكم رَضِيتُمْ بِالقُعُودِ أوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [التوبة: ٨٣] وقالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: المُرادُ بِأوَّلِ مَرَّةٍ قِتالُهم خُزاعَةَ، وهو واضِحٌ لِأنَّهُ بَعْدَ عَقْدِ الصُّلْحِ، وقِيلَ: في بَدْرٍ بَعْدَ ما سَلِمَتْ عِيرُهم وقالُوا: لا نَرْجِعُ حَتّى نَسْتَأْصِلَ مُحَمَّدًا وأصْحابَهُ، وقِيلَ: المُرادُ بِهِ مُطْلَقُ القِتالِ؛ لِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ جاءَهم بِالكِتابِ المُنِيرِ ودَعاهم بِغايَةِ اللِّينِ، وتَحَدّاهم بِهِ عِنْدَ التَّكْذِيبِ، فَعَدَلُوا عَنْ ذَلِكَ إلى القِتالِ فَهم (p-٣٩٦)البادِئُونَ والبادِئُ أظْلَمُ.
ولَمّا أمَرَهم بِالقِتالِ وكانَ مَكْرُها إلى النُّفُوسِ عَلى كُلِّ حالٍ شَرَعَ يُبَيِّنُ الأسْبابَ الحامِلَةَ عَلى التَّوانِي عَنْ قِتالِهِمْ، وحَصَرَها في الخَشْيَةِ والعاطِفَةِ، وقَسَّمَ العاطِفَةَ إلى ما سَبَبُهُ القُرْبُ في مَحاسِنِ الأفْعالِ وإلى ما سَبَبُهُ القُرْبُ في النَّسَبِ والصِّهْرِ، ونَقْضِ الكُلِّ وبَيَّنَ أنَّهُ لا شَيْءَ مِنها يَصْلُحُ لِلسَّبَبِيَّةِ، فَقالَ بادِئًا بِالخَشْيَةِ لِأنَّها السَّبَبُ الأعْظَمُ في تَرْكِ المُصادَمَةِ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ مُوَبِّخًا لَهم لِيَكُونَ أبْلَغَ في الحَثِّ عَلى قِتالِهِمْ مُنَبِّهًا عَلى أنَّ التَّوانِيَ عَنْهم مُصَحِّحٌ لِلْوَصْفِ بِالجُبْنِ ورَقَةِ الدِّينِ: ﴿أتَخْشَوْنَهُمْ﴾ أيْ: أتَخافُونَ أنْ يَظْفَرُوا بِكم في القِتالِ بِأنْ يَكُونُوا عَلى باطِلِهِمْ أشَدَّ مِنكم عَلى حَقِّكم ﴿فاللَّهُ﴾ أيِ: الَّذِي لَهُ مَجامِعُ العَظَمَةِ ﴿أحَقُّ﴾ أيْ: مِنهم ﴿أنْ تَخْشَوْهُ﴾ أيْ: بِأنْ يَكُونَ مَخْشِيًّا لَكم لِما تَعْلَمُونَ مِن قُدْرَتِهِ في أخْذِهِ لِمَن خالَفَهُ ولَوْ بَعْدَ طُولِ الأناةِ ﴿إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ أيْ: فَإنَّ مَن صَدَّقَ بِأنَّهُ الواحِدُ الَّذِي تَفَرَّدَ بِصِفاتِ العَظَمَةِ لَمْ يَنْظُرْ إلى غَيْرِ هَيْبَتِهِ.
{"ayah":"أَلَا تُقَـٰتِلُونَ قَوۡمࣰا نَّكَثُوۤا۟ أَیۡمَـٰنَهُمۡ وَهَمُّوا۟ بِإِخۡرَاجِ ٱلرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٍۚ أَتَخۡشَوۡنَهُمۡۚ فَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخۡشَوۡهُ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











