الباحث القرآني

ولَمّا ذَكَرَ هَذِهِ السُّورَةَ أيِ الطّائِفَةَ الحاضَّةَ بِصِيغَةِ ”لَوْلا“ عَلى النَّفْرِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الآمِرَةِ بِجِهادِ الكُفّارِ والغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ، وكانَ لا يُحْمَلُ عَلى ذَلِكَ إلّا ما أشارَ إلَيْهِ خَتَمَ الآيَةَ السّالِفَةَ مِنَ التَّقْوى بِتَجْدِيدِ الإيمانِ كُلَّما نَزَلَ شَيْءٌ مِنَ القُرْآنِ، وكانَ قَدْ ذَكَرَ سُبْحانَهُ المُخالِفِينَ لِأمْرِ الجِهادِ بِالتَّخَلُّفِ دُونَ أمْرِ الإيمانِ حِينَ قالَ: ﴿وإذا أُنْـزِلَتْ سُورَةٌ أنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنهم وقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ القاعِدِينَ﴾ [التوبة: ٨٦] التَفَتَ إلى ذَلِكَ لِيَذْكُرَ القِسْمَ الآخَرَ وهو القاعِدُ عَنِ الإيمانِ فَقالَ: ﴿وإذا﴾ وأُكِّدَ بِزِيادَةِ النّافِي تَنْبِيهًا عَلى فَضْلِ الإيمانِ (p-٥١)فَقالَ: ”ما“ . ولَمّا كانَ المَنكِيُّ لَهم \ مُطْلَقُ النُّزُولِ، بُنِيَ لِلْمَفْعُولِ قَوْلُهُ: ﴿أُنْـزِلَتْ سُورَةٌ﴾ أيْ قِطْعَةٌ مِنَ القُرْآنِ، أيْ في مَعْنًى مِنَ المَعانِي ﴿فَمِنهُمْ﴾ أيْ مِنَ المُنَزَّلِ إلَيْهِمْ ﴿مَن يَقُولُ﴾ [أيْ] إنْكارًا واسْتِهْزاءً، وهُمُ المُنافِقُونَ ﴿أيُّكُمْ﴾ أيْ أيُّها العِصابَةُ المُنافِقَةُ ﴿زادَتْهُ هَذِهِ إيمانًا﴾ إيهامًا لِأنَّهم مُتَّصِفُونَ بِأصْلِ الإيمانِ؛ لِأنَّ الزِّيادَةَ ضَمُّ الشَّيْءِ إلى غَيْرِهِ مِمّا يُشارِكُهُ في صِفَتِهِ، هَذا ما يُظْهِرُونَ تَسَتُّرًا، وأمّا حَقِيقَةُ حالِهِمْ عِنْدَ أمْثالِهِمْ فالِاسْتِهْزاءُ اسْتِبْعادًا لِكَوْنِها تَزِيدُ أحَدًا في حالِهِ شَيْئًا، وسَبَبُ شَكِّهِمْ واسْتِفْهامِهِمْ أنَّ سامِعِيها انْقَسَمُوا إلى قِسْمَيْنِ: مُؤْمِنِينَ ومُنافِقِينَ، ولِذَلِكَ أجابَ تَعالى بِقَوْلِهِ مُسَبَّبًا عَنْ إنْزالِها: ﴿فَأمّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أيْ أوْقَعُوا الإيمانَ حَقِيقَةً لِصِحَّةِ أمْزِجَةِ قُلُوبِهِمْ ﴿فَزادَتْهُمْ﴾ أيْ تِلْكَ السُّورَةُ ﴿إيمانًا﴾ أيْ بِإيمانِهِمْ بِها إلى ما كانَ لَهم مِنَ الإيمانِ بِغَيْرِها وبِتَدَبُّرِها ورِقَّةِ القُلُوبِ بِها وفَهْمِ ما فِيها مِنَ المَعارِفِ المُوجِبَةِ لِطُمَأْنِينَةِ القُلُوبِ وثَلْجِ الصُّدُورِ. ولَمّا كانَ المُرادُ بِالإيمانِ الحَقِيقَةُ وكانَتِ الزِّيادَةُ مُفْهِمَةً لِمَزِيدٍ عَلَيْهِ، اسْتَغْنى عَنْ أنْ يَقُولَ: إلى إيمانِهِمْ، لِذَلِكَ ولِدَلالَةِ ”الَّذِينَ آمَنُوا“عَلَيْهِ. ﴿وهم يَسْتَبْشِرُونَ﴾ أيْ: يَحْصُلُ لَهُمُ البِشْرُ بِما زادَتْهم مِنَ الخَيْرِ الباقِي الَّذِي لا يَعْدِلُهُ شَيْءٌ ﴿وأمّا الَّذِينَ﴾ وبَيَّنَ أنَّ أشْرَفَ ما فِيهِمْ مَسْكَنُ الآفَةِ فَقالَ: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ فَمَنعَهُمُ الإيمانُ وأثْبَتَ لَهُمُ الكُفْرانَ فَلَمْ يُؤْمِنُوا. (p-٥٢)ولَمّا كانَ المُرادُ بِالمَرَضِ الفَسادَ المَعْنَوِيَّ المُؤَدِّيَ إلى خُبْثِ العَقِيدَةِ عَبَّرَ عَنْهُ بِالرِّجْسِ فَقالَ: ﴿فَزادَتْهم رِجْسًا﴾ أيِ اضْطِرابًا مُوجِبًا لِلشَّكِّ، وزادَ الأمْرَ بَيانًا بِأنَّ المُرادَ المَجازُ بِقَوْلِهِ: ﴿إلى رِجْسِهِمْ﴾ أيْ شَكِّهِمُ الَّذِي كانَ في غَيْرِها ﴿وماتُوا﴾ أيْ: واسْتَمَرَّ بِهِمْ ذَلِكَ لِتَمَكُّنِهِ عِنْدَهم إلى أنْ ماتُوا ﴿وهم كافِرُونَ﴾ أيْ: عَرِيقُونَ في الكُفْرِ، وسُمِّي الشَّكُّ في الدِّينِ مَرَضًا؛ لِأنَّهُ فَسادٌ في الرُّوحِ يَحْتاجُ [إلى عِلاجٍ] كَفَسادِ البَدَنِ في الِاحْتِياجِ، ومَرَضُ القَلْبِ أعْضَلُ. وعِلاجُهُ أعْسَرُ وأشْكَلُ، ودَواؤُهُ أعَزُّ وأطِبّاؤُهُ أقَلُّ. ولَمّا زادَ الكُفّارَ بِالسُّورَةِ رِجْسًا مِن أجْلِ كُفْرِهِمْ بِها، كانَتْ [كَأنَّها] هي الَّتِي زادَتْهُمْ، وحَسُنَ وصْفُها بِذَلِكَ كَما حَسُنَ: كَفى بِالسَّلامَةِ داءً، وكَما قالَ الشّاعِرُ: ؎أرى بَصَرِي قَدْ رابَنِي بَعْدَ نُصْحِهِ وحَسْبُكَ داءً أنْ تَصِحَّ وتَسْلَما قالَهُ الرُّمّانِيُّ، فالمُؤْمِنُونَ يُخْبِرُونَ عَنْ زِيادَةِ إيمانِهِمْ وهَؤُلاءِ يُخْبِرُونَ عَنْ عَدَمِهِ في وِجْدانِهِمْ، فَهَذا مُوجِبُ شَكِّهِمْ وتَمادِيهِمْ في غَيِّهِمْ وإفْكِهِمْ، ولَوْ أنَّهم رَجَعُوا إلى حاكِمِ العَقْلِ لِأزالَ شَكَّهم وعَرَّفَهم صِدْقَ المُؤْمِنِينَ بِالفَرْقِ بَيْنَ حالَتَيْهِمْ، فَإنَّ ظُهُورَ الثَّمَراتِ مُزِيلٌ لِلشُّبُهاتِ، والآيَةُ مِنَ الِاحْتِباكِ: إثْباتُ الإيمانِ أوَّلًا دَلِيلٌ عَلى حَذْفِ ضِدِّهِ ثانِيًا، وإثْباتُ المَرَضِ ثانِيًا دَلِيلٌ عَلى حَذْفِ الصِّحَّةِ أوَّلًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب