الباحث القرآني

ولَمّا كانَ ما نالَهم مِنَ الأهْوالِ إنَّما نالَهم بِتَخَلُّفِهِمْ عَنْ أشْرَفِ الخَلْقِ، والَّذِي التَفَتَ بِهِمْ إلى مَرابِعِ الإقْبالِ إنَّما هو الصِّدْقُ، قالَ تَعالى ناهِيًا بِصِيغَةِ الخَبَرِ لِيَكُونَ أبْلَغَ، جامِعًا إلَيْهِمْ مَن كانَ عَلى مِثْلِ حالِهِمْ في مُطْلَقِ التَّخَلُّفِ: ﴿ما كانَ﴾ أيْ: ما صَحَّ وما انْبَغى بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ ﴿لأهْلِ المَدِينَةِ﴾ أيِ الَّتِي هي سَكَنُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وهي دارُ الهِجْرَةِ ومَعْدِنُ النُّصْرَةِ ﴿ومَن حَوْلَهُمْ﴾ أيْ: في جَمِيعِ نَواحِي المَدِينَةِ الشَّرِيفَةِ ﴿مِنَ الأعْرابِ﴾ أيْ مِن سُكّانِ البَوادِي الَّذِينَ أقْسَمُوا بِالإسْلامِ ﴿أنْ يَتَخَلَّفُوا﴾ أيْ في أمْرٍ مِنَ الأُمُورِ ﴿عَنْ رَسُولِ اللَّهِ﴾ (p-٤٤)أيِ المَلِكِ الأعْلى، ومِن شَأْنِ المُرْسَلِ إلَيْهِ أنْ لا يَبْرَحَ عَنْ جَنانِ الرَّسُولِ لا سِيَّما وهو رَأْسُ الصّادِقِينَ الَّذِينَ وقَعَ الأمْرُ بِالكَوْنِ مَعَهم ﴿ولا يَرْغَبُوا﴾ أيْ و[ما] كانَ لَهم أنْ يَرْغَبُوا، ولَعَلَّهُ قَلَّلَهم بِصِيغَةِ القِلَّةِ بِالنِّسْبَةِ إلى مَن أيَّدَهُ بِهِ ﷺ مِن جُنُودِهِ فَقالَ تَعالى: ﴿بِأنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ﴾ أيِ الَّتِي هي أشْرَفُ النُّفُوسِ مُطْلَقًا بِأنْ يَصُونُوا نُفُوسَهم عَمّا باشَرَهُ ﷺ بَلْ يُلْقُونَها في المَتالِفِ دُونَهُ وصِيانَةً لِنَفْسِهِ الشَّرِيفَةِ عَنْ أدْنى الأذى، فَهي كالتَّعْلِيلِ لِلْأمْرِ بِالتَّقْوى؛ أيْ: خافُوا اللَّهَ وأصْدِقُوهُ كَما صَدَقَ هَؤُلاءِ "لِيَتُوبَ عَلَيْكم كَما تابَ عَلَيْهِمْ، فَإنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَكُمُ التَّخَلُّفُ فَهو نَهْيٌ بَلِيغٌ مَعَ تَقْبِيحٍ وتَوْبِيخٍ وإلْهابٍ وتَهْيِيجٍ. ولَمّا عَلَّلَ الأمْرَ بِالتَّقْوى عَلَّلَ النَّهْيَ عَنِ التَّخَلُّفِ بِما يَدُلُّ عَلى صِدْقِ الإيمانِ فَيَصِيرُ نَقِيضُهُ دالًّا عَلى نَقِيضِهِ فَقالَ: ﴿ذَلِكَ﴾ أيِ النَّهْيُ العَظِيمُ عَنِ التَّخَلُّفِ في هَذا الأُسْلُوبِ النّافِي لِلْكَوْنِ ﴿بِأنَّهم لا يُصِيبُهم ظَمَأٌ﴾ أيْ عَطَشٌ شَدِيدٌ ﴿ولا نَصَبٌ﴾ أيْ: تَعَبٌ بالِغٌ ﴿ولا مَخْمَصَةٌ﴾ أيْ شِدَّةُ مَجاعَةٍ ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أيْ طُرُقِ دِينِ المَلِكِ الأعْظَمِ المُتَوَصِّلَةِ بِهِ إلى جِهادِ أعْدائِهِ، ورُتِّبَتْ هَذِهِ الأشْياءُ تَرْتِيبَها في الوُجُودِ؛ فَإنَّ مُطْلَقَ الحَرَكَةِ يُهَيِّجُ الحَرارَةَ فَيَنْشَأُ العَطَشُ وتَمادِيَها يُورِثُ التَّعَبَ، والأغْلَبُ (p-٤٥)أنْ يَكُونَ قَبْلَ الجُوعِ. ولَمّا كانَ المَقْصُودُ مِن إجْهادِ النَّفْسِ بِما ذُكِرَ إرْغامَ الكُفّارِ بِاقْتِحامِ أرْضِهِمُ المُتَوَصِّلِ بِهِ إلى إيمانِهِمْ بِالنَّيْلِ مِنهُمْ، أتْبَعَ ذَلِكَ قَوْلَهُ: ﴿ولا يَطَئُونَ مَوْطِئًا﴾ أيْ: وطْأً أوْ مَكانًا وطْؤُهُ ﴿يَغِيظُ الكُفّارَ﴾ أيْ وطْؤُهم لَهُ بِأرْجُلِهِمْ أوْ دَوابِّهِمْ ﴿ولا يَنالُونَ مِن عَدُوٍّ نَيْلا﴾ أيْ: كائِنًا ما كانَ صَغِيرًا أوْ كَبِيرًا ﴿إلا كُتِبَ لَهم بِهِ﴾ أيْ في صَحائِفِ الأعْمالِ، بُنِيَ لِلْمَفْعُولِ لِأنَّ القَصْدَ إثْباتُهُ لا مِن مُعَيَّنٍ ﴿عَمَلٌ صالِحٌ﴾ أيْ تَرَتَّبَ لَهم عَلَيْهِ أجْرُ جَزِيلٌ. ولَمّا كانَ فاعِلُ هَذِهِ الأشْياءِ مُقَدَّمًا عَلى المَعاطِبِ في نَفْسِهِ ومُحَصِّلًا لِعَرْضِ الجِهادِ، أُشِيرَ عَلى وجْهِ التَّأْكِيدِ في جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ إلى أنَّهُ مُحْسِنٌ، أمّا في حَقِّ نَفْسِهِ فَبِإقامَةِ الدَّلِيلِ بِطاعَتِهِ عَلى صِدْقِ إيمانِهِ. وأمّا في غَيْرِهِ مِنَ المُؤْمِنِينَ فَبِحِمايَتِهِمْ عَنْ طَمَعِ الكافِرِينَ. وأمّا في حَقِّ الكُفّارِ فَبِحَمْلِهِمْ عَلى الإيمانِ بِغايَةِ الإمْكانِ، فَقالَ تَعالى مُعَلِّلًا لِلْمُجازاةِ: ﴿إنَّ اللَّهَ﴾ أيِ الَّذِي لَهُ صِفاتُ الكَمالِ ﴿لا يُضِيعُ﴾ أيْ لا يَتْرُكُ تَرْكَهُ ما مِن شَأْنِهِ الإهْمالُ ﴿أجْرَ المُحْسِنِينَ﴾ وأُظْهِرَ مَوْضِعَ الإضْمارِ تَعْمِيمًا وتَعْلِيقًا بِالوَصْفِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب