الباحث القرآني

ولَمّا أنْكَرَ أنْ يَكُونَ لَهم ذَلِكَ، وكانَ الخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ المَأْمُورُ بِالِاقْتِداءِ بِهِ واللُّزُومِ بِمِلَّتِهِ قَدِ اسْتَغْفَرَ لِأبِيهِ، بَيَّنَ أنَّهُ كانَ أيْضًا قَبْلَ العِلْمِ بِما في نَفْسِ الأمْرِ مِنَ اسْتِحْقاقِهِ لِلتَّأْبِيدِ في النّارِ، فَقالَ دالًّا بِواوِ العَطْفِ عَلى أنَّ التَّقْدِيرَ: فَما اسْتَغْفَرَ لَهم بَعْدَ العِلْمِ أحَدٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ: ﴿وما كانَ اسْتِغْفارُ إبْراهِيمَ﴾ أيْ خَلِيلُ اللَّهِ ﴿لأبِيهِ﴾ أيْ بَعْدَ أنْ خالَفَهُ في الدِّينِ ﴿إلا عَنْ مَوْعِدَةٍ﴾ \ أيْ وهي قَوْلُهُ: ﴿لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وما أمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ﴾ [الممتحنة: ٤] وأكَّدَ صُدُورَ (p-٣١)الوَعْدِ بِقَوْلِهِ: ﴿وعَدَها إيّاهُ﴾ أيِ الخَلِيلُ لِأبِيهِ قَبْلَ أنْ يَعْلَمَ أنَّهُ أبْدى الشَّقاوَةَ، وقِيلَ: الضَّمِيرُ لِأبِيهِ، كانَ وعَدَهُ أنَّهُ يُسْلِمُ فاسْتَغْفَرَ لَهُ ظَنًّا مِنهُ أنَّهُ صَدَقَ في وعْدِهِ فَأسْلَمَ، [والَّذِي يَدُلُّ عَلى أنَّهُ كانَ قَبْلَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ قَوْلُهُ]: ﴿فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ﴾ [أيْ بَيانًا شافِيًا قاطِعًا] ﴿أنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ﴾ أيِ المَلِكِ الأعْلى مُؤَبِّدِ العَداوَةِ لَهُ بِمَوْتِهِ عَلى الكُفْرِ أوْ بِالوَحْيِ بِأنَّهُ يَمُوتُ عَلَيْهِ. ﴿تَبَرَّأ﴾ أيْ أكْرَهَ نَفْسَهُ عَلى البَراءَةِ ﴿مِنهُ﴾ ثُمَّ عَلَّلَ ما أفْهَمَتْهُ صِيغَةُ التَّفَعُّلِ مِنَ المُعالَجَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ إبْراهِيمَ لأوّاهٌ﴾ أيْ شَدِيدُ الرِّقَّةِ المُوجِبَةِ لِلتَّأوُّهِ مِن خَوْفِ اللَّهِ ومِنَ الشَّفَقَةِ عَلى العِبادِ؛ قالَ الزَّجّاجُ: والتَّأوُّهُ أنْ يُسْمَعَ لِلصَّدْرِ صَوْتٌ مِن تَنَفُّسِ الصُّعَداءِ ﴿حَلِيمٌ﴾ أيْ شَدِيدُ التَّحَمُّلِ والإغْضاءِ عَنِ المُؤْذِي لَهُ، هَكَذا خَلَقَهُ في حَدِّ ذاتِهِ فَكَيْفَ في حَقِّ أبِيهِ ولَوْ قالَ لَهُ: ﴿لأرْجُمَنَّكَ واهْجُرْنِي﴾ [مريم: ٤٦] وأضْعافَ ذَلِكَ؛ قالَ الإمامُ أبُو مُحَمَّدٍ إسْحاقُ بْنُ إبْراهِيمَ بْنِ إسْماعِيلَ البَسْتِيُّ القاضِي في تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنا حَرْمَلَةُ حَدَّثَنا ابْنُ وهْبٍ أخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ أيُّوبَ بْنِ هانِئٍ عَنْ مَسْرُوقِ بْنِ الأجْدَعِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ««أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ خَرَجَ يَوْمًا وخَرَجْنا مَعَهُ حَتّى انْتَهى إلى المَقابِرِ فَأمَرَنا فَجَلَسْنا ثُمَّ تَخَطّى القُبُورَ حَتّى انْتَهى إلى قَبْرٍ مِنها فَجَلَسَ إلَيْهِ فَناجاهُ طَوِيلًا، ثُمَّ ارْتَفَعَ نَحِيبُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ باكِيًا فَبَكَيْنا لِبُكاءِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ إنَّ (p-٣٢)النَّبِيَّ ﷺ أقْبَلَ إلَيْنا فَتَلَقّاهُ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقالَ: ما الَّذِي أبْكاكَ يا نَبِيَّ اللَّهِ؟ فَقَدْ أبْكانا وأفْزَعَنا، فَأخَذَ بِيَدِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ أقْبَلَ إلَيْنا فَأتَيْناهُ فَقالَ: أفْزَعَكم بُكائِي؟ قُلْنا: نَعَمْ يا رَسُولَ اللَّهِ! قالَ: إنَّ القَبْرَ الَّذِي رَأيْتُمُونِي أُناجِي قَبْرُ آمِنَةَ بِنْتِ وهْبٍ وإنِّي اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي في الِاسْتِغْفارِ لَها فَلَمْ يَأذَنْ لِي ونَزَلَ عَلَيَّ: ﴿ما كانَ لِلنَّبِيِّ والَّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ولَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى﴾ [التوبة: ١١٣] حَتّى خَتَمَ الآيَةَ. ﴿وما كانَ اسْتِغْفارُ إبْراهِيمَ لأبِيهِ إلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وعَدَها إيّاهُ﴾ فَأخَذَنِي ما يَأْخُذُ الوَلَدَ مِنَ الرِّقَّةِ؛ فَذَلِكَ الَّذِي أبْكانِي» - وهَذا سَنَدٌ حَسَنٌ، ولِمُسْلِمٍ وأبِي داوُدَ والنَّسائِيِّ وابْنِ ماجَهْ في الجَنائِزِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: «زارَ النَّبِيُّ ﷺ قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكى وأبْكى مَن حَوْلَهُ وقالَ: «اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي في أنْ أسْتَغْفِرَ لَها فَلَمْ يَأْذَنْ لِي واسْتَأْذَنْتُهُ أنْ أزُورَ قَبْرَها فَأذِنَ لِي، فَزُورُوا القُبُورَ؛ فَإنَّها تُذَكِّرُ المَوْتَ»». ولِلْبُخارِيِّ في التَّفْسِيرِ وغَيْرِهِ عَنِ ابْنِ المُسَيِّبِ عَنْ أبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: «لَمّا حَضَرَتْ أبا طالِبٍ الوَفاةُ دَخَلَ النَّبِيُّ ﷺ وعِنْدَهُ أبُو جَهْلٍ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبِي أُمَيَّةَ. فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: أيْ عَمِّ! قُلْ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، أُحاجُّ لَكَ بِها عِنْدَ اللَّهِ، فَقالَ أبُو جَهْلٍ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ [أبِي] أُمَيَّةَ: يا أبا طالِبٍ ! (p-٣٣)أتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ ؟ - وفي رِوايَةٍ: فَكانَ آخِرُ ما كَلَّمَهم أنْ قالَ: هو عَلى مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ - فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ما لَمْ أُنْهَ عَنْكَ» فَنَزَلَتْ: ﴿ما كانَ لِلنَّبِيِّ والَّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ﴾ [التوبة: ١١٣] الآيَةَ. [وأنْزَلَ اللَّهُ في أبِي طالِبٍ ﴿إنَّكَ لا تَهْدِي مَن أحْبَبْتَ ولَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشاءُ﴾ [القصص: ٥٦] الآيَةَ. -]» . ولَعَلَّهُ اسْتَمَرَّ يَسْتَغْفِرُ لَهُ ما بَيْنَ مَوْتِهِ وغَزْوَةِ تَبُوكَ حَتّى نَزَلَتْ، ورُوِيَ في سَبَبِ نُزُولِها غَيْرُ هَذا أيْضًا، وقَدْ تَقَدَّمَ أنَّهُ يَجُوزُ أنْ تَتَعَدَّدَ الأسْبابُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب