الباحث القرآني
ولَمّا ثَبَتَتِ المُعاقَدَةُ وأحْكامُها، وصَفَ المُعاقَدِينَ عَلى طَرِيقِ المَدْحِ لِلْحَثِّ عَلى أوْصافِهِمْ فَقالَ: ﴿التّائِبُونَ﴾ مُبْتَدِئًا أوْصافَهم بِالتَّوْبَةِ الَّتِي هي أساسُ العَمَلِ الصّالِحِ، ثُمَّ ابْتَدَأ المُؤَسِّسُ بِمُطْلَقِ العِبادَةِ الشّامِلَةِ لِجَمِيعِ أنْواعِ الدِّينِ مِنَ العِلْمِ وغَيْرِهِ فَقالَ: ﴿العابِدُونَ﴾ أيِ الَّذِينَ أقْبَلُوا عَلى العِبادَةِ فَأخْلَصُوها لِلَّهِ؛ ولَمّا كانَ التِزامُ الدِّينِ لا يُعْرَفُ إلّا بِالإقْرارِ بِاللِّسانِ، أتْبَعَ ذَلِكَ الحَمْدَ الَّذِي تَدُورُ مادَّتُهُ عَلى بُلُوغِ الغايَةِ الَّذِي مِن جُمْلَتِهِ الثَّناءُ اللِّسانِيُّ بِالجَمِيلِ الشّامِلِ لِلتَّوْحِيدِ وغَيْرِهِ فَقالَ: ﴿الحامِدُونَ﴾ أيِ المُثْنُونَ عَلَيْهِ سُبْحانَهُ ثَناءً عَظِيمًا، تَطابَقَتْ عَلَيْهِ ألْسِنَتُهم وقُلُوبُهم فَتَبِعَتْهُ آثارُهُ؛ ولَمّا كانَ الإقْرارُ بِاللِّسانِ لا يُقْبَلُ إلّا عِنْدَ مُطابَقَةِ القَلْبِ تَلاهُ بِالسِّياحَةِ الَّتِي تَدُورُ بِكُلِّ تَرْتِيبٍ عَلى الِاتِّساعِ الَّذِي مِنهُ إصْلاحُ القَلْبِ لِيَتَّسِعَ لِلتَّجَرُّدِ عَنْ ضِيقِ المَأْلُوفاتِ إلى فَضاءِ الحَضَراتِ الإلَهِيّاتِ فَقالَ: ﴿السّائِحُونَ﴾ ولَمّا كانَتِ الصَّلاةُ نَتِيجَةَ ذَلِكَ لِكَوْنِها جامِعَةً لِعَمَلِ القَلْبِ واللِّسانِ وغَيْرِهِما مِنَ الأرْكانِ، وهي أعْظَمُ مُوَصِّلٍ إلى بِساطِ الأُنْسِ في حَضَراتِ القُدْسِ وأعْلى مُجَرَّدٍ عَنِ الوُقُوفِ مَعَ المَأْلُوفِ. وكانَ أوَّلُ مَراتِبِ التَّواضُعِ القِيامَ وأوْسَطُها الرُّكُوعَ وغايَتُها السُّجُودَ، وكانَ جَمِيعُ (p-٢٧)أشْكالِ الصَّلاةِ مُوافِقًا لِلْعادَةِ إلّا الرُّكُوعَ والسُّجُودَ، أشارَ إلَيْها بِقَوْلِهِ مُخَصِّصًا لَها بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا عَلى أنَّ المُرادَ مِنَ الصَّلاةِ نِهايَةُ الخُضُوعِ: ﴿الرّاكِعُونَ﴾ فَبَيَّنَ أنَّ تَمامَ هَذِهِ البُشْرى لِهَذِهِ الأُمَّةِ أنَّ صَلاةَ غَيْرِهِمْ لا رُكُوعَ فِيها، وأتَمَّها بِقَوْلِهِ: ﴿السّاجِدُونَ﴾ ولَمّا كانَ النّاصِحُ لِنَفْسِهِ بِتَهْذِيبِ لِسانِهِ وقَلْبِهِ وجَمِيعِ جَوارِحِهِ لا يُقْبَلُ إلّا إذا بَذَلَ الجُهْدَ في نَصِيحَةِ غَيْرِهِ كَما صَرَّحَ بِهِ مِثالُ السَّفَرِ في السَّفِينَةِ لِيَحْصُلَ المَقْصُودُ مِنَ الدِّينِ وهو جَمْعُ الكُلِّ عَلى اللَّهِ المُقْتَضِي لِلتَّعاضُدِ والتَّناصُرِ المُوجِبِ لِدَوامِ العِبادَةِ والنُّصْرَةِ، وبِذَلِكَ يَتَحَقَّقُ التَّجَرُّدُ عَنْ كُلِّ مَأْلُوفٍ مُجانِسٍ وغَيْرِ مُجانِسٍ، أتْبَعَ ذَلِكَ قَوْلَهُ: ﴿الآمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ﴾ أيِ السُّنَّةِ.
ولَمّا كانَ الدِّينُ مَتِينًا فَلَنْ يُشادَّهُ أحَدٌ إلّا غَلَبَهُ، كانَ المُرادُ مِنَ المَأْمُوراتِ مُسَمّاها دُونَ تَمامِها ومُنْتَهاها ««إذا أمَرْتُكم بِأمْرٍ فَأْتُوا مِنهُ ما اسْتَطَعْتُمْ»» والمُرادُ مِنَ المَنهِيّاتِ تَرْكُها كُلِّها، ومِنَ الحُدُودِ الوُقُوفُ عِنْدَها مِن غَيْرِ مُجاوِزَةٍ ««وإذا نَهَيْتُكم عَنْ شَيْءٍ فاجْتَنِبُوهُ»» رَواهُ البُخارِيُّ في الِاعْتِصامِ مِن صَحِيحِهِ ومُسْلِمٌ أيْضًا عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وكانَتِ العَرَبُ - كَما تَقَدَّمَ في البَقَرَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والصَّلاةِ الوُسْطى﴾ [البقرة: ٢٣٨] وفي آلِ عِمْرانَ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿الصّابِرِينَ والصّادِقِينَ﴾ [آل عمران: ١٧] عَنِ الأُسْتاذِ أبِي الحَسَنِ الحَرالِّيِّ - إذا أتْبَعْتَ بَعْضَ الصِّفاتِ بَعْضًا مِن غَيْرِ عَطْفٍ عُلِمَ أنَّها غَيْرُ تامَّةٍ، فَإذا عَطَفْتَها أرَدْتَ التَّمَكُّنَ فِيها والعَراقَةَ والتَّمامَ، فَأعْلَمَ سُبْحانَهُ أنَّ المُرادَ (p-٢٨)فِيما تَقَدَّمَ مِنَ الأوْصافِ الإتْيانُ بِما أمْكَنَ مِنها، فَأتى بِها اتِّباعًا دُونَ عَطْفٍ لِذَلِكَ، وأشارَ إلى أنَّ الأمْرَ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ والوُقُوفَ عِنْدَ الحُدُودِ لا يُقْنَعُ مِنهُ إلّا بِالتَّمامِ لِأنَّ المُقَصِّرَ في شَيْءٍ مِن ذَلِكَ إمّا راضٍ بِهَدْمِ الدِّينِ وإمّا هادِمٌ بِنَفْسِهِ، فَيَجِبُ التَّجَرُّدُ التّامُّ [فِيهِ] لِأنَّ النَّهْيَ أصْعَبُ أقْسامِ العِبادَةِ؛ لِأنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالغَيْرِ وهو مُثِيرٌ لِلْغَضَبِ مُوجَبٌ لِلْحَمِيَّةِ وظُهُورِ الخُصُومَةِ، فَرُبَّما كانَ عَنْهُ ضَرْبٌ وقَتْلٌ؛ فَلِذَلِكَ عَطَفَها ولَمْ يُتْبِعْها فَقالَ: ﴿والنّاهُونَ﴾ أيْ بِغايَةِ الجِدِّ ﴿عَنِ المُنْكَرِ﴾ أيِ البِدْعَةِ. ولَمّا كانَ فاعِلُ الخَيْرِ لا يَنْفَعُهُ فِعْلُهُ إلّا بِاسْتِمْرارِهِ عَلَيْهِ إلى المَوْتِ أتْبَعَهُ قَوْلَهُ: ﴿والحافِظُونَ﴾ أيْ بِغايَةِ العَزْمِ والقُوَّةِ ﴿لِحُدُودِ اللَّهِ﴾ أيِ المَلِكِ الأعْظَمِ الَّتِي حَدَّها في هَذا الشَّرْعِ القَيِّمِ فَلَمْ يَتَجاوَزُوا شَيْئًا مِنها، فَخَتَمَ بِما بِهِ بَدَأ \ مَعَ قَيْدِ الدَّوامِ بِالرَّعْيِ والقُوَّةِ، والحاصِلُ أنَّ الوَصْفَ الأوَّلَ لِلتَّجَرُّدِ عَنْ رِبْقَةِ مَأْلُوفٍ خاصٍّ وهو شِرْكُ المَعْصِيَةِ بِشِرْكِهِ أوْ غَيْرِهِ، والثّانِي لِلتَّجَرُّدِ عَنْ قُيُودِ العاداتِ إلى قَضاءِ العِباداتِ، والثّالِثُ لِبُلُوغِ الغايَةِ في تَهْذِيبِ الظّاهِرِ.
والرّابِعُ لِلتَّوَسُّعِ إلى التَّجَرُّدِ عَنْ قُيُودِ الباطِنِ، والخامِسُ والسّادِسُ لِلْجَمْعِ بَيْنَ كَمالِ الباطِنِ والظّاهِرِ، والسّابِعُ لِلسَّيْرِ إلى إفاضَةِ ذَلِكَ عَلى الغَيْرِ، والثّامِنُ: لِلدَّوامِ عَلى تِلْكَ الحُدُودِ بِتَرْكِ جَمِيعِ القُيُودِ. فَمَقْصُودُ الآيَةِ العُرُوجُ مِنَ الحَضِيضِ الجُسْمانِيِّ إلى الشَّرَفِ الرُّوحانِيِّ؛ ثُمَّ أمْرُهُ ﷺ بِتَبْشِيرِ المُتَخَلِّقِ بِهَذِهِ الأوْصافِ عاطِفًا لِأمْرِهِ بِهِ (p-٢٩)عَلى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ - واللَّهُ أعْلَمُ: فَأنْذِرْ مَن تَخَلّى مِنها بِكُلِّ ما يَسُوءُهُ بَعْدَ سَجْنِهِ في دارِ الشَّقاوَةِ فَإنَّهُ كافِرٌ وبَشِّرْهُمْ، أيْ هَؤُلاءِ المَوْصُوفِينَ، هَكَذا كانَ الأصْلُ الإضْمارَ، ولَكِنَّهُ أُظْهِرَ خِتامًا بِما بِهِ بَدَأ وتَعْلِيقًا بِالوَصْفِ وتَعْمِيمًا فَقالَ: ﴿وبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ﴾ أيِ المُتَخَلِّقِينَ بِها بِكُلِّ ما يَسُرُّهم بَعْدَ تَخْصِيصِهِمْ بِدارِ السَّعادَةِ، وفي خَتْمِ الآيَتَيْنِ بِالبِشارَةِ تارَةً مِنَ الخالِقِ وتارَةً مِن أكْمَلِ الخَلائِقِ أعْظَمَ مَزِيَّةً لِلْمُؤْمِنِينَ، وفي جَعْلِ الأُولى مِنَ اللَّهِ أعْظَمَ تَرْغِيبٍ في الجِهادِ وأعْلى حَثٍّ عَلى خَوْضِ غَمَراتِ الجِلادِ، وفي ابْتِداءِ الآيَتَيْنِ بِالوَصْفِ المُشْعِرِ بِالرُّسُوخِ في الإيمانِ الَّذِي هو الوَصْفُ المُتَمِّمُ لِلْعَشْرِ، وخَتَمَهُما بِمِثْلِهِ إشارَةً إلى أنَّ هَذِهِ مائِدَةٌ لا يُخْلَسُ عَلَيْها طُفَيْلِيٌّ، وأنَّ مَن عَدا الرّاسِخِينَ في دَرَجَةِ الإهْمالِ لا كَلامَ مَعَهم ولا التِفاتَ بِوَجْهٍ إلَيْهِمْ.
{"ayah":"ٱلتَّـٰۤىِٕبُونَ ٱلۡعَـٰبِدُونَ ٱلۡحَـٰمِدُونَ ٱلسَّـٰۤىِٕحُونَ ٱلرَّ ٰكِعُونَ ٱلسَّـٰجِدُونَ ٱلۡـَٔامِرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡحَـٰفِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق