الباحث القرآني

ولَمّا اسْتَوْفى الأقْسامَ الأرْبَعَةَ: قِسْمَيِ الحَضَرِ وقِسْمَيِ البَدْوِ ثُمَّ خَلَطَ بَيْنَ قِسْمَيْنِ مِنهم تَشْرِيفًا لِلسّابِقِ وتَرْغِيبًا لِلّاحِقِ. خَلَطَ بَيْنَ الجَمِيعِ عَلى وجْهٍ آخَرَ ثُمَّ ذَكَرَ مِنهم فِرَقًا مِنهم مَن نَجَزَ الحُكْمَ بِجَزائِهِ بِإصْرارٍ أوْ مَتابٍ. ومِنهم مَن أُخِّرَ أمْرُهُ إلى يَوْمِ الحِسابِ، وابْتَدَأ الأقْسامَ بِالمَسْتُورِ عَنْ غَيْرِ عِلْمِهِ لِيَعْلَمَ أهْلُ ذَلِكَ القِسْمِ أنَّهُ سُبْحانَهُ عالِمٌ بِالخَفايا فَلا يَزالُوا أذِلّاءَ خَوْفًا مِمّا هَدَّدَهم بِهِ فَقالَ مُصَرِّحًا بِما لَمْ يَتَقَدَّمِ التَّصْرِيحُ بِهِ مِن نِفاقِهِمْ: ﴿ومِمَّنْ حَوْلَكُمْ﴾ أيْ حَوْلَ بَلَدِكُمُ المَدِينَةِ ﴿مِنَ الأعْرابِ﴾ أيِ الَّذِينَ قَدَّمْنا أنَّهم أشَدُّ كُفْرًا لِما لَهم مِنَ الجَفاءِ ﴿مُنافِقُونَ﴾ أيْ: راسِخُونَ في النِّفاقِ، وكَأنَّهُ قِدَمُهم لِجَلافَتِهِمْ وعُتُوِّهِمْ، وأتْبَعَهم مَن هو أصْنَعُ مِنهم (p-٩)فِي النِّفاقِ فَقالَ: ﴿ومِن أهْلِ المَدِينَةِ﴾ أيْ مُنافِقُونَ أيْضًا؛ ثُمَّ بَيَّنَ أنَّهم لا يَتُوبُونَ بِوَصْفِهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿مَرَدُوا﴾ أيْ: صُلِبُوا ودامُوا وعَتَوْا وعَسَوْا وعَصَوْا وصارَ لَهم [بِهِ] دُرْبَةٌ عَظِيمَةٌ وضَراوَةٌ حَتّى ذَلَّتْ لَهم فِيهِ جَمِيعُ أعْضائِهِمُ الظّاهِرَةِ والباطِنَةِ وصارَ لَهم خُلُقًا ﴿عَلى النِّفاقِ﴾ أيِ اسْتَعْلَوْا عَلى هَذا الوَصْفِ بِحَيْثُ صارُوا في غايَةِ المُكْنَةِ مِنهُ؛ ثُمَّ بَيَّنَ مَهارَتَهم فِيهِ بِقَوْلِهِ: ﴿لا تَعْلَمُهُمْ﴾ أيْ: بِأعْيانِهِمْ مَعَ ما لَكَ مِن عَظِيمِ الفَطِنَةِ وصِدْقِ الفِراسَةِ لِفَرْطِ تَوَقِّيهِمْ وتَحامِي ما يُشْكِلُ مِن أمْرِهِ؛ ثُمَّ هَدَّدَهم وبَيَّنَ خَسارَتَهم بِقَوْلِهِ: ﴿نَحْنُ﴾ أيْ خاصَّةً ﴿نَعْلَمُهُمْ﴾ [ثُمَّ] اسْتَأْنَفَ جَزاءَهم بِقَوْلِهِ: ﴿سَنُعَذِّبُهُمْ﴾ أيْ بِوَعْدٍ لا خُلْفَ فِيهِ ﴿مَرَّتَيْنِ﴾ أيْ: إحْداهُما بِرُجُوعِكَ سالِمًا وشُفُوفِ أمْرِكِ وعُلُوِّ شَأْنِهِ وضَخامَةِ أرْكانِهِ وعِزِّ سُلْطانِهِ وظُهُورِ بُرْهانِهِ، فَإنَّهم قَطَعُوا لِغَباوَتِهِمْ وجَلافَتِهِمْ وقَساوَتِهِمْ كَما أشَرْتُ إلَيْهِ بِقَوْلِي ﴿ويَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ﴾ [التوبة: ٩٨] - أنَّكَ لا تَرْجِعُ هَذِهِ المَرَّةَ مِن هَذِهِ السَّفْرَةِ لِما يَعْرِفُونَهُ مِن ثَباتِكَ لِلْأقْرانِ، وإقْدامِكَ عَلى اللُّيُوثِ الشُّجْعانِ، واقْتِحامِكَ لِلْأهْوالِ، إذا ضاقَ المَجالُ، ونَكَصَ الضَّراغِمَةُ الأبْطالُ، ومِن عَظَمَةِ الرُّومِ وقُوَّتِهِمْ وتَمَكُّنِهِمْ وكَثْرَتِهِمْ، وغابَ عَنِ الأغْبِياءِ وخَفِيَ عَنِ الأشْقِياءِ الأغْنِياءِ أنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهم أعْظَمُ مِنهم وأكْبَرُ، وجُنُودُهُ أقْوى مِن جُنُودِهِمْ وأكْثَرُ؛ والثّانِيَةُ بَعْدَ وفاتِكَ بِقَهْرِ أهْلِ الرِّدَّةٍ ومَحْقِهِمْ ورُجُوعِ ما أصَّلْتَهُ بِخَلِيفَتِكَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلى (p-١٠)ما كانَ عَلَيْهِ في أيّامِكَ مِنَ الظُّهُورِ وانْتِشارِ الضِّياءِ والنُّورِ والحُكْمِ عَلى مَن خالَفَهُ بِالوَيْلِ والثُّبُورِ، وسَيَأْتِي أنَّهُ يُمْكِنُ أنْ تَكُونَ المَرَّةُ الثّانِيَةُ إخْرابَ مَسْجِدِ الضِّرارِ والإخْبارُ بِما أضْمَرُوا في شَأْنِهِ مِن خَفِيِّ الأسْرارِ ﴿ثُمَّ يُرَدُّونَ﴾ أيْ: بَعْدَ المَوْتِ ﴿إلى عَذابٍ عَظِيمٍ﴾ أيْ: لا يَعْلَمُ عَظَمَةَ حَقِّ عِلْمِهِ إلّا اللَّهُ تَعالى، وهو العَذابُ الأكْبَرُ الدّائِمُ الَّذِي لا يَنْفَكُّ أصْلًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب