الباحث القرآني
(p-٣٥٠)(سُورَةُ التَّوْبَةِ)
مَقْصُودُها مُعاداةُ مَن أعْرَضَ عَمّا دَعَتْ إلَيْهِ السُّورَةُ الماضِيَةُ مِنَ اتِّباعِ الدّاعِي إلى اللَّهِ في تَوْحِيدِهِ واتِّباعُ ما يُرْضِيهِ، ومُوالاةُ مَن أقْبَلَ عَلَيْهِ، وأدُلُّ ما فِيها عَلى الإبْلاغِ في هَذا المَقْصِدِ قِصَّةُ المُخَلَّفِينَ فَإنَّهم - لِاعْتِرافِهِمْ بِالتَّخَلُّفِ عَنِ الدّاعِي بِغَيْرِ عُذْرٍ في غَزْوَةِ تَبُوكَ المُحْتَمَلِ عَلى وجْهٍ بَعِيدٍ مِنهم رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم لِلْإعْراضِ بِالقَلْبِ - هُجِرُوا، وأُعْرِضَ عَنْهم بِكُلِّ اعْتِبارٍ حَتّى بِالكَلامِ، فَذَلِكَ مَعْنى تَسْمِيَتِها بِالتَّوْبَةِ، وهو يَدُلُّ عَلى البَراءَةِ لِأنَّ البَراءَةَ مِنهم بِهِجْرانِهِمْ حَتّى في رَدِّ السَّلامِ، كانَ سَبَبَ التَّوْبَةِ، فَهو مِن إطْلاقِ المُسَبِّبِ عَلى السَّبَبِ، وتَسْمِيَتُها بَراءَةَ واضِحٌ أيْضًا فِيما ذُكِرَ مِن مَقْصُودِها، وكَذا الفاضِحَةُ؛ لِأنَّ مَنِ افْتُضِحَ كانَ أهْلًا لِلْبَراءَةِ مِنهُ، والبُحُوثِ لِأنَّهُ لا يُبْحَثُ إلّا عَنْ حالِ البَغِيضِ، والمُبَعْثِرَةُ هو المُنَفِّرَةُ والمُثَبِّرَةُ والحَفّارَةُ والمُخْزِيَةُ والمُهْلِكَةُ والمُشَرِّدَةُ والمُدَمْدِمَةُ والمُنَكِّلَةُ؛ لِأنَّهُ لا يُبَعْثَرُ إلّا حالُ العَدُوِّ وكَذا بَعْدَهُ، والمُشَرِّدَةُ عَظِيمَةُ المُناسَبَةِ مَعَ ذَلِكَ لِما أشارَتْ إلَيْهِ الأنْفالُ فِي: ﴿فَشَرِّدْ بِهِمْ مَن خَلْفَهُمْ﴾ [الأنفال: ٥٧] وسُورَةُ العَذابِ أيْضًا واضِحَةٌ في مَقْصُودِها، وكَذا المُقَشْقِشَةُ لِأنَّهم قالُوا: إنَّ مَعْناهُ (p-٣٥١)المُبَرِّئَةُ مِنَ النِّفاقِ، مِن تَقَشْقَشَتْ قُرُوحُهُ، إذا تَقَشَّرَتْ لِلْبُرْءِ، وتَوْجِيهُهُ أنَّ مَن عَرَفَ أنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنهُ ورَسُولُهُ والمُؤْمِنُونَ لِأمْرٍ فَهو جَدِيرٌ بِأنْ يَرْجِعَ عَنْ ذَلِكَ الأمْرِ، وعِنْدِي أيْضًا أنَّهُ مُضاعَفُ القَشِّ الَّذِي مَعْناهُ الجَمْعُ؛ لِأنَّها جَمَعَتْ أصْنافَ المُنافِقِينَ وأحْوالَهم وعَلَيْهِ خَرَجَ ما في وصْفِ أبِي جَهْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ لِمَن أرادَ نِكاحَها: أخافُ عَلَيْكَ قَشْقاشَتَهُ، أيْ: تَتَبُّعَهُ لِمَذاقِ الأُمُورِ، أخْذًا مِنَ القَشِّ الَّذِي هو تَطَلُّبُ المَأْكُولِ مِن هَهُنا وهَهُنا، أوْ عَصاهُ الَّتِي هي غايَةُ ذَلِكَ، ومادَّةُ قَشَّ ومَقْلُوبُها شَقَّ ومُضاعَفُهُما قَشْقَشَ وشَقْشَقَ تَدُورُ عَلى الجَمْعِ وتُلازِمُهُ الفُرْقَةُ؛ فَإنَّهُ لا يَجْتَمِعُ إلّا ما كانَ مُفَرَّقًا ولا يُفَرَّقُ إلّا ما كانَ مُجْتَمِعًا، وقَدِ اقْتَسَمَ هَذانِ المِثالانِ المَعْنِيَّيْنِ إلّا قَلِيلًا، فَقَشَّ القَوْمُ: صَلَحُوا وأُحْيُوا بَعْدَ الهُزالِ بِجْمَعِ اللَّحْمِ، والرَّجُلُ: أكَلَ مِن هَهُنا وهَهُنا ولَفَّ ما قَدَرَ عَلَيْهِ مِمّا عَلى الخِوانِ، واضِحٌ في ذَلِكَ، وأقْشَوْا وانْقَشُّوا - إذا انْطَلَقُوا فَجَفَلُوا ومَرُّوا ذاهِبِينَ - وقَدِ انْقَشُّوا إذا مَرُّوا وذَهَبُوا مُسْرِعِينَ لِاجْتِماعِهِمْ في ذَلِكَ وجَمْعِهِمْ ما قَدَرُوا عَلَيْهِ مِن مَتاعِهِمْ، والقَشُّ والإقْشاشُ: طَلَبُ المَأْكُولِ مِن هَهُنا وهَهُنا لِجَمْعِهِ، والقِشَّةُ - بِالكَسْرِ: القِرَدَةُ كَأنَّها لِجَمْعِها ما رَأتْ مِمّا يُؤْكَلُ في فِيها، والصَّبِيَّةُ الصَّغِيرَةِ الجُثَّةِ الَّتِي لا تَكادُ تَثْبُتُ كَأنَّها (p-٣٥٢)لِاجْتِماعِها في نَفْسِها، وكَذا القَشِيشُ: الصَّغِيرُ مِنَ الصِّبْيانِ، ودُوَيِّبَةٌ كالجُعَلِ إمّا لِاجْتِماعِها في نَفْسِها أوْ لِجَمْعِها القاذُوراتِ، والقَشِيشُ كَأمِيرٍ: اللُّقاطَةُ؛ لِأنَّها يَجْمَعُها اللَّقّاطُونَ، وصَوْتُ جِلْدِ الحَيَّةِ يُحَكُّ بَعْضُها بِبَعْضٍ؛ لِأنَّهُ لا يَكُونُ إلّا عِنْدَ التَّثَنِّي والتَّجَمُّعِ، وقَشَّ مِنَ الجُدَرِيِّ: بَرِئَ مِنهُ كَتَقَشْقَشَ يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ مِنَ الفُرْقَةِ لِأنَّهُ فارَقَهُ، ومِنَ الجَمْعِ لِأنَّ البُرْءَ جَمَعَهُ كُلَّهُ فَأزالُهُ، ويُمْكِنُ أنْ تَكُونَ هَمْزَتُهُ لِلْإزالَةِ، وتَقَشَّشَتِ القُرُوحُ وتَقَشْقَشَتْ - إذا تَقَشَّرَتْ لِلْبُرْءِ، إمّا مِنَ الجَمْعِ لِاجْتِماعِ القُوى لِلصِّحَّةِ، وإمّا مِنَ الفُرْقَةِ والزَّوالِ، وكَذا تَقَشْقَشَ البَعِيرُ - إذا بَرِئَ مِنَ الجَرَبِ، ويُقالُ: قَشَّشَهم بِكَلامِهِ - إذا تَكَلَّمَ بِقَبِيحِ الكَلامِ وآذاهُمْ، أيْ: لِجَمْعِهِ هُمُومَهم عَلى بُغْضِهِ أوْ مَعايِبِهِمْ، وكَذا قَشَّ الشَّيْءَ: جَمَعَهُ بِيَدِهِ حَتّى يَتَحاتَّ، أيْ: قَشَرَهُ جَمِيعَهُ، فَهو يَصْلُحُ لِلْفُرْقَةِ والجَمْعِ، وقَشَّ: مَشى مَشْيَ المَهْزُولِ أيِ: اضْطَرَبَ، وهو يُوجِبُ الإسْراعَ والتَّثَنِّيَ فَيَصْلُحُ لِلْجَمْعِ والفُرْقَةِ، وقَشَّ: أكَلَ مِمّا يُلْقِيهِ النّاسُ عَلى المَزابِلِ أوْ أكَلَ كِسَرَ الصَّدَقَةِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ غايَةٌ في الجَمْعِ، وقَشَّ النَّباتَ: يَبِسَ، فاسْتَحَقَّ أنْ يُجْمَعَ، والقَشُّ: رَدِيءُ التَّمْرِ كالدَّقْلِ ونَحْوِهِ لِأنَّهُ يُجْمَعُ في نَفْسِهِ، والدَّلْوُ (p-٣٥٣)الضَّخْمُ لِكَثْرَةِ ما يَجْمَعُ، وفي الحَدِيثِ: «قُلْ يا أيُّها الكافِرُونَ، وقُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ المُقَشْقِشانِ”،» أيِ: المُبْرِئَتانِ مِنَ الشِّرْكِ لِما في الحَدِيثِ: «اقْرَأْ: (قُلْ يا أيُّها الكافِرُونَ) عِنْدَ مَنامِكَ؛ فَإنَّها بَراءَةٌ مِنَ الشِّرْكِ،» فالمَعْنى أنَّهُما تَجْمَعانِ كُلَّ شِرْكٍ ونِفاقٍ دَقِيقٍ أوْ جَلِيلٍ فَتُزِيلانِهِ، والقَشْقَشَةُ يُحْكى بِها الصَّوْتُ قَبْلَ الهَدِيرِ في مَحْضِ الشَّقْشَقَةِ قَبْلَ أنْ تُرْعِدَ بِالهَدِيرِ؛ لِأنَّ مَبادِئَ صَوْتِ الهَدِيرِ زائِدُ الضَّخامَةِ، فَكَأنَّهُ جامِعٌ، فَكَذا ما يَحْكِيهِ، والقَشْقاشَةُ: العَصا، لِجَمْعِها ما يُرادُ بِها أوْ لِأنَّها يُقَشَّرُ عَنْها لِحاؤُها كَما يُقَشَّرُ جِلْدُ الحَيَّةِ وأمّا مَقْلُوبَةً فَيُقالُ فِيهِ: شَقَّهُ: صَدَعَهُ أيْ: فَرَقَهُ، وقالَ الخَلِيلُ: الصَّدْعُ رُبَّما كانَ في أحَدِ الوَجْهَيْنِ غَيْرَ نافِذٍ، والشَّقُّ لا يَكُونُ إلّا نافِذًا، وشَقَّ نابُ البَعِيرِ: طَلَعَ؛ لِأنَّهُ فَرَقَ اللَّحْمَ.
وشَقَّ العَصا: فَرَّقَها بِاثْنَتَيْنِ، وفَرَّقَ بَيْنَ الجَماعَةِ، وشَقَّ عَلَيْهِ الأمْرُ: صَعُبَ فَفَرَّقَ نَفْسَهُ، وشَقَّ عَلَيْهِ: أوْقَعَهُ في مَشَقَّةٍ، وشَقَّ بَصَرُ المُحْتَضِرِ: نَظَرَ إلى شَيْءٍ لا يَرْتَدُّ إلَيْهِ طَرْفُهُ؛ لِأنَّهُ لِتَصْوِيبِهِ إلى جِهَةٍ واحِدَةٍ مُفْتَرِقٌ مِن بَقِيَّةِ الجِهاتِ، والشَّقُّ واحِدُ الشُّقُوقِ، والصُّبْحُ لِأنَّهُ يُفَرِّقُ جَيْشَ الظَّلامِ، وجَوْبَةُ ما بَيْنَ الشَّفْرَيْنِ مِن جِهازِ المَرْأةِ، والتَّفْرِيقُ ومِنهُ شَقُّ عَصا المُسْلِمِينَ، واسْتِطالَةُ البَرْقِ إلى وسَطِ السَّماءِ مِن غَيْرِ أنْ يَأْخُذَ يَمِينًا وشِمالًا لِأنَّهُ يَشُقُّ السَّحابَ مُسْتَقِيمًا كَما يَشُقُّ اللَّوْحَ والعَصا، - بِالكَسْرِ: الجانِبُ لِأنَّهُ مُفارِقٌ لِلْجانِبِ الآخَرِ، (p-٣٥٤)واسْمٌ لِما نَظَرْتَ إلَيْهِ لِأنَّهُ في جانِبٍ واحِدٍ، وجِنْسٌ مِن أجْناسِ الجِنِّ لِأنَّهُ فِرْقَةٌ مِنهُمْ، ومِن كُلِّ شَيْءٍ نِصْفُهُ، ويُفْتَحُ، [و] المالُ بَيْنِي وبَيْنَكَ شَقُّ الشَّعْرَةِ - ويُفْتَحُ: نِصْفانِ سَواءٌ، والشِّقَّةُ - بِالكَسْرِ: شَظِيَّةٌ مِن لَوْحٍ، ومِنَ العَصا والثَّوْبِ وغَيْرِهِ ما شُقَّ مُسْتَطِيلًا، والشَّقِيَّةُ: ضَرْبٌ مِنَ الجِماعِ كَأنَّهُ عَلى شَقٍّ واحِدٍ، والشُّقَّةُ بِالضَّمِّ والكَسْرِ: البُعْدُ والنّاحِيَةُ يَقْصِدُها المُسافِرُ، والسَّفَرُ البَعِيدُ، وكُلُّهُ واضِحٌ في الفُرْقَةِ، والمَشَقَّةُ أيْضًا لِأنَّها تَأْخُذُ أحَدَ شِقَّيِ النَّفْسِ، والفَرَسُ البَعِيدُ ما بَيْنَ الفُرُوجِ والطَّوِيلُ، كَأنَّ أجْزاءَهُ تَفَرَّقَتْ فَطالَ ضِدَّ ما تَقَدَّمَ في الصَّبِيَّةِ الصَّغِيرَةِ، والأشَقُّ أيْضًا: العِجْلُ إذا اسْتَحْكَمَ كَأنَّهُ لَمّا تَأهَّلَ مِن شَقِّ الأرْضِ بِالحِراثَةِ، وكُلُّ ما اشْتُقَّ نِصْفَيْنِ، والشَّقِيقَةُ كَسَفِينَةٍ: الفُرْجَةُ بَيْنَ الجَبَلَيْنِ تُنْبِتُ العُشْبَ، لِأنَّها فَرَّقَتْ بَيْنَ الجَبَلَيْنِ وفَرَّقَتْ عُشْبَها بَيْنَ مُلْتَئِمِ أرْضِها، والمَطَرُ، الوابِلُ المُتَّسِعُ؛ لِأنَّ الغَيْمَ تَشَقَّقَ عَنْهُ، ومِنَ البَرْقِ ما انْتَشَرَ مِنَ الأُفُقِ لِأنَّهُ يَشُقُّ السَّحابَ، ووَجَعٌ يَأْخُذُ نِصْفَ الرَّأْسِ والوَجْهِ، وشَقائِقُ النُّعْمانِ مَعْرُوفٌ؛ سُمِّيَتْ لِحُمْرَتِها تَشْبِيهًا بِشَقِيقَةِ البَرْقِ، كَذا قالُوا، وعِنْدِي أنَّها سُمِّيَتْ لِتَفَرُّقِ أوْراقِها وتَصَفُّقِها فَكَأنَّها مُشَقَّقَةٌ مَعَ التَّجَمُّعِ، والشُّقاقُ كَغُرابٍ: تَشَقُّقٌ يُصِيبُ أرْساغَ الدَّوابِّ - والشَّقْشَقَةُ بِالكَسْرِ: شَيْءٌ كالرَّثَّةِ يُخْرِجُهُ البَعِيرُ مِن فِيهِ إذا هاجَ، كَأنَّهُ يَشُقُّ حَلْقَهُ فَيَخْرُجُ ويُوجِبُ هَدِيرَهُ الَّذِي يَشُقُّ (p-٣٥٥)انْطِباقَ تَجْوِيفِهِ لِيُصَوِّتَ، ومِنهُ شَقْشَقَ الفَحْلُ: هَذَرَ، والعُصْفُورُ: صَوَّتَ، وشَقَّقَ الكَلامَ: أخْرَجَهُ أحْسَنَ مَخْرَجٍ، وشَقَّقَ الحَطَبَ: فَرَّقَ كُلَّ واحِدَةٍ بِاثْنَتَيْنِ أوْ أكْثَرَ، وانْشَقَّتِ العَصا: تَفَرَّقَ الأمْرُ، والِاشْتِقاقُ: أخْذُ شِقِّ الشَّيْءِ والأخْذُ في الكَلامِ وفي الخُصُومَةِ يَمِينًا وشِمالًا مَعَ تَرْكِ القَصْدِ؛ لِأنَّهُ يَشُقُّ جِهاتِ المَعانِي، وهو أيْضًا أخْذُ الكَلِمَةِ مِنَ الكَلِمَةِ، فَكَأنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ أجْزائِها، وهَذا أخِي وشِقُّ نَفْسِي وشَقِيقِي كَأنَّهُ يَشُقُّ نَسَبَهُ مِن نَسَبِهِ أوْ كَأنَّهُ شِقَّةٌ مِنهُ، وهَذِهِ السُّورَةُ آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ؛ رَوى البُخارِيُّ في التَّفْسِيرِ وغَيْرُهُ مِن صَحِيحِهِ عَنِ البَراءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكم في الكَلالَةِ﴾ [النساء: ١٧٦] وآخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بَراءَةُ.
ولَمّا كانَتْ مُناسَبَةُ أوَّلِها - الدّاعِيَ إلى البَراءَةِ مِمَّنْ يُخْشى نَقْضُهُ - لِآخِرِ الأنْفالِ المُبَيِّنَ لِمَن يَصْلُحُ لِلْوِلايَةِ المُخْتَتَمَ بِشُمُولِ العِلْمِ في حَدٍّ عَظِيمٍ مِنَ الظُّهُورِ مَعَ ما تَقَدَّمَ مِن بَيانِ مُناسَبَةِ آخِرِ الأعْرافِ لِأوَّلِ الأنْفالِ، قُدِّمَتِ الأنْفالُ مَعَ قِصَرِها عَلى بَراءَةَ مَعَ طُولِها واشْتِباهِ أمْرِها عَلى الصَّحابَةِ في كَوْنِها سُورَةً مُسْتَقِلَّةً أوْ بَعْضَ سُورَةٍ كَما قُدِّمَتْ آلُ عِمْرانَ (p-٣٥٦)مَعَ قِصَرِها عَلى النِّساءِ لِمِثْلِ ذَلِكَ مِنَ المُناسَبَةِ، فَكانَ ما ذُكِرَ في بَراءَةَ مِنَ البَراءَةِ والتَّوَلِّي شَرْحًا لِآخِرِ الأنْفالِ، رَوى الإمامُ أحْمَدُ في المُسْنَدِ وأبُو داوُدَ في السُّنَنِ والتِّرْمِذِيُّ في الجامِعِ وحَسَّنَهُ وابْنُ ماجَهْ وابْنُ حِبّانَ في صَحِيحِهِ وإسْحاقُ بْنُ راهَوَيْهِ وأبُو يَعْلى والبَزّارُ والبَيْهَقِيُّ والإمامُ أبُو مُحَمَّدٍ إسْحاقُ بْنُ إبْراهِيمَ البَسْتِيُّ القاضِي في تَفْسِيرِهِ - بِسَنَدِ التِّرْمِذِيِّ والبَيْهَقِيِّ - والإمامُ أبُو جَعْفَرٍ النَّحّاسُ بِغَيْرِ سَنَدٍ «عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قالَ: قُلْتُ لِعُثْمانَ بْنِ عَفّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ما حَمَلَكم عَلى أنْ عَمَدْتُمْ إلى الأنْفالِ وهي مِنَ المَثانِي وإلى بَراءَةَ وهي مِنَ المِئِينَ فَقَرَنْتُمْ بَيْنَهُما ولَمْ تَكْتُبُوا بَيْنَهُما سَطْرَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ووَضَعْتُمُوهُما في السَّبْعِ الطُّوَلِ؟ ما حَمَلَكم عَلى ذَلِكَ؟ فَقالَ عُثْمانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كانَ رَسُولُ اللَّهِ -ﷺ- وقالَ البَسْتِيُّ: رُبَّما يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمانُ وهو تَنْزِلُ عَلَيْهِ السُّوَرُ ذَواتُ العَدَدِ، فَكانَ إذا نَزَلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ دَعا بَعْضَ مَن كانَ يَكْتُبُ فَيَقُولُ: ضَعُوا هَذِهِ الآياتِ في السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيها كَذا وكَذا، وكانَتِ الأنْفالُ مِن أوائِلِ ما نَزَلَ بِالمَدِينَةِ، وكانَتْ بَراءَةُ مِن آخِرِ القُرْآنِ نُزُولًا، وكانَتْ قِصَّتُها شَبِيهَةً بِقِصَّتِها، فَظَنَنْتُ أنَّها مِنها، فَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ -ﷺ- ولَمْ يُبَيِّنْ لَنا أنَّها مِنها، قالَ النَّحّاسُ: وذَهَبَ عَنِّي أنْ أسْألَهُ عَنْها، فَمِن أجْلِ ذَلِكَ قَرَنْتُ بَيْنَهُما (p-٣٥٧)ولَمْ أكْتُبْ بَيْنَهُما سَطْرَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَوَضَعْتُها في السَّبْعِ الطُّوَلِ - زادَ ابْنُ راهَوَيْهِ: وكانَتا تُدْعَيانِ القَرِينَتَيْنِ» - انْتَهى.
فَبَيَّنَ أنَّهُما اشْتَبَها عَلَيْهِ وأنَّهُ وضَعَهُما في الطُّوَلِ لِمُناسَبَتِهِما لَها عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِها سُورَةً واحِدَةً، قالَ في القامُوسِ: والسَّبْعُ الطُّوَلُ - كَصُرَدٍ - مِنَ البَقَرَةِ إلى الأعْرافِ، والسّابِعَةُ سُورَةُ يُونُسَ أوِ الأنْفالُ وبَراءَةُ جَمِيعًا لِأنَّهُما سُورَةٌ واحِدَةٌ - انْتَهى.
وقالَ في الكَشّافِ: وقِيلَ: سُورَةُ الأنْفالِ والتَّوْبَةُ سُورَةٌ واحِدَةٌ كِلْتاهُما نَزَلَتْ في القِتالِ تُعَدّانِ السّابِعَةَ مِنَ الطُّوَلِ وهي وما بَعْدَها المِئُونَ، وهَذا قَوْلٌ ظاهِرٌ لِأنَّهُما مَعًا مِائَتانِ وسِتٌّ فَهُما بِمَنزِلَةِ إحْدى الطُّوَلِ، وقَدِ اخْتَلَفَ أصْحابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقالَ بَعْضُهُمْ: الأنْفالُ وبَراءَةُ سُورَةٌ واحِدَةٌ، وقالَ بَعْضُهُمْ: هُما سُورَتانِ فَتُرِكَتْ بَيْنَهُما فُرْجَةٌ لِقَوْلِ مَن يَقُولُ: هُما سُورَتانِ، وتُرِكَتْ“بِسْمِ”لِقَوْلِ مَن يَقُولُ: هُما سُورَةٌ واحِدَةٌ. انْتَهى.
وعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّهُ قالَ: إنَّما تَوَهَّمُوا ذَلِكَ؛ لِأنَّ في الأنْفالِ ذِكْرُ العُهُودِ، وفي بَراءَةَ نَبْذُ العُهُودِ، ووَضُعِتْ إحْداهُما بِجَنْبِ الأُخْرى، والمُرادُ بِالمَثانِي هُنا ما دُونَ المِئِينَ وفَوْقَ المُفَصَّلِ، قالَ أبُو عُبَيْدٍ الهَرَوِيُّ: قِيلَ لَها مَثانِي؛ لِأنَّ المِئِينَ جُعِلَتْ مَبادِئَ والَّتِي تَلِيها مَثانِي. انْتَهى.
والأحْسَنُ كَوْنُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلى المُفَصَّلِ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ أنَّ المُفَصَّلَ أوَّلُ لَقَبٍ جامِعٍ لِلسُّوَرِ بِاعْتِبارِ القِصَرِ وفَوْقَهُ المَثانِي ثُمَّ المِئُونَ ثُمَّ الطُّوَلُ، فالمَثانِي ثانِيَةٌ لَهُ حَقِيقَةٌ، وما هي ثانِيَةٌ لِلْمِئِينَ إلّا أنْ ألْفَيْنا البُداءَةَ بِالطُّوَلِ (p-٣٥٨)مِنَ الطَّرَفِ الآخَرِ، الثّانِي أنَّها لَمّا زادَتْ عَلى المُفَصَّلِ كانَتْ قِسْمَةُ السُّورَةِ مِنها في رَكْعَتَيْنِ مِنَ الصَّلاةِ كَقِراءَةِ سُورَتَيْنِ مِنَ المُفَصَّلِ فَكانَتْ مَثانِيَ لِتَثْنِيَتِها في مَجْمُوعِ الصَّلاةِ بِاعْتِبارِ قِراءَةِ بَعْضِها في كُلٍّ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ، قالَ أبُو جَعْفَرٍ النَّحّاسُ: قالَ أبُو إسْحاقَ: حَدَّثَنِي بَعْضُ أصْحابِنا عَنْ صاحِبِنا مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ أنَّهُ قالَ: لَمْ تُكْتَبْ في أوَّلِ سُورَةِ بَراءَةَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؛ لِأنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ افْتِتاحُ خَيْرٍ، وبَراءَةُ أوَّلُها وعِيدٌ ونَقْضٌ لِلْعُهُودِ فَلِذَلِكَ لَمْ تُكْتَبْ في أوَّلِها بِسْمِ اللَّهِ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قالَ: سَألْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لِمَ لَمْ تُكْتُبْ:“بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ”ها هُنا؟ قالَ: لِأنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ“ أمانٌ. انْتَهى.
وبِهَذا أخَذَ الإمامُ أبُو القاسِمِ الشّاطِبِيُّ في قَصِيدَتِهِ حَيْثُ قالَ:
؎ومَهْما تَصِلْها أوْ بَدَأْتَ بَراءَةْ تَنْزِيلَها بِالسَّيْفِ لَسْتَ مُبَسْمِلا
وقالَ في الكَشّافِ: وسُئِلَ ابْنُ عُيَيْنَةَ فَقالَ: اسْمُ اللَّهِ سَلامٌ وأمانٌ، فَلا يُكْتَبُ في النَّبْذِ والمُحارَبَةِ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ولا تَقُولُوا لِمَن ألْقى إلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ [النساء: ٩٤]
قِيلَ: فَإنَّ النَّبِيَّ -ﷺ- قَدْ كَتَبَ إلى أهْلِ الحَرْبِ: ”بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ“ قالَ: إنَّما ذَلِكَ ابْتِداءً، يَدْعُوهم (p-٣٥٩)ولَمْ يَنْبِذْ إلَيْهِمْ، ألا تَراهُ يَقُولُ: ”سَلامٌ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الهُدى“ فَمَن دُعِيَ إلى اللَّهِ فَأجابَ ودُعِيَ إلى الجِزْيَةِ فَأجابَ فَقَدِ اتَّبَعَ الهُدى، وأمّا النَّبْذُ فَإنَّما هو البَراءَةُ واللَّعْنَةُ - انْتَهى.
ولا يُعارِضُ هَذا خَبَرُ ابْنِ عَبّاسٍ عَنْ عُثْمانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، بَلْ هو شَبِيهٌ لِما نَزَلَتْ مِن غَيْرِ بَسْمَلَةٍ لِلْمَعْنى المَذْكُورِ، اشْتَبَهَ أمْرُها عَلى الصَّحابَةِ رِضْوانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، ولَمْ يَقَعْ سُؤالٌ عَنْها حَتّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَكانَتْ مُوافَقَتُهم لِلسُّوَرِ في تَسْمِيَتِها بِاسْمٍ يَخُصُّها دَلِيلًا عَلى أنَّها سُورَةٌ بِرَأْسِها، ومُخالَفَتُها في تَرْكِ إنْزالِ البَسْمَلَةِ في أوَّلِها مَعَ احْتِمالِ أنَّها تُرِكَتْ لِلْمَعْنى المَذْكُورِ أوْ لِغَيْرِهِ دَلِيلًا عَلى أنَّها بَعْضُ سُورَةٍ، فَقَدْ رَوى أبُو داوُدَ والحاكِمُ في المُسْتَدْرَكِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قالَ: كانَ النَّبِيُّ ﷺ لا يَعْرِفُ فَصْلَ السُّورَةِ - وفي رِوايَةٍ: لا يَعْلَمُ انْقِضاءَ السُّورَةِ حَتّى يَنْزِلَ عَلَيْهِ: ”بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ“. قالَ الحافِظُ أبُو شامَةَ: هَذا حَدِيثٌ حَسَنٌ ولِلْحاكِمِ في المُسْتَدْرَكِ أيْضًا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قالَ: كانَ المُسْلِمُونَ لا يَعْلَمُونَ انْقِضاءَ السُّورَةِ حَتّى يَنْزِلَ: ”بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ“ فَلَمّا نَزَلَ عُلِمَ أنَّ السُّورَةَ قَدِ انْقَضَتْ، فَلَمّا اشْتَبَهَ أمْرُها تَرَكُوا كِتابَةَ البَسْمَلَةِ في أوَّلِها وفَصَلُوها عَنِ الأنْفالِ قَلِيلًا. واللَّهُ المُوَفِّقُ. هَذا وقَدْ مَضى بَيانُ تَشابُهِ قِصَّتَيْهِما في أوَّلِ الأنْفالِ وأثْناءَ الأعْرافِ إجْمالًا، وأمّا تَفْصِيلًا فَلِما (p-٣٦٠)فِي كُلٍّ مِنهُما مِن نَبْذِ العَهْدِ إلى مَن خِيفَ نَقْضُهُ، وأنَّ المَسْجِدَ الحَرامَ لا يَصْلُحُ لِوِلايَتِهِ إلّا المُتَّقُونَ، وأنَّ المُشْرِكِينَ نَجَسٌ لا صَلاحِيَّةَ فِيهِمْ لِقُرْبانِهِ، وأنَّ قِلَّةَ حِزْبِ اللَّهِ لا تَضُرُّهم إذا لَزِمُوا دَعائِمَ النَّصْرِ الخَمْسَ، وكَثْرَتَهم لا تُغْنِيهِمْ إذا حَصَلَ في ثَباتِهِمْ لَبْسٌ، والحَثُّ عَلى الجِهادِ في غَيْرِ مَوْضِعٍ، وضَمانُ الغِنى كَما أشارَ إلَيْهِ في الأنْفالِ بِقَوْلِهِ: ﴿لَهم دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ ومَغْفِرَةٌ ورِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [الأنفال: ٤] وذَكَرَ أحْكامَ الصَّدَقاتِ الَّتِي هي مِن وادِي الغَنائِمِ، وعَدَّ أصْنافَ كُلٍّ، والأمْرُ بِالإنْفاقِ المُشارُ إلَيْهِ في الأنْفالِ وغَيْرِهِ بِقَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهم أوْلِياءُ بَعْضٍ﴾ [الأنفال: ٧٣] أيْ بِالتَّناصُرِ في الإنْفاقِ وغَيْرِهِ كَما فَعَلُوا في مالِ التِّجارَةِ الَّذِي أرْصَدُوهُ حَتّى اسْتَعانُوا بِهِ عَلى غَزْوَةِ أُحُدٍ المُشارِ إلَيْهِ بِآيَةِ: ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أمْوالَهُمْ﴾ [الأنفال: ٣٦] مَعَ آيَةِ: ﴿إلا تَفْعَلُوهُ﴾ [الأنفال: ٧٣] وبَيانِ أحْوالِ المُنافِقِينَ المُشارِ إلَيْهِمْ في الأنْفالِ بِقَوْلِهِ: ﴿إذْ يَقُولُ المُنافِقُونَ﴾ [الأنفال: ٤٩] والأمْرِ الجامِعِ لِلْكُلِّ أنَّهُما مَعًا في بَيانِ حالِ النَّبِيِّ ﷺ في أوَّلِ أمْرِهِ وأثْنائِهِ ومُنْتَهاهُ، وقالَ الإمامُ أبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ في كِتابِهِ: اتِّصالُها بِالأنْفالِ أوْضَحُ مِن أنْ يُتَكَلَّفَ بِتَوْجِيهِهِ حَتّى أنَّ شِدَّةَ المُشابَهَةِ والِالتِئامِ - مَعَ أنَّ الشّارِعَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمْ يَكُنْ بَيَّنَ انْفِصالَهُما - أوْجَبَ أنْ لا يُفْصَلَ بَيْنَهُما بِ ”بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ“، وذَلِكَ أنَّ الأنْفالَ قَدْ تَضَمَّنَتِ الأمْرَ بِالقِتالِ: ﴿وقاتِلُوهم حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ [الأنفال: ٣٩] وبَيَّنَ أحْكامَ الفِرارِ مِنَ الزَّحْفِ وحُكْمَ النِّسْبَةِ المَطْلُوبَ فِيها بِالثُّبُوتِ ولُحُوقِ التَّأْثِيمِ لِلْفارِّ (p-٣٦١)وأنَّها عَلى حُكْمِ الضَّعْفِ وحُكْمِ الأسْرى وحُكْمِ وِلايَةِ المُؤْمِنِينَ وما يَدْخُلُ تَحْتَ هَذِهِ الوِلايَةِ ومَن يَخْرُجُ عَنْها، ثُمَّ ذَكَرَ في السُّورَةِ الأُخْرى حُكْمَ مَن عُهِدَ إلَيْهِ مِنَ المُشْرِكِينَ والبَراءَةِ مِنهم إذا لَمْ يُوفُوا، وحُكْمَ مَنِ اسْتَجارَ مِنهم إلى ما يَتَعَلَّقُ بِهَذا، وكُلُّهُ بابٌ واحِدٌ، وأحْكامٌ مُتَوارِدَةٌ عَلى قِصَّةٍ واحِدَةٍ، وهو تَحْرِيرُ حُكْمِ المُخالِفِ، فالتَحَمَتِ السُّورَتانِ أعْظَمَ التِحامٍ، ثُمَّ عادَ الكَلامُ إلى حُكْمِ المُنافِقِينَ وهَتْكِ أسْتارِهِمْ، انْتَهى.
وأمّا تَطابُقُ آخِرِ الأنْفالِ مَعَ أوَّلِها فَقَدْ ظَهَرَ مِمّا مَضى، وأيْضًا فَلِما ذُكِرَ في آخِرِ الَّتِي قَبْلَها أمْرُ العَهْدِ تارَةً بِنَبْذِهِ إلى مَن خِيفَتْ خِيانَتُهُ كائِنًا مَن كانَ في قَوْلِهِ: ﴿فانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ﴾ [الأنفال: ٥٨] وتارَةً بِالتَّمَسُّكِ بِهِ عِنْدَ الأمْنِ مِن ذَلِكَ في قَوْلِهِ: ﴿إلا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكم وبَيْنَهم مِيثاقٌ﴾ [الأنفال: ٧٢] وبَيْنَ مَن يَصْلُحُ لِلْمُوالاةِ ومَن لا يَصْلُحُ، وخُتِمَتْ بِالإخْبارِ بِشُمُولِ عِلْمِهِ.
ابْتُدِئَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِالأمْرِ بِالنَّبْذِ إلى ناسٍ بِأعْيانِهِمْ نَقَضُوا أوْ خِيفَ مِنهم ذَلِكَ وذَلِكَ تَصْرِيحٌ بِما أفْهَمَتْهُ آياتُ المُوالاةِ في الَّتِي قَبْلَها مِن أنَّ إحْدى الفِرْقَتَيْنِ لا تَصْلُحُ لِمُوالاةِ الأُخْرى فَقالَ تَعالى:
* * *
﴿بَراءَةٌ﴾ أيْ: عَظِيمَةٌ، ثُمَّ وصَفَها بِقَوْلِهِ: ﴿مِنَ﴾ أيْ: حاصِلَةٌ واصِلَةٌ مِنَ ﴿اللَّهِ﴾ أيِ: المُحِيطِ بِصِفاتِ الكَمالِ، فَهو العالِمُ بِمَن يَسْتَحِقُّ الوِلايَةَ ومَن يَسْتَحِقُّ البَراءَةَ ﴿ورَسُولِهِ﴾ أيِ: المُتابِعِ لِأمْرِهِ لِعِلْمِهِ بِهِ.
ولَمّا كانُوا قَدْ تَوَقَّفُوا في الحُدَيْبِيَةِ كُلُّهم أوْ كَثِيرٌ مِنهم تارَةً في (p-٣٦٢)نَفْسِ العَهْدِ وتارَةً في التَّأخُّرِ عَنِ الأمْرِ بِالحَلْقِ، ثُمَّ تابَعُوا في كُلٍّ مِنهُما، وكانَ الكُفّارُ بِمَحَلِّ البُعْدِ عَنْ كُلِّ خَيْرٍ، أشارَ إلى ذَلِكَ بِأداةِ الغايَةِ، وجَعْلُ الرَّسُولِ ﷺ مَعَ اللَّهِ إشارَةٌ إلى أنَّهُ لا يُخالِفُهُ أصْلًا، وأُسْنِدَتِ المُعاهَدَةُ إلَيْهِمْ إشارَةً إلى ذَلِكَ التَّوَقُّفِ تَحْذِيرًا مِن أنْ يَقَعَ مِثْلُهُ، فَقالَ مُخْبِرًا عَنِ النَّبْذِ المَوْصُوفِ: ﴿إلى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ﴾ أيْ: أوْقَعْتُمُ العَهْدَ بَيْنَكم وبَيْنَهم ﴿مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ أيْ: وإنْ كانَتْ مُعاهَدَتُكم لَهم إنَّما كانَتْ بِإذْنٍ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ، فَكَما فَعَلْتُمُ المُعاهَدَةَ بِإذْنِهِما فافْعَلُوا النَّقْضَ تَبَعًا لَهُما، ودَلَّ سِياقُ الكَلامِ وما حَواهُ مِن بَدِيعِ الِانْتِظامِ أنَّ العَهْدَ إنَّما هو لِأجْلِ المُؤْمِنِينَ، وأمّا اللَّهُ ورَسُولُهُ فَغَنِيّانِ عَنْ ذَلِكَ، أمّا اللَّهُ فَبِالغِنى المُطْلَقِ، وأمّا الرَّسُولُ ﷺ فَبِالَّذِي اخْتارَهُ لِلرِّسالَةِ لِأنَّهُ ما فَعَلَ ذَلِكَ بِهِ إلّا وهو قادِرٌ عَلى نَصْرِهِ بِسَبَبٍ وبِغَيْرِ سَبَبٍ، وعُلِمَ أنَّ ذَلِكَ فِيمَن نَقَضَ أوْ قارَبَ مِن قَوْلِهِ بَعْدَ: ﴿إلا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكم شَيْئًا﴾ [التوبة: ٤] - الآيَةَ. قالَ البَغَوِيُّ: لَمّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلى تَبُوكَ كانَ المُنافِقُونَ يَرْجُفُونَ الأراجِيفَ، وجَعَلَ المُشْرِكُونَ يَنْقُضُونَ عُهُودًا كانَتْ بَيْنَهم وبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَأمَرَ اللَّهُ بِنَقْضِ عُهُودِهِمْ؛ وذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإمّا تَخافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيانَةً فانْبِذْ إلَيْهِمْ﴾ [الأنفال: ٥٨] انْتَهى. وذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ إسْحاقَ وغَيْرُهُ، ولَعَلَّهُ أطْلَقَ هُنا ولَمْ يُقَيِّدْ مِمَّنْ خِيفَ (p-٣٦٣)نَقْضُهُ لِيَكُونَ ذَلِكَ أوَّلَ السُّورَةِ مُؤْذِنًا بِأنَّ الخِيانَةَ والهَمُّ بِالنَّقْضِ شَأْنُ أكْثَرِهِمْ ولا سِيَّما مُشْرِكُو قُرَيْشٍ، وهم - لِكَوْنِ قُرَيْشٍ رُؤُوسَ النّاسِ والنّاسُ تَبَعٌ لَهم في الخَيْرِ والشَّرِّ - يَسْتَحِقُّونَ أنَّ يُعَبَّرَ عَنْهم بِما يَفْهَمُ الكُلُّ. ومَبْنى هَذِهِ السُّورَةِ عَلى البَراءَةِ مِنَ المُشْرِكِينَ والمُوالاةِ لِلْمُؤْمِنِينَ الدّالِّ عَلى إيمانِهِمْ طاعَةُ اللَّهِ بِالصَّلاةِ والزَّكاةِ والجِهادِ لِمَن أمَرَ بِالبَراءَةِ مِنهُ قَلَّ أوْ كَثُرَ قَرُبَ أوْ بَعُدَ في المَنشَطِ والمَكْرَهِ والعُسْرِ واليُسْرِ.
ولَمّا كانَ ظاهِرُ الحالِ وقْتَ تَكامُلِ نُزُولِها - وهو شَوّالٌ أوْ ذُو العُقْدَةِ أوْ ذُو الحِجَّةِ سَنَةَ تِسْعٍ بَعْدَ مَرْجِعِ النَّبِيِّ ﷺ مِن تَبُوكَ - أنَّ الحَرْبَ قَدْ وضَعَتْ أوْزارَها وأُطْفِئَتْ نارُهم بِبَسْطِ الإسْلامِ في الخاصِّ والعامِّ، وما بَيْنَ اليَمَنِ والشّامِ، وانْتِشارِ ألْوِيَتِهِ وأعْلامِهِ، وتَأيَّدَ رَئِيسُهُ وإمامُهُ بِقَهْرِ جُيُوشِ الكُفّارِ، وقَصَدَ النّاسُ لَهُ بِالِاتِّباعِ مِن جَمِيعِ الأمْصارِ، أكَّدَ أمْرَ الجِهادِ ومُصادَمَةَ الأنْدادِ في هَذِهِ السُّورَةِ تَأْكِيدًا لَمْ يُؤَكَّدْ في غَيْرِها؛ ذَكَرَ الواقِدِيُّ في أواخِرِ غَزْوَةِ تَبُوكَ كَلامًا ثُمَّ قالَ: قالُو: وقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى لِلَّهِ عَلَيْهِ وسَلَّمَ المَدِينَةَ - يَعْنِي مِن غَزْوَةِ تَبُوكَ - في رَمَضانَ سَنَةَ تِسْعٍ، ثُمَّ قالَ: وجَعَلَ المُسْلِمُونَ يَبِيعُونَ أسْلِحَتَهم ويَقُولُونَ: قَدِ انْقَطَعَ الجِهادُ، فَجَعَلَ القَوِيُّ مِنهم يَشْتَرِيها لِفَضْلِ قُوَّتِهِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَنَهاهم عَنْ ذَلِكَ وقالَ: «”لا تَزالُ عِصابَةٌ (p-٣٦٤)مِن أُمَّتِي يُجاهِدُونَ عَلى الحَقِّ حَتّى يَخْرُجَ الدَّجّالُ» وإنَّما قُلْتُ: إنَّ تَكامُلَ نُزُولِها كانَ في شَوّالٍ أوْ في ذِي القِعْدَةِ أوْ في ذِي الحِجَّةِ لِأنَّ البَغَوِيَّ نَقَلَ عَنِ الزُّهْرِيِّ أنَّ أوَّلَها نَزَلَ في شَوّالٍ، وقالَ ابْنُ إسْحاقَ - ونَقَلَهُ عَنْهُ البَيْهَقِيُّ في دَلائِلِ النُّبُوَّةِ -: ثُمَّ أقامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَعْدَ مُنْصَرَفِهِ مِن تَبُوكَ بَقِيَّةَ شَهْرِ رَمَضانَ وشَوّالًا وذا القِعْدَةِ ثُمَّ بَعَثَ أبا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أمِيرًا عَلى الحَجِّ في سَنَةِ تِسْعٍ لِيُقِيمَ لِلْمُؤْمِنِينَ حَجَّهم والنّاسُ مِن أهْلِ الشِّرْكِ عَلى مَنازِلِهِمْ مِن حَجِّهِمْ - وأسْنَدَ البَيْهَقِيُّ في دَلائِلِهِ إلى عُرْوَةَ قالَ: فَلَمّا أنْشَأ النّاسُ الحَجَّ تَمامَ سَنَةِ تِسْعٍ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أبا بَكْرٍ أمِيرًا عَلى النّاسِ وكَتَبَ لَهُ سُنَنَ الحَجِّ - انْتَهى.
فَخَرَجَ أبُو بَكْرٍ والمُؤْمِنُونَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم ونَزَلَتْ بَراءَةُ في نَقْضِ ما بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وبَيْنَ المُشْرِكِينَ مِنَ العَهْدِ الَّذِي كانُوا عَلَيْهِ فِيما بَيْنَهم وبَيْنَهُ أنْ لا يُصَدَّ عَنِ البَيْتِ أحَدٌ جاءَهُ ولا يُخافُ أحَدٌ في الشَّهْرِ الحَرامِ؛ وكانَ ذَلِكَ عَهْدًا عامًّا بَيْنَهُ وبَيْنَ النّاسِ مِن أهْلِ الشِّرْكِ؛ ونَقَلَ أبُو مُحَمَّدٍ البَسْتِيُّ عَنْهُ أنَّهُ قالَ: فَكانَتْ هَذِهِ المُدَّةُ والعَهْدُ الَّذِي كانَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وبَيْنَ العَرَبِ أنَّهُ لا يُصَدُّ أحَدٌ عَنِ البَيْتِ ولا يُتَعَرَّضُ لِحاجٍّ ولا مُعْتَمِرٍ، ولا يُقاتَلُ في الشَّهْرِ الحَرامِ؛ وكانَ أمانًا مُسْتَفِيضًا مِن بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ عَلى غَيْرِ مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ؛ رَجَعَ إلى ما رَأيْتُهُ أنا في سِيرَتِهِ: وكانَتْ بَيْنَ ذَلِكَ عُهُودٌ بَيْنَ رَسُولِهِ ﷺ وبَيْنَ (p-٣٦٥)قَبائِلَ مِنَ العَرَبِ خَصائِصَ إلى آجالٍ مُسَمّاةٍ فَنَزَلَتْ فِيهِ وفِيمَن تَخَلَّفَ مِنَ المُنافِقِينَ عَنْهُ في تَبُوكَ وفي قَوْلِ مَن قالَ مِنهُمْ، فَكَشَفَ اللَّهُ فِيها سَرائِرَ أقْوامٍ كانُوا يَسْتَخْفُونَ بِغَيْرِ ما يُظْهِرُونَ؛ ثُمَّ قالَ ابْنُ هِشامٍ: قالَ ابْنُ إسْحاقَ: وحَدَّثَنِي حَكِيمُ بْنُ حَكِيمِ بْنِ عَبّادِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ أبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ أنَّهُ قالَ: «لَمّا نَزَلَتْ بَراءَةُ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وقَدْ كانَ بَعَثَ أبا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِيُقِيمَ لِلنّاسِ الحَجَّ قِيلَ لَهُ: يا رَسُولَ اللَّهِ! لَوْ بَعَثْتَ بِها إلى أبِي بَكْرٍ ! فَقالَ: لا يُؤَدِّي عَنِّي إلّا رَجُلٌ مِن أهْلِ بَيْتِي، ثُمَّ دَعا عَلِيَّ بْنَ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقالَ لَهُ: اخْرُجْ بِهَذِهِ القِصَّةِ مِن صَدْرِ بَراءَةَ فَأذِّنْ في النّاسِ يَوْمَ النَّحْرِ إذا اجْتَمَعُوا بِمِنًى أنَّهُ لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ كافِرٌ، ولا يَجُحُّ بَعْدَ العامِ مُشْرِكٌ، ولا يَطُوفَ بِالبَيْتِ عُرْيانٌ، ومَن كانَ لَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَهْدٌ فَهو لَهُ إلى مُدَّتِهِ“».
فَهَذا فِيهِ أنَّها نَزَلَتْ بَعْدَ سَفَرِ أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وإنَّما قَيَّدْتُ أنا بِتَكامُلِ نُزُولِها لِأنَّهُ ورَدَ أنَّ الَّذِي في النَّقْضِ فَبَعَثَ بِهِ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّما هو عَشْرُ آياتٍ أوْ سَبْعٌ، وفي بَعْضِ الرِّواياتِ التَّصْرِيحُ بِنُزُولِها قَبْلَ سَفَرِ أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَفي زِياداتِ مُسْنَدِ الإمامِ أحْمَدَ «عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: ”لَمّا نَزَلَتْ عَشْرُ آياتٍ مِن بَراءَةَ عَلى النَّبِيِّ ﷺ دَعا أبا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَبَعَثَهُ بِها لِيَقْرَأها عَلى أهْلِ مَكَّةَ، ثُمَّ دَعانِي النَّبِيُّ ﷺ فَقالَ: أدْرِكْ أبا بَكْرٍ، فَحَيْثُ ما لَحِقْتَهُ (p-٣٦٦)فَخُذِ الكِتابَ مِنهُ فاذْهَبْ بِهِ إلى أهْلِ مَكَّةَ فاقْرَأْهُ عَلَيْهِمْ - فَذَكَرَهُ، وفِيهِ أنَّ أبا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ بَعْدَما رَجَعَ: أنَزَلَ فِيَّ شَيْءٌ؟ قالَ: لا. ولَكِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ جاءَنِي فَقالَ: لَنْ يُؤَدِّيَ عَنْكَ إلّا أنْتَ أوْ رَجُلٌ مِنكَ» ونَقَلَ البَغَوِيُّ عَنِ ابْنِ إسْحاقَ «أنَّهُ ﷺ بَعَثَ مَعَ أبِي بَكْرٍ بِأرْبَعِينَ آيَةً مِن صَدْرِ سُورَةِ بَراءَةَ لِيَقْرَأها عَلى أهْلِ المَوْسِمِ، ثُمَّ بَعَثَ بَعْدَهُ عَلِيًّا عَلى ناقَتِهِ العَضْباءِ لِيَقْرَأ عَلى النّاسِ صَدْرَ بَراءَةَ وأمَرَهُ أنْ يُؤَذِّنَ بِمَكَّةَ ومِنًى وعَرَفَةَ. وفِيهِ أنَّ أبا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ! أنَزَلَ في شَأْنِي شَيْءٌ؟ قالَ:“لا، ولَكِنْ لا يَنْبَغِي لِأحَدٍ أنْ يُبَلِّغَ هَذا الأمْرَ إلّا رَجُلٌ مِن أهْلِي”» فَتَبَيَّنَ أنَّ الأوَّلَ مِن إطْلاقِ الكُلِّ عَلى الجُزْءِ لا سِيَّما وهو الَّذِي فِيهِ البَراءَةُ، وما سُمِّيَتْ السُّورَةُ بَراءَةَ إلّا بِهِ؛ وأنَّ المَعْنى: لا يُؤَدِّي عَنِّي في العُهُودِ، لا مُطْلَقًا؛ فَقَدْ أرْسَلَ رُسُلًا لِلْأداءِ عَنْهُ مِن غَيْرِ أهْلِ بَيْتِهِ؛ وقالَ المَهْدَوِيُّ في تَفْسِيرِ: ﴿فَسِيحُوا في الأرْضِ﴾ [التوبة: ٢] ورُوِيَ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ عَلى النَّبِيِّ ﷺ بَعْدَ خُرُوجِ أبِي بَكْرٍ بِالنّاسِ لِيَحُجَّ بِهِمْ سَنَةَ تِسْعٍ، فَبَعَثَ بِها النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ صَلّى عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِيَتْلُوَها عَلى النّاسِ بِالمَوْضِعِ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ الفَرِيقانِ وهو مِنًى، وأمَرَهُ أنْ يُنادِيَ: أنْ لا يَحُجُّ بَعْدَ (p-٣٦٧)العامِ مُشْرِكٌ ولا يَطُوفَ بِالبَيْتِ عُرْيانٌ، فَنادى عَلِيٌّ وأعانَهُ أبُو هُرَيْرَةَ وغَيْرُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وكانَ عَلى مَكَّةَ حِينَئِذٍ عَتّابُ بْنُ أسِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، اسْتَخْلَفَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عامَ الفَتْحِ وهو عامُ ثَمانٍ، وكانَ حَجُّ عَتّابٍ وأبِي بَكْرٍ سَنَةَ تِسْعٍ في ذِي القِعْدَةِ - كَذا قالَ وسَيَأْتِي بَيانُ بُطْلانِهِ، وتَقَدَّمَ خِلافُهُ عَنِ ابْنِ إسْحاقَ في دَلائِلِ النُّبُوَّةِ؛ وقالَ الإمامُ أبُو مُحَمَّدٍ إسْحاقُ بْنُ إبْراهِيمَ البَسْتِيُّ القاضِي في تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنا قُتَيْبَةُ عَنِ الحَجّاجِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجاهِدٍ قالَ: أقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حِينَ فَرَغَ مِن تَبُوكَ فَأرادَ الحَجَّ فَقالَ: إنَّهُ يَحْضُرُ البَيْتَ المُشْرِكُونَ يَطُوفُونَ عُراةً فَلا أُحِبُّ أنْ أحُجَّ حَتّى لا يَكُونَ ذَلِكَ، فَأرْسَلَ أبا بَكْرٍ وعَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، فَطافا في النّاسِ بِذِي المَجازِ وبِأمْكِنَتِهِمُ الَّتِي كانُوا يَتَبايَعُونَ بِها كُلِّها وبِالمَوْسِمِ كُلِّهِ، وآذَنُوا أصْحابَ العَهْدِ بِأنْ يَأْمَنُوا أرْبَعَةَ أشْهُرٍ - يَعْنِي أشْهُرَ الحَرَمِ المُنْسَلِخاتِ المُتَوالِياتِ: عِشْرُونَ مِن آخِرِ ذِي الحِجَّةِ إلى عَشْرٍ يَخْلُونَ مِن رَبِيعٍ الآخَرِ، ثُمَّ لا عَهْدَ لَهُمْ، فَآذَنَ النّاسَ كُلَّهم بِالقِتالِ إلّا أنْ يُؤْمِنُوا، فَآمَنَ النّاسُ أجْمَعُونَ.
وفِي سِيرَةِ ابْنِ إسْحاقَ: حَدَّثَنا يُونُسُ - يَعْنِي ابْنَ بَكِيرٍ - عَنْ أسْباطِ بْنِ نَصْرٍ الهَمْدانِيِّ عَنْ إسْماعِيلَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّدِّيِّ ﴿فَسِيحُوا في الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ﴾ [التوبة: ٢] (p-٣٦٨)قالَ: عِشْرِينَ مِن ذِي الحِجَّةِ إلى عَشْرٍ مِن رَبِيعٍ الآخَرِ ثُمَّ لا أمانَ لِأحَدٍ ولا عَهْدَ إلّا السَّيْفَ أوِ الإسْلامَ؛ وقالَ ابْنُ هِشامٍ: حَتّى إذا كانَ يَوْمُ النَّحْرِ قامَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأذَّنَ في النّاسِ بِالَّذِي أمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وأجَّلَ النّاسَ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ مِن يَوْمِ أذَّنَ فِيهِمْ لِيَرْجِعَ كُلُّ قَوْمٍ إلى مَأْمَنِهِمْ؛ ولِلتِّرْمِذِيِّ «عَنْ زَيْدِ بْنِ أُثَيْعٍ قالَ: سَألْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: بِأيِّ شَيْءٍ بُعِثْتَ؟ قالَ: بِأرْبَعٍ: لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ إلّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، ولا يَطُوفَ بِالبَيْتِ عُرْيانٌ، ولا يَجْتَمِعُ المُسْلِمُونَ والمُشْرِكُونَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذا، ومَن كانَ بَيْنَهُ وبَيْنَ النَّبِيِّ ﷺ عَهْدٌ فَعَهْدُهُ إلى مُدَّتِهِ ومَن لا مُدَّةَ لَهُ فَأرْبَعَةُ أشْهُرٍ». ونَقَلَ ابْنُ سَيِّدِ النّاسِ عَنِ ابْنِ عائِذٍ أنَّهُ لَمّا ضَرَبَ لِلْمُشْرِكِينَ هَذا الأجَلَ قالُوا: بَلِ الآنَ لا نَبْتَغِي تِلْكَ المَدَّةَ، نَبْرَأُ مِنكَ ومِنَ ابْنِ عَمِّكَ إلّا بِالضَّرْبِ والطَّعْنِ؛ فَحَجَّ النّاسُ عامَهم ذَلِكَ، فَلَمّا رَجَعُوا رَغَّبَ اللَّهُ المُشْرِكِينَ فَدَخَلُوا في الإسْلامِ طَوْعًا وكَرْهًا. وصَدَقَ اللَّهُ ورَسُولُهُ فَلَمْ يَحُجَّ بَعْدَ ذَلِكَ العامِ مُشْرِكٌ، ولَمْ يَطُفْ بِالبَيْتِ عُرْيانٌ. وقَدْ ورَدَتْ نُصُوصٌ وظَواهِرُ في كَثِيرٍ مِن سُورَةِ بَراءَةَ أنَّهُ نَزَلَ قَبْلَ الرُّجُوعِ عَنْ تَبُوكَ أوْ قَبْلَ الِاعْتِذارِ، فَمِنَ النُّصُوصِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَوْ كانَ عَرَضًا قَرِيبًا وسَفَرًا قاصِدًا لاتَّبَعُوكَ ولَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ﴾ [التوبة: ٤٢] (p-٣٦٩)وقَوْلُهُ: ﴿فَإنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إلى طائِفَةٍ مِنهم فاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أبَدًا﴾ [التوبة: ٨٣] - الآياتِ.
﴿يَعْتَذِرُونَ إلَيْكم إذا رَجَعْتُمْ إلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكم قَدْ نَبَّأنا اللَّهُ مِن أخْبارِكُمْ﴾ [التوبة: ٩٤] إلى أنْ قالَ: ﴿سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكم إذا انْقَلَبْتُمْ إلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ﴾ [التوبة: ٩٥] وأمّا الظَّواهِرُ فَإنَّ الواقِدِيَّ قالَ في سِيرَتِهِ فَأُنْزِلَ مِنَ القُرْآنِ في غَزْوَةَ تَبُوكَ، ثُمَّ ذَكَرَ أكْثَرَ سُورَةِ بَراءَةَ. وقالَ هو وغَيْرُهُ مِن أصْحابِ السِّيَرِ:“وكانَ رَهْطٌ مِنَ المُنافِقِينَ يَسِيرُونَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ في تَبُوكَ مِنهم ودِيعَةُ بْنُ ثابِتٍ - فَذَكَرَ القِصَّةَ الَّتِي فِيها أنَّ بَعْضَهم قالَ تَرْهِيبًا لِلْمُؤْمِنِينَ: أتَحْسَبُونَ قِتالَ بَنِي الأصْفَرِ كَقِتالِ غَيْرِهِمْ؟ واللَّهِ لَكَأنّا بِكم غَدًا مُقَرَّنِينَ في الحِبالِ، وقالَ كُلٌّ مِنهم شَيْئًا إلى أنْ قالَ: فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِعَمّارِ بْنِ ياسِرٍ: أدْرِكِ القَوْمَ؛ فَإنَّهم قَدِ احْتَرَقُوا فَسَلْهم عَمّا قالُوا، فَإنْ أنْكَرُوا فَقُلْ: بَلى، قُلْتُمْ كَذا وكَذا - إلى أنْ قالَ: إنَّ بَعْضَهم قالَ: إنَّما كُنّا نَخُوضُ ونَلْعَبُ! فَأنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ: ﴿ولَئِنْ سَألْتَهم لَيَقُولُنَّ إنَّما كُنّا نَخُوضُ ونَلْعَبُ﴾ [التوبة: ٦٥] - إلى قَوْلِهِ: - ﴿بِأنَّهم كانُوا مُجْرِمِينَ﴾ [التوبة: ٦٦] ثُمَّ قالَ: وجاءَ الجُلّاسُ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَحَلَفَ ما قالَ مِن ذَلِكَ شَيْئًا، وكانَ قَدْ قالَ: إنْ كانَ مُحَمَّدٌ صادِقًا فَنَحْنُ شَرٌّ مِنَ الحَمِيرِ، فَأنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ فِيهِ: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا ولَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ﴾ [التوبة: ٧٤] - إلى آخِرِها، فاعْتَرَفَ الجُلّاسُ حِينَئِذٍ (p-٣٧٠)وتابَ وحَسُنَتْ تَوْبَتُهُ"، وذَكَرَ مَسْجِدَ الضِّرارِ وأنَّ أهْلَهُ كانُوا سَألُوا النَّبِيَّ ﷺ وهو مُتَجَهِّزٌ إلى تَبُوكَ أنْ يُصَلِّيَ لَهم فِيهِ فاعْتَذَرَ إلَيْهِمْ بِشُغْلِهِ بِالسَّفَرِ ووَعَدَهم أنْ يُصَلِّيَ فِيهِ إذا رَجَعَ، فَلَمّا نَزَلَ ﷺ بِذِي أوانَ - قالَ ابْنُ هِشامٍ: بَلَدٌ بَيْنَهُ وبَيْنَ المَدِينَةِ ساعَةٌ مِن نَهارٍ - أتاهُ خَبَرُهُ وخَبَرُ أهْلِهِ مِنَ السَّماءِ، فَدَعا اثْنَيْنِ مِن أصْحابِهِ فَأمَرَهُما بِهِ فَأحْرَقاهُ، وتَفْرَّقَ أهْلُهُ ونَزَلَ فِيهِ مِنَ القُرْآنِ ما نَزَلَ ﴿والَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرارًا وكُفْرًا﴾ [التوبة: ١٠٧] - إلى آخِرِ القِصَّةِ؛ قالَ الواقِدِيُّ: وكانَ عاصِمَ بْنُ عَدِيٍّ يَقُولُ: كُنّا نَتَجَهَّزُ إلى تَبُوكَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فَرَأيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ نَبْتَلٍ وثَعْلَبَةَ بْنَ حاطِبٍ قائِمَيْنِ عَلى المَسْجِدِ الضِّرارِ - إلى أنْ قالَ: فَواللَّهِ ما رَجَعْنا مِن سَفَرِنا حَتّى نَزَلَ القُرْآنُ بِذَمِّهِ وذَمِّ أهْلِهِ.
﴿والَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرارًا﴾ [التوبة: ١٠٧] - إلى آخِرِها، ومِن ذَلِكَ تَسْمِيَتُها بِالفاضِحَةِ، فَلَوْلا نُزُولُها قَبْلَ مَعْرِفَةِ أخْبارِهِمْ لَمْ تَكُنْ فاضِحَةً، وهي في الظّاهِرِ لِلْمُعاهِدِينَ وفي الباطِنِ مُشِيرَةٌ إلى أهْلِ الرِّدَّةِ وأنْ لا يُقْبَلَ مِنهم إيمانٌ ما لَمْ يَجْمَعُوا بَيْنَ الصَّلاةِ والزَّكاةِ كَما فَهِمَ أبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وأُقِيمَتْ عَلى ذَلِكَ قَرائِنُ مِنها تَكْرِيرُ الجَمْعِ بَيْنَ الصَّلاةِ والزَّكاةِ في سِياقِ الإيمانِ تَكْرِيرًا لَمْ يَكُنْ في غَيْرِها مِنَ السُّوَرِ، فَهي مِن أعْلامِ النُّبُوَّةِ؛ (p-٣٧١)ورَوى أبُو مُحَمَّدٍ إسْحاقُ بْنُ إبْراهِيمَ القاضِي البَسْتِيُّ في تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قالَ: إنَّ هَذا الإسْلامَ ثَلاثُونَ سَهْمًا: عَشْرٌ مِنها في بَراءَةَ، وعَشْرٌ في الأحْزابِ، وعَشْرٌ في المُؤْمِنِينَ وسَألَ سائِلٌ.
{"ayah":"بَرَاۤءَةࣱ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۤ إِلَى ٱلَّذِینَ عَـٰهَدتُّم مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق