الباحث القرآني

ولَمّا كانَ تَعاقُبُ اللَّيْلِ والنَّهارِ أدُلَّ عَلى القُدْرَةِ وأظْهَرَ في النِّعْمَةِ، قالَ رادًّا لِآخِرِ القِسْمِ عَلى أوَّلِهِ، ومُذَكَّرًا بِالنِّعْمَةِ وكَمالِ القُدْرَةِ، لِأنَّ اللَّيْلَ أخْفاهُما سُرى وسِرًّا، فَهو أعْظَمُهُما في ذَلِكَ أمْرًا، لِأنَّ سَيْرَ النَّهارِ ظاهِرٌ لِسَرايَتِهِ بِخِلافِ اللَّيْلِ فَإنَّهُ مَحْوى صَرْفِهِ فَكانَ أدَلَّ عَلى القُدْرَةِ ﴿واللَّيْلِ﴾ أيْ مِن لَيْلَةِ النَّفَرِ ﴿إذا يَسْرِ﴾ أيْ يَنْقَضِي كَما (p-٢٣)يَنْقَضِي لَيْلُ الدُّنْيا وظَلامُ ظُلْمِها فَيَخْلُفُهُ الفَجْرَ ويُسْرى فِيهِ الَّذِينَ آبُوا إلى اللَّهِ راجِعِينَ إلى دِيارِهِمْ بَعْدَ حَطِّ أوْزارِهِمْ، [وقَدْ رَجَعَ آخِرُ القَسَمِ عَلى أوَّلِهِ -] وأثْبَتَ الياءَ في يَسْرِي ابْنُ كَثِيرٍ ويَعْقُوبُ وحَذَفَها الباقُونَ، وعِلَّةُ حَذْفِها قَدْ سَألَ عَنْها المُؤَرَّجُ الأخْفَشُ فَقالَ: اخْدِمْنِي سَنَةً، فَسَألَهُ بَعْدَ سَنَةٍ فَقالَ: اللَّيْلُ يُسْرى فِيهِ ولا يَسْرِي، فَعَدَلَ بِهِ عَنْ مَعْناهُ فَوَجَبَ أنْ يَعْدِلَ عَنْ لَفْظِهِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا﴾ [مريم: ٢٨] لِما عَدَلَ عَنْ ”باغِيَةِ“ عَدَلَ لَفْظُهُ فَلَمْ يَقُلْ: بُغْيَةً - انْتَهى، وهو يَرْجِعُ إلى اللَّفْظِ مَعَ أنَّهُ يَلْزَمُ مِنهُ رَدُّ رِواياتِ الإثْباتَ، والحِكْمَةُ المَعْنَوِيَّةُ فِيهِ - واللَّهُ أعْلَمُ - مِن جِهَةِ السّارِي وما يَقَعُ السُّرى فِيهِ، فَأمّا مِن جِهَةِ السّارِي فانْقِسامُهم لَيْلَةَ النَّفَرِ إلى مُجاوِرٍ وراجِعٍ إلى بِلادِهِ، فَأُشِيرَ إلى المُجاوِرِينَ بِالحَذْفِ حَثًّا عَلى ذَلِكَ لِما فِيهِ مِن جَلالَةِ المَسالِكِ، فَكانَ لَيْلُ وِصالِهِمْ ما انْقَضى كُلُّهُ، فَهم يَغْتَنِمُونَ حُلُولَهُ ويَلْتَذُّونَ طُولَهُ مِن تِلْكَ المَشاهِدِ والمَشاعِرِ والمَعاهِدِ، وإلى الرّاجِعِينَ بِالإثْباتِ لِما سَرى اللَّيْلُ بِحَذافِيرِهِ عَنْهم آبُوا راجِعِينَ إلى دِيارِهِمْ فِيما انْكَشَفَ مِن نَهارِهِمْ، وأمّا مِن جِهَةِ ما وقَعَ فِيهِ السُّرى فَلِلْإشارَةِ إلى طُولِهِ تارَةً وقِصَرِهِ أُخْرى، فالحَذْفُ إشارَةٌ إلى القَصِيرِ [و] الإثْباتُ إشارَة إلى الطَّوِيلِ بِما وقَعَ مِن تَمامِ سِراهُ وما (p-٢٤)وقَعَ لِلسّارِينَ فِيهِ مِن قِيامِ وصْفِ الأقْدَمِ بَيْنَ يَدَيِ المَلِكِ العَلّامِ كَما قالَ الإمامُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ دَقِيقِ العِيدِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى حَيْثُ قالَ مُشِيرًا لِذَلِكَ: ؎كَمْ لَيْلَةً فِيكَ وصَلْنا السُّرى ∗∗∗ لا نَعْرِفُ الغَمْضَ ولا نَسْتَرِيحُ الأبْياتُ المَذْكُورَةُ عَنْهُ في المُزَّمِّلِ، فَقَدِ انْقَسَمَ اللَّيْلُ إلى ذِي طُولٍ وقِصَرٍ، والسّارِي فِيهِ إلى ذِي حَضَرٍ وسَفَرٍ، فَدَلَّتِ المُفاوَتَةُ في ذَلِكَ وفي جَمِيعِ أفْرادِ القَسَمِ عَلى أنَّ فاعِلَها قادِرٌ مُخْتارٌ واحِدٌ قَهّارٌ، ولِذَلِكَ أتْبَعَهُ الدَّلالَةَ بِقَهْرِ القَهّارِينَ وإبارَةِ الجَبّارِينَ، وأمّا ”بَغِيٌّ“ فَذُكِرَتْ حِكْمَتُهُ في مَرْيَمَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب