الباحث القرآني

(p-٣١٠)ولَمّا أيْأسَهُ مِن تَقْواهم بِما اشْتَمَلُوا عَلَيْهِ مِن تَكْرِيرِ النَّقْضِ النّاشِئِ عَنْ غايَةِ الحَسَدِ وصَلابَةِ الرِّقابِ وقَساوَةِ القُلُوبِ والقَساوَةِ عَلى الكُفْرِ، أمَرَهُ بِما يُوهِنُ قُواهم ويَحِلُّ عُراهم مِن إلْباسِ اليَأْسِ بِإنْزالِ البَأْسِ كَما جَرَتْ عادَتُهُ سُبْحانَهُ أنَّهُ يُوصِيهِ بِالرِّفْقِ بِبَعْضِ النّاسِ لِعِلْمِهِ أنَّ عَمَلَهُ يَزْكُو لِبُنْيانِهِ عَلى أحْسَنِ أساسٍ، فَقالَ مُؤَكِّدًا لِأجْلِ ما جُبِلَ عَلَيْهِ ﷺ مِن مَحَبَّةِ الرِّفْقِ: ﴿فَإمّا تَثْقَفَنَّهُمْ﴾ أيْ: تُصادِفَنَّهم وتَظْفَرَنَّ بِهِمْ، ﴿فِي الحَرْبِ﴾ أيِ: الَّتِي مِن شَأْنِها أنْ يُحْرَبَ فِيها المُبْطِلُ، ويَرْبَحَ المُحِقُّ المُجْمَلُ، ﴿فَشَرِّدْ بِهِمْ مَن خَلْفَهُمْ﴾ أيْ: فَنَكِّلْ بِهِمْ تَنْكِيلًا يُصَدِّعُ ويُفَرِّقُ عَنْ مُحارَبَتِكَ مَن وراءَهم مِمَّنْ هو عَلى مِثْلِ رَأْيِهِمْ في المُنافَرَةِ لَكَ ولا تَتْرُكَنَّهم أصْلًا؛ لِأنَّ أتْباعَكَ أمْهَرُ مِنهم وأحْذَقُ، فَهم لِذَلِكَ أثْبَتُ وأمْكَنُ، فَإذا أوْقَعْتَ بِهِمْ ذَلِكَ لَمْ يَجْسُرْ عَلَيْكَ أحَدٌ بَعْدَهُ اتِّعاظًا بِهِمْ واعْتِبارًا بِحالِهِمْ؛ ومادَّةُ شَرَدَ بِكُلِّ تَرْتِيبٍ تَدُورُ عَلى النُّفُوذِ، فَإنْ كانَ عَلى قَصْدٍ وسَنَنٍ فَهو رُشْدٌ ويَلْزَمُهُ الِاجْتِماعُ، وإنْ كانَ عَلى غَيْرِ سَنَنٍ وجامِعِ اسْتِقامَةٍ فَهو شُرُودٌ، ودَرْشَةٌ، أيْ: لَجاجَةٌ ويَلْزَمُهُ التَّفَرُّقُ؛ قالَ ابْنُ فارِسٍ: شَرَدَ البَعِيرُ شُرُودًا وشَرَدْتُ بِهِ تَشْرِيدًا، فَأمّا قَوْلُهُ: ﴿فَشَرِّدْ بِهِمْ﴾ فالمُرادُ نَكِّلْ بِهِمْ (p-٣١١)وسَمِّعْ، قالَ القَزّازُ: شَرَّدْتُ الرَّجُلَ تَشْرِيدًا - إذا طَرَدْتَهُ، وشَرَّدْتَ بِهِ - إذا سَمَّعْتَ بِهِ وذَكَرْتَ عُيُوبَهُ لِلنّاسِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَشَرِّدْ بِهِمْ﴾ أيِ: اجْعَلْهم مُطَرَّدِينَ. انْتَهى. فالمُرادُ: المُبالَغَةُ في الإيقاعِ بِهِمْ لِأنَّهم إذا ضُرِبُوا ضَرْبَةً تَفَرَّقُوا فِيها عَلى غَيْرِ وجْهٍ ولا انْتِظامِ عِلْمِ مَن شَرَدُوا إلَيْهِ مِمَّنْ وراءَهم أنَّهُ قَدْ تَناهى بِهِمُ الذُّعْرُ فَذُعِرَ هو فَوَقَعَ في الشُّرُودِ قُوَّةً أوْ فِعْلًا، فَعَلى قِراءَةِ مَن جَعَلَ ”مِن“ حَرْفَ جَرٍّ يَكُونُ المَفْعُولُ مَحْذُوفًا، والتَّقْدِيرُ: أوْقِعْ - بِما تَفْعَلُ بِهَؤُلاءِ مِنَ الأُمُورِ الهائِلَةِ - التَّشْرِيدَ في المَكانِ الَّذِي خَلْفَهم بِشُرُودِ مَن فِيهِ قُوَّةً أوْ فِعْلًا بِما سَمِعُوا أوْ رَأوْا مِن حالِ هَؤُلاءِ حِينَ واجَهُوكَ لِلْقِتالِ، وعَلى قِراءَةِ مَن جَعَلَها اسْمًا مَوْصُولًا تَكُونُ هي المَفْعُولَ، فالمَعْنى: شَرِّدِ الَّذِينَ خَلْفَهم مِن أماكِنِهِمْ إمّا بِالفِعْلِ أوْ بِالقُوَّةِ بِأنْ تَفْتَرِقَ قُلُوبُهم بِما تَفْعَلُ بِهَؤُلاءِ فَتَصِيرُ - بِما تَرى مِن قَبِيحِ حالِهِمْ - قابِلَةً لِلشُّرُودِ، ويَكُونُ اخْتِلافُ المَعْنى بِالتَّبْعِيضِ في جَعْلِ ”مِن“ حَرْفَ جَرٍّ والتَّعْمِيمِ في جَعْلِها مَوْصُولًا بِالنَّظَرِ إلى القُوَّةِ أوِ الفِعْلِ. ولَمّا ذَكَرَ الحُكْمَ، ذَكَرَ ثَمَرَتَهُ بِأداةِ التَّرَجِّي إدارَةً لَهُ عَلى الرَّجاءِ فَقالَ: ﴿لَعَلَّهُمْ﴾ أيِ: المُشَرَّدِينَ والمُشَرَّدَ بِهِمْ ﴿يَذَّكَّرُونَ﴾ ما سَبَقَ مِن أيّامِ اللَّهِ فَيَعْلَمُوا أنَّ هَذِهِ أفْعالُهُ، وهَؤُلاءِ رِجالُهُ، فَيَنْفَعُهم ذَلِكَ فَلا يَنْقُضُوا عَهْدًا بَعْدَهُ، ولَقَدْ فَعَلَ بِهِمْ ﷺ ذَلِكَ فَإنَّهم إنْ كانُوا بَنِي قُرَيْظَةَ فَقَدْ ضَرَبَهم ﷺ ضَرْبَةً لَمْ يُفْلِتْ مِنهم مُخْبِرٌ، بَلْ (p-٣١٢)ضَرَبَ أعْناقَهم في حَفائِرَ في سُوقِ المَدِينَةِ وكانُوا نَحْوَ سَبْعِمِائَةٍ عَلى دَمٍ واحِدٍ. إلّا مَن أسْلَمَ مِنهم وهم يَسِيرٌ، وسَبى ذَرارِيَّهم ونِساءَهم وغَنِمَ أمْوالَهُمْ، وإنْ كانُوا قَيْنُقاعَ فَقَدْ نَزَلَ بِساحَتِهِمْ بَعْدَ نَقْضِهِمْ وإظْهارِهِمْ غايَةُ الِاسْتِخْفافِ والعِنادِ فَلَمْ يَكْبِتْهُمُ اللَّهُ أنْ جَعَلَهم في قَبْضَتِهِ وما بَقِيَ إلّا ضَرْبُ أعْناقِهِمْ كَما وقَعَ لِبَنِي قُرَيْظَةَ فَسَألَهُ فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ المُنافِقُ وألَحَّ عَلَيْهِ ﷺ في أمْرِهِمْ وكانَ يَأْلَفُهُ ويَتَألَّفُ بِهِ فَتَرَكَهم لَهُ ﷺ وأجْلاهم مِنَ المَدِينَةِ، وكانَتْ واقِعَتُهم أوَّلَ وقائِعِ اليَهُودِ بِالمَدِينَةِ، وإنْ كانُوا بَنِي النَّضِيرِ فَقَدْ نَقَضُوا أيْضًا فَأحاطَ بِهِمْ، ومَنّاهُمُ المُنافِقُونَ الغُرُورَ فَقَذَفَ اللَّهُ الرُّعْبَ في قُلُوبِهِمْ فَسَألُوهُ ﷺ أنْ يُجْلِيَهم ويَكُفَّ عَنْ دِمائِهِمْ فَفَعَلَ، ثُمَّ أتَمَّ اللَّهُ لَهُ الأمْرَ فِيهِمْ في خَيْبَرَ ووادِي القُرى وغَيْرِهِما إلى أنْ لَمْ يَدَعْ مِنهم في جَزِيرَةِ العَرَبِ فَرِيقًا إلّا ضَرَبَهُ بِالذُّلِّ وأجْرى عَلَيْهِ الهَوانَ والصَّغارَ، ووَقائِعُهُ فِيهِمْ مَشْهُورَةُ الخَبَرِ مَعْرُوفَةٌ في السِّيَرِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب