الباحث القرآني

ولَمّا ذَكَّرَهم ما كانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ الهِجْرَةِ مِنَ الضَّعْفِ، وامْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِما أعَزَّهم بِهِ، وخَتَمَ هَذِهِ بِالتَّحْذِيرِ مِنَ الأمْوالِ والأوْلادِ المُوقِعَةِ في الرَّدى، وبِتَعْظِيمِ ما عِنْدَهُ الحامِلِ عَلى الرَّجاءِ، تَلاها بِالأمْرِ بِالتَّقْوى النّاهِيَةِ عَنِ الهَوى بِالإشارَةِ إلى الخَوْفِ مِن سَطَواتِهِ إشارَةً إلى أنَّهُ يَجِبُ الجَمْعُ (p-٢٦٣)بَيْنَهُما، وبَيَّنَ تَعالى أنَّهُ يَتَسَبَّبُ عَنْهُ الأمْنُ مِن غَيْرِهِ في الأُولى والنَّجاةُ مِن عَذابِهِ في الأُخْرى فَقالَ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا﴾ تَكْرِيرًا لِهَذا الوَصْفِ تَذْكِيرًا بِما يَلْزَمُ بِادِّعائِهِ: ﴿إنْ تَتَّقُوا اللَّهَ﴾ بِإصْلاحِ ذاتِ بَيْنِكُمْ، وذَلِكَ جامِعٌ لِأمْرِ الدِّينِ كُلِّهِ ﴿يَجْعَلْ لَكم فُرْقانًا﴾ أيْ: نَصْرًا؛ لِأنَّ مادَّةَ ”فَرَقَ“ تَرْجِعُ إلى الفَصْلِ، فَكَأنَّ الشَّيْءَ إذا كانَ مُتَّصِلًا كانَ كُلُّ جُزْءٍ مِنهُ مَقْهُورًا عَلى مُلازَمَةِ صاحِبِهِ، فَإذا جُعِلَ لَهُ قُوَّةُ الفَرْقِ قَدَرَ عَلى الِاتِّصالِ والِانْفِصالِ، فَحَقِيقَتُهُ: يَجْعَلْ لَكم عِزًّا تَصِيرُونَ بِهِ بِحَيْثُ تَفْتَرِقُونَ مِمَّنْ أرَدْتُمْ مَتى أرَدْتُمْ وتَتَّصِلُونَ بِمَن أرَدْتُمْ مَتى أرَدْتُمْ لِما عِنْدَكم مِن عِزَّةِ المُمانَعَةِ، وتُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَن أرَدْتُمْ مَتى أرَدْتُمْ لِما لَدَيْكم مِن قُوَّةِ المُدافَعَةِ، أيْ: يَجْعَلُ لَكم ما يَصِيرُ لَكم بِهِ قُوَّةُ التَّصَرُّفِ فِيما تُرِيدُونَ مِنَ الفَصْلِ والوَصْلِ الَّذِي هو وظِيفَةُ السّادَةِ المَرْجُوعِ إلى قَوْلِهِمْ عِنْدَ التَّنازُعِ، لا كَما كُنْتُمْ في مَكَّةَ، لا تَأْمَنُونَ في المَقامِ ولا تَقْدِرُونَ عَلى الكَلامِ - فَضْلًا عَنِ الخِصامِ - إلّا عَلى تَهَيُّبٍ شَدِيدٍ، ومَعَ ذَلِكَ فَلا يُؤَثِّرُ كَلامُكم أثَرًا يُسَمّى بِهِ فارِقًا، والفارُوقُ مِنَ النّاسِ الَّذِي يُفَرِّقُ بَيْنَ الأُمُورِ ويَفْصِلُها، وبِهِ سُمِّيَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأنَّهُ أظْهَرَ الإسْلامَ بِمَكَّةَ إظْهارًا فِيهِ عِزٌّ وقُوَّةٌ، جَعَلَ فِيهِ الإيمانَ مُفارِقًا لِلْكُفْرِ لا يَخافُهُ، وفَرِقَ - بِالكَسْرِ بِمَعْنى خافَ - يَرْجِعُ إلى ما دارَتْ عَلَيْهِ المادَّةُ، فَإنَّ المُرادَ بِهِ: تَفَرَّقَتْ هُمُومُهُ مِنَ اتِّساعِ الخَوْفِ، والفَرَقُ الَّذِي هو المِكْيالُ الكَبِيرُ كَأنَّهُ هو الفارِقُ بَيْنَ الغَنِيِّ والفَقِيرِ، قالَ الهَرَوِيُّ: هو اثْنا عَشَرَ مُدًّا: وأفْرَقَ مِن عِلَّتِهِ - (p-٢٦٤)إذا بَرِئَ، أيْ: صارَتْ لَهُ حالَةٌ فَرَّقَتْ بَيْنَ صِحَّتِهِ ومَرَضِهِ الَّذِي كانَ بِهِ، ومِنهُ الفَرِيقَةُ وهي تَمْرٌ وحُلْبَةٌ يُطْبَخُ لِلنُّفَساءِ؛ وقَرِفْتُ الشَّيْءَ - بِتَقْدِيمِ القافِ: قَشَرْتَهُ، والقَرْفُ: الخَلْطُ، كَأنَّهُ مِنَ الإزالَةِ؛ لِأنَّهم قالُوا: إنَّ ”فَعَلَ“ يَدْخُلُ في كُلِّ بابٍ، ومِنهُ: قَرَفَ الشَّيْءَ واقْتَرَفَهُ: اكْتَسَبَهُ، والِاقْتِرافُ بِمَعْنى الجِماعِ، ويُمْكِنُ أنْ يَرْجِعَ إلى الوِعاءِ لِأنَّ القَرَفَ الوِعاءُ؛ لِأنَّهُ يَفْصِلُ مَظْرُوفَهُ عَنْ غَيْرِهِ، وفُلانٌ قِرْفَتِي، أيْ: مَوْضِعُ ظَنِّي مِنهُ كَأنَّهُ صارَ وِعاءٌ لِذَلِكَ، وفَرَسٌ مُقْرِفٌ، أيْ: بَيِّنُ القِرْفَةِ، أيْ: هَجِينٌ لِأنَّهُ واضِحُ التَّمَيُّزِ مِنَ العَرَبِيِّ، وقُرِفَ بِسُوءٍ: رُمِيَ بِهِ، أيْ: جُعِلَ وِعاءً لَهُ أوْ فَرَّقَ هُمُومَهُ؛ والقَفْرُ - بِتَقْدِيمِ القافِ: المَكانُ الخالِي لِانْفِصالِهِ مِنَ النّاسِ، وأقْفَرَ المَكانُ: خَلا، وأقْفَرَ الرَّجُلُ مِن أهْلِهِ: انْفَرَدَ عَنْهُمْ، وقَفَرَ الطَّعامُ: خَلا مِنَ الأُدْمِ، ورَجُلٌ قَفْرُ الرَّأْسِ: لا شَعْرَ عَلَيْهِ لِانْفِصالِهِ عَنْهُ، وقَفْرُ الجَسَدِ: لا لَحْمَ عَلَيْهِ، والقِفارُ: الطَّعامُ لا أُدْمَ لَهُ، واقْتَفَرْتُ الأثَرَ: اتَّبَعْتَهُ لِتَفْصِلَهُ مِن غَيْرِهِ؛ والفِقْرَةُ - بِتَقْدِيمِ الفاءِ - والفَقارُ: ما تَنَضَّدَ مِن عِظامِ الصُّلْبِ مِن لَدُنِ الكاهِلِ إلى العَجَبِ لِتُمَيَّزِ كُلِّ واحِدَةٍ عَنْ أُخْتِها، وفَقَرْتُ الأرْضَ فَقْرًا: حَفَرْتُها حَفْرًا، (p-٢٦٥)فَصارَتْ كُلُّ واحِدَةٍ مُنْفَصِلَةً مِنَ الأُخْرى، والفاقِرَةُ: الدّاهِيَةُ الكاسِرَةُ لِلْفَقارِ، ومِنهُ الفَقْرُ والِافْتِقارُ لِلْحاجَةِ، وأفْقَرَنِي دابَّتَهُ: أعارَنِي ظَهْرَها، ورامَيْتُهُ مِن أدْنى فِقْرَةٍ: مِن أدْنى مَعْلَمٍ لِأنَّ المَعالِمَ مُنْفَصِلٌ بَعْضُها عَنْ بَعْضٍ، والتَّقَفُّرُ في رِجْلِ الدّابَّةِ بَياضٌ لِانْفِصالِهِ عَنْ بَقِيَّةِ لَوْنِها، ورَفِقْتُ بِالأمْرِ: لَطَفْتُ بِهِ، ولا يَكُونُ ذَلِكَ إلّا بِفَصْلِهِ عَمّا يَضُرُّهُ، ومِنهُ الرَّفِيقُ لِلصّاحِبِ مِنَ الرُّفْقَةِ، والمِرْفَقُ مِن ذَلِكَ لِما يَحْصُلُ بِهِ مِنَ اللُّطْفِ. ولَمّا كانَ الإنْسانُ مَحَلَّ النُّقْصانِ فَلا يَخْلُو مِن زَلَّةٍ أوْ هَفْوَةٍ، أشارَ إلى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿ويُكَفِّرْ عَنْكم سَيِّئاتِكُمْ﴾ أيْ: يَسْتُرُها ما دُمْتُمْ عَلى التَّقْوى ﴿ويَغْفِرْ لَكُمْ﴾ أيْ: يَمْحُو ما كانَ مِنكم غَيْرَ صالِحٍ عَيْنًا وأثَرًا، وفِيهِ تَنْبِيهٌ لَهم عَلى أنَّ السّاداتِ عَلى خَطَرٍ عَظِيمٍ لِأنَّهم مَأْمُورُونَ بِالمُساواةِ بَيْنَ النّاسِ، والنَّفْسُ مَجْبُولَةٌ عَلى تَرْجِيحِ مَن لاءَمَها عَلى مَن نافَرَها، وإشارَةٌ إلى أنَّ الحُكْمَ بِالعَدْلِ في أعْلى الدَّرَجاتِ لا يَتَسَنَّمُهُ إلّا الفَرْدُ النّادِرُ، وقَوْلُهُ: ﴿واللَّهُ﴾ أيِ: المُحِيطُ بِجَمِيعِ صِفاتِ الكَمالِ ﴿ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ﴾ مُرَجٍّ لِلزِّيادَةِ عَلى الكَفّارَةِ والمَغْفِرَةِ مِن فَضْلِهِ، ومُعْلِمٌ بِأنَّهُ لا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَمِنَ المُمْكِنِ أنْ يُلْزِمَ كُلًّا مِنهم طَرِيقَ العَدْلِ وإنْ كانَتْ مِن خَرْقِ العادَةِ في أعْلى مَحَلٍّ، وفي الآيَةِ أعْظَمُ مُناسَبَةٍ لِقِصَّةِ أبِي لُبابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأنَّهُ لَمّا كانَ الحامِلُ لَهُ عَلى ما فَعَلَ بِنَفْسِهِ مِنَ العُقُوبَةِ التَّقْوى، فَكُفِّرَتْ عَنْهُ خَطِيئَتُهُ وغُفِرَ لَهُ، (p-٢٦٦)عُقِّبَتْ بِها تَرْغِيبًا لِغَيْرِهِ في الإسْراعِ بِالتَّوْبَةِ عِنْدَ مُواقَعَةِ الهَفْوَةِ، وخَتَمَ هَذِهِ الآيَةَ بِالفَضْلِ عَلى ما كانَ مِن نَقْصٍ، إشارَةً إلى تَفَضُّلِهِ سُبْحانَهُ بِما رَزَقَ أهْلَ الإسْلامِ مِن عُلُوِّ المَنزِلَةِ وانْتِشارِ الهَيْبَةِ وفَخامَةِ الأمْرِ في قُلُوبِ المُخالِفِينَ كَما هو مُشاهَدٌ، وخَتَمَ الآيَةَ المُحَذِّرَةَ مِنَ المُداهَنَةِ بِشَدِيدِ العِقابِ، إشارَةً إلى ما ألْبَسَهم مِنَ الأحْوالِ المَذْكُورَةِ في الَّتِي تَلِيها مِن قِلَّةِ مَنَعَتِهِمْ واسْتِضْعافِهِمْ وخَوْفِهِمْ مِن تَخَطُّفِ المُخالِفِينَ لَهُمْ، ولَكِنَّهُ تَعالى رَحِمَهم بِأنْ جَعَلَ ذَلِكَ مِن بَعْضِهِمْ مِمَّنْ يَشْمَلُهُ اسْمُ الإسْلامِ لِبَعْضٍ، لا مِن غَيْرِهِمْ فَلَبَّسَهم شِيَعًا وأذاقَ بَعْضَهم بَأْسَ بَعْضٍ، فَكُلٌّ خائِفٌ مِنَ الآخَرِ، وصارَ المُتَّقِي مِن كَثْرَةِ المُخالِفِ لا يَزالُ مِنَ المَعاطِبِ والمَتالِفِ خائِفًا يَتَرَقَّبُ، ومُباعِدًا لا يَقْرُبُ، عَلى أنَّهم لا يَعْدَمُونَ أنْصارًا يُؤَيِّدُهُمُ اللَّهُ بِهِمْ، ولا يَزالُ أهْلُ الظُّلْمِ يَخْتَلِفُونَ فِيما بَيْنَهم فَيَرْجِعُ الفَرِيقانِ إلَيْهِمْ ويُعَوِّلُونَ عَلَيْهِمْ، فَمَن نَصَرُوهُ فَهو المَنصُورُ، فَكَلامُهم عِنْدَ المَضايِقِ هو الفُرْقانُ، ولَهم في قُلُوبِ الظّالِمِينَ هَيْبَةٌ وإنْ نَزَلَتْ بِهِمُ الحالُ أكْثَرَ مِمّا لِلظَّلَمَةِ في قُلُوبِهِمْ مِنَ الهَيْبَةِ لِيَتَيَقَّنَ الكُلُّ أنَّهم عَلى الحَقِّ الَّذِي اللَّهُ ناصِرُهُ، وأنَّ أهْلَ الشَّرِّ عَلى الباطِلِ الَّذِي اللَّهُ خاذِلُهُ، قالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في حَقِّ العالِينَ في الأرْضِ: أما واللَّهِ! إنَّ لِلْمَعْصِيَةِ في قُلُوبِهِمْ لَذُلًّا وإنْ طَفْطَفَ (p-٢٦٧)بِهِمُ اللَّحْمُ، فَقَدِ انْقَسَمَ الخَوْفُ بَيْنَهم نِصْفَيْنِ وشَتّانَ ما بَيْنَ الحِزْبَيْنِ، فَخَوْفُهم يَزِيدُهُمُ اللَّهُ بِهِ أجْرًا ويَجْعَلُهُ لَهم ذُخْرًا، وخَوْفُ أهْلِ الباطِلِ يَزِيدُهم بِهِ وِزْرًا ويَجْعَلُهُ لِدِينِهِ أزْرًا، فَهَذِهِ حَقِيقَةُ الحالِ في وصْفِ أهْلِ الحَقِّ والمُحالِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب