الباحث القرآني

ولَمّا ذَكَرَ البُشْرى والطُّمَأْنِينَةَ بِالإمْدادِ، ناسَبَ أنْ يَذْكُرَ لَهم أنَّهُ أتْبَعَ القَوْلَ الفِعْلَ فَألْقى في قُلُوبِهِمْ بِعِزَّتِهِ وحِكْمَتِهِ الطُّمَأْنِينَةَ والأمْنَ والسَّكِينَةَ بِدَلِيلِ النُّعاسِ الَّذِي غَشِيَهم في مَوْضِعٍ هو أبْعَدُ الأشْياءِ عَنْهُ وهو مَوْطِنُ الجِلادِ ومُصاوَلَةِ الأنْدادِ والتَّيَقُّظِ لِمُخاتَلَةِ أهْلِ العِنادِ، وكَذا المَطَرُ وأثَرُهُ، فَقالَ مُبْدِلًا أيْضًا مِن: ﴿وإذْ يَعِدُكُمُ﴾ [الأنفال: ٧] أوْ مُعَلِّقًا بِالنَّصْرِ أوْ بِما في الظَّرْفِ مِن رائِحَةِ الفِعْلِ مُصَوِّرًا لِعِزَّتِهِ وحِكْمَتِهِ: ”إذْ يَغْشاكُمُ“ بِفَتْحِ حَرْفِ المُضارَعَةِ في قِراءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ وأبِي عَمْرٍو فالفاعِلُ ”النُّعاسُ“ وضَمَّ الباقُونَ الياءَ، (p-٢٣٥)وأسْكَنَ نافِعٌ الغَيْنَ وفَتَحَها الباقُونَ وشَدَّدُوا الشِّينَ المَكْسُورَةَ، فالفاعِلُ في القِراءَةِ الأُولى مَفْعُولٌ هُنا، والفاعِلُ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلى اللَّهِ، ولَمّا ذَكَرَ هَذِهِ التَّغْشِيَةَ الغَرِيبَةَ الخارِقَةَ لِلْعَوائِدِ، ذَكَرَ ما فُعِلَتْ لِأجْلِهِ فَقالَ: ﴿أمَنَةً﴾ ولَمّا كانَ ذَلِكَ خارِقًا لِلْعادَةِ، جاءَ الوَصْفُ بِقَوْلِهِ: ﴿مِنهُ﴾ أيْ: بِحِكْمَتِهِ لِأنَّهُ لا يَنامُ في مِثْلِ تِلْكَ الحالِ إلّا الآمِنُ، ويَمْنَعُ عَنْكُمُ العَدُوَّ وأنْتُمْ نائِمُونَ بِعِزَّتِهِ، ولَمْ يَخْتَلِفْ فاعِلٌ، الفِعْلُ المُعَلَّلُ في القِراءاتِ الثَّلاثِ لِأنَّ كَوْنَ النُّعاسِ فاعِلًا مَجازٌ، ويَصِحُّ عِنْدِي نَصْبُها عَلى الحالِ. ولَمّا كانَ النُّعاسُ آيَةَ المَوْتِ، ذَكَرَ بَعْدَهُ آيَةَ الحَياةِ فَقالَ: ﴿ويُنَـزِّلُ عَلَيْكُمْ﴾ وحَقَّقَ كَوْنَهُ مَطَرًا بِقَوْلِهِ: ﴿مِنَ السَّماءِ ماءً﴾ ووَقَعَ في البَيْضاوِيِّ وأصْلُهُ -وكَذا تَفْسِيرِ أبِي حَيّانَ- أنَّ المُشْرِكِينَ سَبَقُوا إلى الماءِ وغَلَبُوا عَلَيْهِ، ولَيْسَ كَذَلِكَ بَلِ الَّذِي سَبَقَ إلى بَدْرٍ وغَلَبَ عَلى مائِها المُؤْمِنُونَ كَما ثَبَتَ في صَحِيحِ مُسْلِمٍ وغَيْرِهِ، فَيَكُونُ شَرْحُ القِصَّةِ أنَّهم مُطِرُوا في المَنزِلِ الَّذِي سارُوا مِنهُ إلى بَدْرٍ فَحَصَلَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنهُ ما مَلَؤُوا مِنهُ أسْقَيْتَهم فَتَطَهَّرُوا مِن حَدَثٍ أوْ جَنابَةٍ ولَبَّدَ لَهُمُ الرَّمْلَ وسَهَّلَ عَلَيْهِمُ المَسِيرَ، وأصابَ المُشْرِكِينَ ما زَلِقَ أرْضَهم حَتّى مَنَعَهُمُ المَسِيرَ، فَكانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِسَبْقِ المُسْلِمِينَ لَهم إلى المَنزِلِ وتَمْكِينِهِمْ مِن بِناءِ الحِياضِ وتَغْوِيرِ (p-٢٣٦)ما وراءَ الماءِ الَّذِي نَزَلُوا عَلَيْهِ مِنَ القَلْبِ كَما هو مَشْهُورٌ في السِّيَرِ، ويَكُونُ رِجْزُ الشَّيْطانِ وسْوَسَتَهُ لَهم بِالقِلَّةِ والضَّعْفِ والتَّخْوِيفِ بِكَثْرَةِ العَدُوِّ، والرَّبْطُ عَلى القُلُوبِ طُمَأْنِينَتُهُمْ، وطَيَّبَ نُفُوسَهم بِما أراهم مِنَ الكَرامَةِ كَما يُوَضِّحُ ذَلِكَ جَمِيعَهُ قَوْلُ ابْنِ هِشامٍ: ﴿ويُنَـزِّلُ عَلَيْكم مِنَ السَّماءِ﴾ ماءٌ لِلْمَطَرِ الَّذِي أصابَهم تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَحَبَسَ المُشْرِكِينَ أنْ يَسْبِقُوا إلى الماءِ وخَلّى سَبِيلَ المُؤْمِنِينَ إلَيْهِ ﴿لِيُطَهِّرَكم بِهِ﴾ أيْ: مِن كُلِّ دَرَنٍ، وابْتَدَأ مِن فَوائِدِ الماءِ بِالتَّطْهِيرِ لِأنَّهُ المُقَرِّبُ مِن صِفاتِ المَلائِكَةِ المُقَرَّبِينَ مِن حَضَراتِ القُدْسِ وعَطَفَ عَلَيْهِ - بِقَوْلِهِ: ﴿ويُذْهِبَ عَنْكُمْ﴾ أيْ: لا عَنْ غَيْرِكم ﴿رِجْزَ الشَّيْطانِ﴾ بِغَيْرِ لامٍ ما هو لازِمٌ لَهُ، وهو العَبْدُ الَّذِي كانَ مَعَ الحَدَثِ الَّذِي مِنهُ الجَنابَةُ المُقَرِّبَةُ مِنَ الخَبائِثِ الشَّيْطانِيَّةِ بِضِيقِ الصَّدْرِ والشَّكِّ والخَوْفِ لِإبْعادِها مِنَ الحَضَراتِ المَلائِكَةَ «لا تَدْخُلُ المَلائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ جُنُبٌ» والرِّجْزُ يُطْلَقُ عَلى القَذَرِ وعِبادَةِ الأوْثانِ والعَذابِ والشِّرْكِ، فَقَدْ كانَ الشَّيْطانُ وسْوَسَ لَهُمْ، ولا شَكَّ أنَّ وسْوَسَتَهُ مِن أعْظَمِ القَذَرِ؛ فَإنَّها تَجُرُّ مَن تَمادى مَعَها إلى كُلِّ ما ذُكِرَ؛ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ ما تَهَيَّأ لَهُ القَلْبُ مِنَ الحِكَمِ الإلَهِيَّةِ وهو إفْراغُ السَّكِينَةِ فَقالَ: ﴿ولِيَرْبِطَ﴾ أيْ: بِالصَّبْرِ واليَقِينِ. ولَمّا كانَ ذَلِكَ رَبْطًا مُحْكَمًا غالِبًا عالِيًا، عَبَّرَ فِيهِ بِأداةِ الِاسْتِعْلاءِ فَقالَ: ﴿عَلى قُلُوبِكُمْ﴾ أيْ: بَعْدَ إسْكانِها الوُثُوقَ بِلُطْفِهِ عِنْدَ كُلِّ مُلِمَّةٍ حَتّى (p-٢٣٧)امْتَلَأتْ مِن كُلِّ خَيْرٍ وثَبَتَ فِيها الرَّبْطُ، فَشَبَّهَها بِجِرابٍ مُلِئَ شَيْئًا ثُمَّ رُبِطَ رَأْسُهُ حَتّى لا يَخْرُجَ مِن ذَلِكَ الَّذِي فِيهِ شَيْءٌ، وأعادَ اللّامَ إشارَةً إلى أنَّهُ المَقْصِدُ الأعْظَمُ وما قَبْلَهُ وسِيلَةٌ إلَيْهِ وعَطَفَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ لامٍ لازِمَهُ مِنَ التَّثْبِيتِ فَقالَ: ﴿ويُثَبِّتَ بِهِ﴾ أيْ: بِالرَّبْطِ بِالمَطَرِ ﴿الأقْدامَ﴾ أيْ: لِعَدَمِ الخَوْفِ؛ فَإنَّ الخائِفَ لا تَثْبُتُ قَدَمُهُ في المَكانِ الَّذِي يَقِفُ بِهِ، بَلْ تَصِيرُ رِجْلُهُ تَنْتَقِلُ مِن غَيْرِ اخْتِيارٍ أوْ بِتَلْبِيدِ الرَّمْلِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب