الباحث القرآني

ولَمّا أثْبَتَ أنَّهُ مُنْذِرٌ، وكانَ أخْوَفُ الإنْذارِ الإسْراعُ، قالَ مُسْتَأْنِفًا مُحَقِّرًا لَهُمُ الدُّنْيا مُزَهِّدًا لَهم فِيها: ﴿كَأنَّهُمْ﴾ أيْ هَؤُلاءِ المُنْكِرِينَ لِصِحَّةِ الإنْذارِ بِها ﴿يَوْمَ يَرَوْنَها﴾ أيْ يَعْلَمُونَ قِيامَها عِلْمًا هو كالرُّؤْيَةِ ويَرَوْنَ ما يَحْدُثُ فِيها بَعْدَ سَماعِ الصَّيْحَةِ وقِيامِهِمْ مِنَ القُبُورِ مِن عِلْمِهِمْ بِما مَرَّ مِن زَمانِهِمْ وما يَأْتِي مِنهُ ﴿لَمْ يَلْبَثُوا﴾ أيْ في الدُّنْيا وفي القُبُورِ ﴿إلا عَشِيَّةً﴾ أيْ مِنَ الزَّوالِ إلى غُرُوبِ الشَّمْسِ. ولَمّا كانُوا عَلى غَيْرِ ثِقَةٍ مِن شَيْءٍ مِمّا يَقُولُونَهُ قالَ: ﴿أوْ ضُحاها﴾ أيْ ضُحى عَشِيَّةٍ مِنَ العَشايا (p-٢٤٧)وهُوَ البَكْرَةُ إلى الزَّوالِ، والعَشِيَّةُ ما بَعْدَ ذَلِكَ، أُضِيفَ إلَيْها الضُّحى لِأنَّهُ مِنَ النَّهارِ، ولِإضافَةٍ تَحْصُلُ بِأدْنى مُلابَسَةٍ، وهي هُنا كَوْنُهُما مِن نَهارٍ واحِدٍ، فالمُرادُ ساعَةٌ مِن نَهارٍ أوَّلُهُ أوْ آخِرُهُ، لَمْ يَسْتَكْمِلُوا نَهارًا تامًّا ولَمْ يَجْمَعُوا بَيْنَ طَرَفَيْهِ، وهَذا كَما قالَ ﷺ «ما الدُّنْيا في الآخِرَةِ إلّا كَما يَجْعَلُ أحَدُكم إصْبَعَهُ في اليَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ» وهَذا تَعْبِيرٌ لَنا بِما نُحِسُّهُ تَقْرِيبًا لِعُقُولِنا وإنْ كانَتِ القاعِدَةُ أنَّهُ لا نِسْبَةَ لِما يَتَناهى إلى ما لا يَتَناهى عَلى أنَّ الكُفّارَ أيْضًا يَسْتَقْصِرُونَ مُدَّةَ لُبْثِهِمْ، فَكَأنَّهم أصْنافٌ: بَعْضُهم يَقُولُ: إنْ لَبِثْتُمْ إلّا عَشْرًا، وبَعْضُهم يَقُولُ: إنْ لَبِثْتُمْ إلّا يَوْمًا، وبَعْضُهم يَتَحَيَّرُ فَيَقُولُ: اسْألِ العادِّينَ، أوْ أنَّ تِلْكَ أقْوالَهُمْ، والحَقُّ مِن ذَلِكَ هو ما أخْبَرَ اللَّهُ بِهِ غَيْرَ مُضافٍ إلى أقْوالِهِمْ مِن أنَّ ما مَضى لَهم في جَنْبِ ما يَأْتِي كَأنَّهُ ساعَةٌ مِن نَهارٍ بِالنِّسْبَةِ إلى النَّهارِ [الكامِلِ - ] كَما قالَ تَعالى في سُورَةِ يُونُسَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ﴿ويَوْمَ يَحْشُرُهم كَأنْ لَمْ يَلْبَثُوا إلا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ﴾ [يونس: ٤٥] عَلى أنَّ مِنهم مَن يَقُولُ ذَلِكَ أيْضًا كَما قالَ تَعالى في سُورَةِ المُؤْمِنِينَ حِينَ قالَ تَعالى ﴿كَمْ لَبِثْتُمْ في الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ﴾ [المؤمنون: ١١٢] ﴿قالُوا لَبِثْنا يَوْمًا أوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْألِ العادِّينَ﴾ [المؤمنون: ١١٣] وذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلى ما كَشَفَ لَهم عَنْ أنَّهم يَسْتَقْبِلُونَهُ مِمّا لا آخِرَ لَهُ أوْ أنَّهم لَمّا نَزَعَتْهم نَفْحَةُ إسْرافِيلَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِيَدِ القُدْرَةِ مِن قُبُورِهِمْ غَرَقًا (p-٢٤٨)نَزْعًا شَدِيدًا فَقامُوا ورَأوْا تِلْكَ الأهْوالَ وعَلِمُوا ما يَسْتَقْبِلُونَهُ مِنَ الأوْجالِ اسْتَقْصَرُوا مُدَّةَ لُبْثِهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ لِأنَّ مَنِ اسْتَلَذَّ شَيْئًا اسْتَقْصَرَ مُدَّتَهُ وهُمُ اسْتَلَذُّوا ذَلِكَ وإنْ كانَ مِن أمَرِّ المُرِّ في جَنْبٍ لَهم عَنْ أنَّهم لاقَوْهُ، فَقَدْ رَجَعَ آخِرُها بِالقِيامَةِ عَلى أوَّلِها، والتَفَّ مَفْصِلُها بِنَزْعِ الأنْفُسِ اللَّوّامَةِ عَلى مُوصِلِها، واتَّصَلَتْ بِأوَّلِ ما بَعْدَها مِن جِهَةِ الخَشْيَةِ والتَّذَكُّرِ فَيا طِيبَ مُتَّصَلِها، فَسُبْحانَ مَن جَعَلَهُ مُتَعانِقَ المُقاطِعِ والمُطالِعِ، وأنْزَلَهُ رِياضًا مُحْكَمَةَ المَذاهِبِ والمَراجِعِ، واللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى هو المُوَفِّقُ لِلصَّوابِ وإلَيْهِ المَرْجِعُ والمَآبُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب