الباحث القرآني
ولَمّا ذَكَرَ مُطْلَقَ خَلْقِهِ، وقَرَّرَ أنَّهُ خُلاصَةُ الكَوْنِ، شَرْعٌ يَذْكُرُ كَيْفِيَّةَ خَلْقِهِ ويَدُلُّ عَلى ما لَزِمَ مِن ذَلِكَ مِن أنَّهُ ما خَلَقَ الخَلْقَ إلّا لِأجْلِهِ وأنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يُهْمِلَ فَقالَ مُعْلِمًا بِالحالِ الَّتِي هي قَيْدُ الجُمْلَةِ ومَحَطُّ الفائِدَةِ أنَّهُ ما خَلَقَ إلّا لِلْآخِرَةِ، مُفَصَّلًا أمْرَ الإيجادِ بِالفاعِلِ والصُّورَةِ والمادَّةِ والغايَةِ وأكَّدَهُ لِإنْكارِهِمْ لَهُ: ﴿إنّا﴾ أيْ عَلى ما لَنا مِنَ العَظَمَةِ ﴿خَلَقْنا﴾ أيْ قَدَّرْنا وصُوَّرْنا، وأظْهَرَ ولَمْ يُضْمِرْ لِأنَّ الثّانِي خاصٌّ والأوَّلُ عامٌّ لِآدَمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وجَمِيعُ ولَدِهِ فَقالَ: ﴿الإنْسانَ﴾ أيْ بَعْدِ خَلْقِ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ﴿مِن نُطْفَةٍ﴾ أيْ مادَّةٍ هي ماءُ جِدًّا مِنَ الرَّجُلِ والمَرْأةِ، وكُلُّ ماءٍ قَلِيلٍ في وِعاءٍ فَهو نُطْفَةٌ وهي المادَّةُ الَّتِي هي السَّبَبُ الحامِلُ لِلْقُوَّةِ المُوَلَّدَةِ. (p-١٢٥)ولَمّا كانَ خَلْقُهُ عَلى طَبائِعِ مُخْتَلِفَةٍ وأمْزِجَةٍ مُتَفاوِتَةٍ أعْظَمَ لِأجْرِهِ إنَّ جاهِدَ ما يَتَنازَعُهُ مِنَ المُخْتَلِفاتِ بِأمْرِ رَبِّهِ الَّذِي لا يَخْتَلِفُ، وكانَتْ أفْعالُهُ تابِعَةً [ لِأخْلاقِهِ وأخْلاقُهُ تابِعَةٌ -] لِجِبِلَّتِهِ قالَ: ﴿أمْشاجٍ﴾ [ أيْ أخْلاطٌ - ] جَمْعُ مُشْجٍ أوْ مَشِيجٍ مِثْلُ خِدْنٍ وخَدَّيْنِ وأخْدانٍ، وخَلَطَ وخَلِيطٍ وأخْلاطٍ، مِن مَشَجْتُ الشَّيْءَ - إذا خَلَطْتُهُ، لِأنَّهُ مِن مَنِيِّ الرَّجُلِ ومَنِيِّ المَرْأةِ، وكُلٌّ مِنهُما مُخْتَلِفُ الأجْزاءِ مُتَبايِنُ الأوْصافِ في الرِّقَّةِ والثِّخَنِ والقَوامِ والخَواصِّ تَجْتَمِعُ مَعَ الأخْلاطِ وهي العَناصِرُ الأرْبَعَةُ، ماءُ الرَّجُلِ غَلِيظٌ أبْيَضٌ، وماءُ المَرْأةِ رَقِيقٌ أصْفَرُ فَأيُّهُما عَلا كانَ الشَّبَهُ لَهُ، وما كانَ مِن عَصَبٍ وعَظْمٍ فَمِن نُطْفَةِ الرَّجُلِ، وما كانَ مِن دَمٍ ولَحْمٍ وشَعْرٍ فَمِن ماءِ المَرْأةِ، وقالَ يَمانُ: كُلُّ لَوْنَيْنِ اخْتَلَطا فَهو أمْشاجٌ، وقالَ قَتادَةُ: هي أطْوارُ الخَلْقِ مِنَ النُّطْفَةِ وما بَعْدَهُما، وكَما يُشْبِهُ ما غَلَبَ عَلَيْهِ مِن باطِنِ الأمْشاجِ مِنَ الطِّيبِ والخُبْثِ، وكَيْفِيَّةُ تَمْشِيجِهِ أنَّ الماءَ إذا وصَلَ إلى قَرارِ الرَّحِمِ اخْتَلَطَ بِماءِ المَرْأةِ ثُمَّ بِدَمِ الطَّمْثِ وخَثُرَ حَتّى صارَ كالرّائِبِ ثُمَّ احْمَرَّ وحِينَئِذٍ يُسَمّى عَلَقَةً، فَإذا اشْتَدَّ ذَلِكَ الِامْتِزاجُ وقَوِيَ وتَمُتْنَ حَتّى اسْتَعَدَّ لِأنْ يُقَسَّمَ فِيهِ الأعْضاءُ سُمِّيَ مُضْغَةً، فَإذا (p-١٢٦)أُفِيضَتْ عَلَيْهِ صُورَةُ الأعْضاءِ وتُقَسَّمُ كِساهُ حِينَئِذٍ مُفِيضُهُ عَزَّ وجَلَّ لَحْمًا، فَأفاضَ عَلَيْهِ القُوَّةُ العاقِلَةُ، ويُسَمّى حِينَئِذٍ جَنِينًا، وذَلِكَ بَعْدَ تَقَسُّمِ أجْزائِهِ إلى عِظامٍ وعُرُوقٍ وأعْصابٍ وأوْتارٍ ولَحْمٍ، فَدَوْرُ الرَّأْسِ وشَقَّ في جانِبَيْهِ السَّمْعُ وفي مُقَدِّمِهِ المُبْصِرِ والأنْفِ والفَمِ، وشَقَّ في البَدَنِ سائِرُ المَنافِذِ ثُمَّ مَدَّ اليَدَيْنِ والرِّجْلَيْنِ وقَسَّمَ رُؤُوسَها بِالأصابِعِ، ورَكَّبَ الأعْضاءَ الباطِنَةَ مِنَ القَلْبِ والمَعِدَةِ [والكَبِدِ -] - والطُّحالِ والرِّئَةِ والمَثانَةِ، فَسُبْحانَ مَن خَلَقَ تِلْكَ الأشْياءَ مِن نُطْفَةٍ سَخِيفَةٍ مُهِينَةٍ كَوَّنَ مِنها العِظامَ مَعَ قُوَّتِها وشِدَّتِها وجَعَلَها عِمادَ البَدَنِ وقِوامَهُ وقَدَّرَها بِمَقادِيرَ وأشْكالٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَمِنها صَغِيرٌ وكَبِيرٌ، وطَوِيلٌ وقَصِيرٌ، وعَرِيضٌ ومُسْتَدِيرٌ، ومُجَوَّفٌ ومُصْمَتٌ، ودَقِيقٌ وثَخِينٌ، ولَمْ يَجْعَلْها عَظْمًا واحِدًا لِأنَّ الإنْسانَ مُحْتاجٌ إلى الحَرَكَةِ بِجُمْلَةِ بَدَنِهِ وبِبَعْضِ أعْضائِهِ ثُمَّ جَعَلَ بَيْنَ تِلْكَ العِظامَ مَفاصِلَ ثُمَّ وصَلَها بِأوْتارٍ أنْبَتَها مِن أحَدِ طَرَفَيِ العَظْمِ وألْصَقَها بِالطَّرَفِ الآخَرِ بِالرِّباطِ لَهُ ثُمَّ خَلَقَ في أحَدِ طَرَفَيِ العَظْمِ زَوائِدَ خارِجَةً، وفي الآخَرِ حُفَرًا مُوافِقَةً لِشَكْلِ الزَّوائِدِ لِتَدْخُلَ فِيها، وخَلَقَ الرَّأْسَ مَعَ كَرِيتِهِ مِن خَمْسَةٍ وخَمْسِينَ عَظْمًا مُخْتَلِفَةَ الأشْكالِ وألَّفَ بَعْضَها مَعَ بَعْضٍ، فَجَعَلَ في القَحْفِ سِتَّةً وفي اللِّحى الأعْلى أرْبَعَةَ عَشَرَ، واثْنانِ لِلْأسْفَلِ، والباقِي في الأسْنانِ، وجَعَلَ [الرَّقَبَةَ-] (p-١٢٧)مُرَكَّبًا لِلرَّأْسِ ورَكَّبَها مِن سَبْعِ خَرَزاتٍ فِيها تَجْوِيفاتٍ وزِياداتٍ ونُقْصاناتٍ لِيَنْطَبِقَ بَعْضُها عَلى بَعْضٍ، ورَكَّبَ الظَّهْرَ مِن أرْبَعٍ وعِشْرِينَ خَرَزَةً وعَظُمَ العَجْزُ مِن ثَلاثَةِ أجْزاءَ، وجَعَلَ مِن أسْفَلِهِ عَظْمَ العُصْعُصِ أوِ اللَّفَّةِ مِن ثَلاثَةِ أجْزاءٍ مُخْتَلِفَةٍ، ثُمَّ وصَلَ عِظامَ الظَّهْرِ بِعِظامِ الصَّدْرِ وعِظامِ الكَتِفِ وغَيْرِها حَتّى بَلَغَ مَجْمُوعُ عِظامِ بَدَنِ الإنْسانِ مِائَتَيْ عَظْمٍ وثَمانِيَةَ وأرْبَعِينَ عَظْمًا سِوى العِظامِ الَّتِي حَشا بِها خَلَلُ المَفاصِلِ، وخَلَقَ سُبْحانَهُ آلاتِ التَّحْرِيكِ لِلْعِظامِ وهي العَضَلاتُ وهي خَمْسِمِائَةٍ وسَبْعٌ وعِشْرُونَ عَضَلَةً كُلٌّ مِنها عَلى قَدْرٍ مَخْصُوصٍ ووَضْعٍ مَخْصُوصٍ لَوْ تَغَيَّرَ [عَنْ -] ذَلِكَ أدْنى تَغَيُّرٍ لاخْتَلَّتْ مَصالِحُ البَدَنِ، وكَذا الأعْصابُ والأوْرِدَةُ والشَّرايِينُ، ثُمَّ انْظُرْ كَيْفَ خَلَقَ الظَّهْرَ أساسًا لِلْبَدَنِ، والبَطْنَ حاوِيًا لِآلاتِ الغِذاءِ والرَّأْسِ مَجْمَعًا لِلْحَواسِّ، .فَفَتَحَ العَيْنَ ورَتَّبَ طَبَقاتِها وأحْسَنَ شَكْلَها ولَوْنَها وأحْكَمَها بِحَيْثُ يَنْطَبِعُ في مِقْدارِ عَدَسَةِ مِنها صُورَةُ السَّماواتِ عَلى عَظْمِها، وحِماها بِالأجْفانِ لِتَسْتُرُها وتَحْفَظُها، ثُمَّ أوْدَعَ الأُذُنَيْنِ ماءً مُرًّا يَدْفَعُ عَنْها الهَوامَّ وحاطَّهُما بِصَدْفَيْنِ لِجَمْعِ الصَّوْتِ ورَدِّهِ إلى الصِّماخِ ولِيُحِسَّ بِدَبِيبِ الهَوامِّ وجَعَلَ فِيها تَعْرِيجًا لِتَطْوِيلِ (p-١٢٨)الطَّرِيقِ فَلا تَصِلُ الهَوامُّ إلى جُرْمِ الصِّماخِ سَرِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ الأنْفَ في الوَجْهِ وأوْدَعَ فِيهِ حاسَّةَ الشَّمِّ لِلِاسْتِدْلالِ بِالرَّوائِحِ عَلى الأطْعِمَةِ والأغْذِيَةِ ولِاسْتِنْشاقِ الرَّوائِحِ الطَّيِّبَةِ لِتَكُونَ مِرْوَحَةً لِلْقَلْبِ، وأوْدَعَ الفَمُ اللِّسانَ وجَعَلَهُ عَلى كَوْنِهِ لُحْمَةً واحِدَةً مُعْرِبًا عَمّا في النَّفْسِ، وزَيَّنَ القُمَّ بِالإنْسانِ فَحَدَّدَ بَعْضَها لِتَكُونَ آلَةً لِلنَّقْبِ وحَدَّدَ بَعْضَها لِتَصْلُحَ لِلْقَطْعِ، وجَعَلَ بَعْضَها عَرِيضًا مُفَلْطَحًا صالِحًا لِلطَّحْنِ وبَيْضِ ألْوانِها ورُتَبِ صُفُوفِها وسِوى رُؤُوسِها ونَسَقَ تَرْتِيبَها حَتّى صارَتْ كالدُّرِّ المَنظُومِ، ثُمَّ أطْبَقَ عَلى الفَمِ الشَّفَتَيْنِ وحَسُنَ لَوْنُهُما لِتَحْفَظا مُنَفِّذَهُ وهَيَّأ الحَنْجَرَةَ لِخُرُوجِ الصَّوْتِ، وخالَفَ أشْكالَ الحَناجِرِ في الضِّيقِ والسِّعَةِ والخُشُونَةِ والمَلاسَةِ والصَّلابَةِ والرَّخاوَةِ والطُّولِ والقَصْرِ، فاخْتَلَفَتِ الأصْواتُ بِسَبَبِها لِيُمَيِّزَ السّامِعُ المُصَوِّتِينَ بِسَبَبِ تَمْيِيزِ أصْواتِهِمْ فَيَعْرِفُهم وإنْ لَمْ يَرَهُمْ، وسَخَّرَ كُلُّ عُضْوٍ مِن أعْضاءِ الباطِنِ لِشَيْءٍ مَخْصُوصٍ، فالمَعِدَةُ لِإنْضاجِ الغِذاءِ، والكَبِدِ لِإحالَتِهِ إلى الدَّمِ، والطُّحالِ لِجَذْبِ السَّوادِ، والمَرارَةُ لِجَذْبِ الصَّفْراءِ، والكُلْيَةِ لِجَذْبِ الفَضْلَةِ المائِيَّةِ، والمَثانَةِ لِخِدْمَةِ الكُلِّيَّةِ بِقَبُولِ الماءِ عَنْها ثُمَّ إخْراجُهُ مِن طَرِيقِهِ، والعُرُوقُ لِخِدْمَةِ الكَبِدِ في إيصالِ الدَّمِ إلى سائِرِ أطْرافِ البَدَنِ، وكانَ مَبْدَأ ذَلِكَ كُلِّهِ النُّطْفَةُ عَلى صِغَرِها في داخِلِ الرَّحِمِ في ظُلُماتِ ثَلاثَةٍ ولَوْ كَشَفَ الغِطاءَ وامْتَدَّ البَصَرُ إلَيْهِ لَرَأى التَّخْطِيطَ والتَّصْوِيرَ يَظْهَرُ عَلَيْهِ (p-١٢٩)شَيْئًا فَشَيْئًا ولا يَرى المُصَوِّرَ ولا الإلَهَ، فَسُبْحانَهُ ما أعْظَمَ شَأْنَهُ وأبْهَرَ بُرْهانَهُ، فَيالِلَّهِ العَجَبُ مِمَّنْ يَرى نَقْشًا حَسَنًا عَلى جِدارٍ فَيَتَعَجَّبُ مِن حُسْنِهِ وحَذَقَ صانِعُهُ ثُمَّ لا يَزالُ يَسْتَعْظِمُهُ ثُمَّ يَنْظُرُ إلى هَذِهِ العَجائِبِ في نَفْسِهِ وفي غَيْرِهِ ثُمَّ يَغْفُلُ عَنْ [صانِعِهِ -] ومُصَوِّرُهُ فَلا تُدْهِشُهُ عَظْمَتُهُ ويُحَيِّرُهُ جَلالُهُ وحِكْمَتُهُ.
ولَمّا كانَ الإنْسانُ مُرَكَّبًا مِن رُوحٍ خَفِيفٍ طاهِرٍ وبَدَنٍ هو مُرَكَّبُ الحُظُوظِ والشَّهَواتِ واللَّوْمِ والدَّنِيّاتِ، فَكانَ الرُّوحُ بِكَمالِهِ والبَدَنُ بِنُقْصانِهِ يَتَعالَجانِ، كُلٌّ مِنهُما يُرِيدُ أنْ يَغْلِبَ صاحِبَهُ، قَوّى سُبْحانَهُ الرُّوحَ بِالشَّرْعِ الدّاعِي إلى مَعالِي الأخْلاقِ، النّاهِي عَنْ مُساوِيها، المُبَيِّنِ لِذَلِكَ غايَةَ البَيانِ عَلى يَدِ إنْسانٍ طَبَّعَهُ سُبْحانَهُ عَلى الكَمالِ لِيَقْدِرَ عَلى التَّلَقِّي مِنَ المَلائِكَةِ، فَيُكْمِلُ أبْناءُ نَوْعِهِ، فَدَلَّ عَلى ذَلِكَ بِحالٍ بَناها مِن ضَمِيرِ العَظَمَةِ فَقالَ مُبَيِّنًا لِلْغايَةِ: ﴿نَبْتَلِيهِ﴾ أيْ نُعامِلُهُ بِما لَنا مِنَ العَظَمَةِ بِالأمْرِ والنَّهْيِ والوَعْظِ مُعامَلَةَ المُخْتَبِرِ ونَحْنُ أعْلَمُ بِهِ مِنهُ، ولَكِنّا فَعَلْنا ذَلِكَ لِنُقِيمَ عَلَيْهِ الحُجَّةَ عَلى ما يَتَعارَفُهُ النّاسُ، فَإنَّ العاصِيَ لا يَعْلَمُ أنَّهُ أُرِيدَ مِنهُ العِصْيانُ، وكَذا الطّائِعُ، فَصارَ التَّكْلِيفُ بِحَسَبِ وهْمِهِ لِما خَلَقَ اللَّهُ لَهُ مِنَ القُوَّةِ والقُدْرَةِ الصّالِحَةِ في الجُمْلَةِ.
ولَمّا ذَكَرَ الغايَةَ، أتْبَعَها الإعْداداتِ المُصَحِّحَةَ لَها فَقالَ: ﴿فَجَعَلْناهُ﴾ (p-١٣٠)أيْ بِما لَنا مِنَ العَظَمَةِ بِسَبَبِ ذَلِكَ ﴿سَمِيعًا﴾ أيْ بالِغُ السَّمْعِ ﴿بَصِيرًا﴾ أيْ عَظِيمَ البَصَرِ والبَصِيرَةِ لِيَتَمَكَّنَ مِن مُشاهَدَةِ الدَّلائِلِ بِبَصَرِهِ وسَماعِ الآياتِ بِسَمْعِهِ، ومَعْرِفَةِ الحُجَجِ بِبَصِيرَتِهِ، فَيَصِحُّ تَكْلِيفُهُ وابْتِلاؤُهُ، فَقَدَّمَ العِلَّةَ الغائِيَّةَ لِأنَّها مُتَقَدِّمَةٌ في الِاسْتِحْضارِ [عَلى -] التّابِعِ لَها مِنَ المُصَحِّحِ لِوُرُودِها، وقَدَّمَ [السَّمْعَ -] لِأنَّهُ أنْفَعُ في المُخاطَباتِ، ولِأنَّ الآياتِ المَسْمُوعَةَ أبْيَنُ مِنَ الآياتِ المَرْئِيَّةِ، قالَ الرّازِيُّ في اللَّوامِعِ وإلى هُنا انْتَهى الخَبَرُ الفِطْرِيُّ ثُمَّ يَبْتَدِئُ مِنهُ الِاخْتِبارُ الكَسْبِيُّ - انْتَهى. وذَلِكَ بِنَفْخِ الرُّوحِ وهي حادِثَةٌ بَعْدَ حُدُوثِ البَدَنِ بِإحْداثِ القادِرِ المُخْتارِ لَها بَعْدَ تَهْيِئَةِ البَدَنِ لِقَبُولِها، ثُمَّ أفاضَ سُبْحانَهُ [عَلى الجُمْلَةِ -] العَقْلَ، وجَعَلَ السَّمْعَ والبَصَرَ اللَّتَيْنِ لَهُ، ولَعَلَّهُ خَصَّهُما لِأنَّهُما أنْفَعُ الحَواسِّ، ولِأنَّ البَصَرَ يَفْهَمُ البَصِيرَةَ وهي تَتَضَمَّنُ الجَمِيعَ، وجَعَلَ [سُبْحانَهُ -] لَهُ ذَلِكَ لِاسْتِقْراءِ صُوَرِ المَحْسُوساتِ وانْتِزاعِ العُلُومِ الكُلِّيَّةِ مِنها، وبِذَلِكَ يَكْمُلُ عِلْمُهُ الَّذِي مِنهُ الدَّفْعُ عَنْ نَفْسِهِ الَّتِي جَعَلَها اللَّهُ تَعالى مَحَلَّ التَّكْلِيفِ لِيَكْمُلَ تَكْلِيفُهُ، وذَلِكَ أنَّهُ سُبْحانَهُ رَكَّبَهُ مِنَ العَناصِرِ الأرْبَعَةِ، وجَعَلَ صَلاحَهُ بِصَلاحِها، وفَسادَهُ بِفَسادِها (p-١٣١)لِتَعالِيها، فاضْطَرَّ إلى قُوى يُدْرِكُ بِها المُنافِي فَيَجْتَنِبُهُ والمُلائِمُ فَيَطْلُبُهُ، فَرَتَّبَ لَهُ سُبْحانَهُ الحَواسَّ الخَمْسَ الظّاهِرَةَ، فَجَعَلَ السَّمْعَ في الأُذُنِ، والبَصَرَ في العَيْنِ، والذَّوْقَ في اللِّسانِ، والشَّمَّ في الأنْفِ، وبَثَّ اللَّمْسَ في سائِرِ البَدَنِ، لِيَدْفَعَ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الأعْضاءِ ما يُؤْذِيها، وهَذِهِ الحَواسُّ الظّاهِرَةُ تَنْبَعِثُ عَنْ قُوَّةٍ باطِنَةٍ تُسَمّى الحِسَّ المُشْتَرَكَ بِحَمْلِ ما أدْرَكَتْهُ فَيَرْتَسِمُ هُناكَ وهو في مُقَدَّمِ البَطْنِ الأوَّلِ مِنَ الدِّماغِ ويَنْتَقِلُ ما ارْتَسَمَ هُنا إلى خِزانَةِ الخَيالِ وهي في مُؤَخَّرِ هَذا البَطْنِ مِنَ الدِّماغِ فَتُحْفَظُ فِيها صُورَتُهُ وإنْ غابَتْ عَنِ الحَواسِّ، وثَمَّ قُوَّةٌ أُخْرى مِن شَأْنِها إدْراكُ المَعانِي الجُزْئِيَّةِ المُتَعَلِّقَةِ بِالمَحْسُوساتِ الشَّخْصِيَّةِ كَعَداوَةِ زَيْدٍ وصَداقَتِهِ تُسَمّى الوَهْمَ ومَحَلُّها الدِّماغُ كُلُّهُ والأخَصُّ بِها التَّجْوِيفُ الأوْسَطُ وخُصُوصًا مُؤَخَّرُهُ، وقُوَّةٌ أُخْرى أيْضًا شَأْنُها خَزْنُ ما أدْرَكَتْهُ القُوَّةُ الوَهْمِيَّةُ مِنَ المَعانِي الجُزْئِيَّةِ تُسَمّى الحافِظَةَ بِاعْتِبارٍ، والذّاكِرَةَ بِاعْتِبارٍ، ومَحَلُّها التَّجْوِيفُ المُؤَخَّرُ في الدِّماغِ، وقُوَّةٌ أُخْرى مِن شَأْنِها تَفْتِيشُ تِلْكَ الخَزائِنِ وتَرْكِيبُ بَعْضِ مُودِعاتِها مَعَ بَعْضٍ وتَفْصِيلِ بَعْضِها مَعَ بَعْضٍ ومَحَلِّها وسُلْطانِها في أوَّلِ التَّجْوِيفِ الأوْسَطِ، وتِلْكَ (p-١٣٢)القُوَّةُ تُسَمّى مُخَيَّلَةً بِاعْتِبارِ تَصْرِيفِ الوَهْمِ لَها ومُفَكِّرَةً بِاعْتِبارِ اسْتِعْمالِ النَّفْسِ لَها، وقَدِ اقْتَضَتِ الحِكْمَةُ الرَّبّانِيَّةُ تَقْدِيمَ ما يُدْرِكُ الصُّوَرَ الجَرْمِيَّةَ وتَأْخِيرُ ما يُدْرِكُ المَعانِيَ الرُّوحانِيَّةَ، وتَوْسِيطُ المُتَصَرِّفِ فِيهِما بِالحُكْمِ والِاسْتِرْجاعِ لِلْأمْثالِ المُنْمَحِيَةِ مِنَ الجانِبَيْنِ، ثُمَّ لا تَزالُ هَذِهِ القُوى تَخْدِمُ ما فَوْقَها كَما خَدَمَتْها الحَواسُّ الخَمْسُ إلى أنْ تَصِيرَ عَقْلًا مُسْتَفادًا، وهو قُوَّةٌ لِلنَّفْسِ بِها يَكُونُ لَها حُضُورُ المَعْقُولاتِ [ بِالفِعْلِ، وهَذا العَقْلُ هو غايَةُ السُّلُوكِ الطَّلَبِيِّ لِلْإنْسانِ وهو الرَّئِيسُ المُطْلَقُ المَخْدُومُ لِلْعَقْلِ بِالفِعْلِ، وهو القُوَّةُ الَّتِي تَكُونُ لِلنَّفْسِ بِها اقْتِدارٌ عَلى اسْتِحْضارِ المَعْقُولاتِ - ] الثّانِيَةِ وهو المَخْدُومُ لِلْعَقْلِ الهِيوُلانِيِّ المُشَبَّهِ بِالهَيُولى.الخالِيَةُ في نَفْسِها عَنْ جَمِيعِ الصُّوَرِ، وهو قُوَّةٌ مِن شَأْنِها الِاسْتِعْدادُ المَحْضُ لِدَرْكِ المَعْقُولاتِ بِاسْتِعْمالِ الحَواسِّ في تَصَفُّحِ الجُزْئِيّاتِ واسْتِقْرائِها المَخْدُوماتِ كُلِّها لِلْعَقْلِ العَمَلِيِّ، وهو القُوَّةُ النَّظَرِيَّةُ المَخْدُومُ لِلْوَهْمِ المَخْدُومِ لِما بَعْدَهُ مِنَ الحافِظَةِ وما قَبْلَهُ مِنَ المُتَخَيِّلَةِ المَخْدُومَتَيْنِ لِلْخَيالِ المَخْدُومِ لِلْحِسِّ المُشْتَرَكِ المَخْدُومِ لِلْحَواسِّ الظّاهِرَةِ.
{"ayah":"إِنَّا خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ مِن نُّطۡفَةٍ أَمۡشَاجࣲ نَّبۡتَلِیهِ فَجَعَلۡنَـٰهُ سَمِیعَۢا بَصِیرًا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











