الباحث القرآني

﴿قُمِ﴾ أيْ في خِدْمَتِنا بِحَمْلِ أعْباءِ نُبُوَّتِنا والِازْدِمالِ بِالِاجْتِهادِ في الِاحْتِمالِ، واتْرُكِ التَّزَمُّلَ فَإنَّهُ مُنافٍ لِلْقِيامِ. ولَمّا كانَ الِاجْتِهادُ في الخِدْمَةِ دالًّا عَلى غايَةِ المَحَبَّةِ، وكانَتِ النِّيَّةُ (p-٤)خَيْرًا مِنَ العَمَلِ، وكانَ الإنْسانُ مَجْبُولًا عَلى الضَّعْفِ، وكانَ سُبْحانَهُ لَطِيفًا بِهَذِهِ الأُمَّةِ تَشْرِيفًا لِإمامِها ﷺ، رِضِيَ مِنّا سُبْحانَهُ بِصِدْقِ التَّوَجُّهِ إلى العَمَلِ وجَعَلَ أُجُورَنا أكْثَرَ مِن أعْمالِنا، فَجَعَلَ إحْياءَ البَعْضِ إحْياءً لِلْكُلِّ، فَأطْلَقَ اسْمَ الكُلِّ وأرادَ البَعْضَ فَقالَ: ﴿اللَّيْلَ﴾ أيِ الَّذِي هو وقْتُ الخُلْوَةِ والخُفْيَةِ والسَّتْرِ، فَصَلِّ لَنا في كُلِّ لَيْلَةٍ مِن هَذا الجِنْسِ وقِفْ بَيْنَ يَدَيْنا بِالمُناجاةِ والأُنْسِ بِما أنْزَلَنا عَلَيْكَ مِن كَلامِنا فَإنّا نُرِيدُ إظْهارَكَ وإعْلاءَ قَدْرِكَ في البَرِّ والبَحْرِ والسِّرِّ والجَهْرِ، وقِيامِ اللَّيْلِ في الشَّرْعِ مَعْناهُ الصَّلاةُ فَلِذا لَمَّ يُقَيِّدْهُ، وهي جامِعَةٌ لِأنْواعِ الأعْمالِ الظّاهِرَةِ والباطِنَةِ، وهي عِمادُها، فَذِكْرُها دالٌّ عَلى ما عَداها. ولَمّا كانَ لِلْبَدَنِ حَظٌّ في الرّاحَةِ قالَ مُسْتَثْنِيًا مِنَ اللَّيْلِ: ﴿إلا قَلِيلا﴾ أيْ مِن كُلِّ لَيْلَةٍ، ونُودِيَ هَذا [النِّداءَ لِأنَّهُ -] ﷺ «لَمّا جاءَهُ الوَحْيُ بِغارِ حِراءٍ رَجَعَ إلى خَدِيجَةَ زَوْجَتِهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها يَرْجُفُ فُؤادُهُ فَقالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي! [لَقَدْ خَشِيتُ عَلى نَفْسِي، فَسَألَتْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها عَنْ حالِهِ، فَلَمّا قَصَّ عَلَيْها أمْرَهُ - ] قالَ:”خَشِيتُ عَلى نَفْسِي“» يَعْنِي أنْ يَكُونَ هَذا مَبادِئُ شِعْرٍ أوْ كِهانَةٍ، وكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الشَّياطِينِ وأنْ يَكُونَ الَّذِي ظَهَرَ لَهُ بِالوَحْيِ لَيْسَ بِمَلَكٍ، وكانَ صَلّى اللَّهُ (p-٥)عَلَيْهِ وسَلَّمَ يُبْغِضُ الشِّعْرَ والكَهانَةَ غايَةَ البَغْضَةِ، فَقالَتْ لَهُ وكانَتْ وزِيرَةَ صِدْقٍ: " «كَلّا واللَّهِ! لا يُخْزِيكَ اللَّهُ أبَدًا، إنَّكَ لِتَصِلُ الرَّحِمَ وتَقْرِي الضَّيْفَ وتَحْمِلُ الكَلَّ وتُعِينُ عَلى نَوائِبِ الحَقِّ» - ونَحْوُ هَذا مِنَ المَقالِ الَّذِي يُثَبِّتُ، وفائِدَةُ التَّزَمُّلِ أنَّ الشُّجاعَ الكامِلَ إذا دَهَمَهُ أمْرٌ هو فَوْقَ قُواهُ فَفَرَّقَ أمْرَهُ فَرَجَعَ إلى نَفْسِهِ، وقَصَرَ بَصَرَهُ وبَصِيرَتَهُ عَلى حِسِّهِ، اجْتَمَعَتْ قُواهُ إلَيْهِ فَقَوِيَتْ جِبِلَّتُهُ الصّالِحَةُ عَلى تِلْكَ العَوارِضِ التَّخْيِيلِيَّةِ فَهَزَمَتْها فَرَجَعَ إلى أمْرِ الجِبِلَّةِ العَلِيَّةِ، وزالَ ما عَرَضَ مِنَ العِلَّةِ البَدَنِيَّةِ. وقالَ الإمامُ أبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ: لَمّا كانَ ذِكْرُ إسْلامِ الجِنِّ قَدْ أحْرَزَ غايَةً انْتَهى مَرْماها وتَمَّ مَقْصِدُها ومَبْناها، وهي الإعْلامُ بِاسْتِجابَةِ هَؤُلاءِ وحِرْمانُ مَن كانَ أوْلى بِالِاسْتِجابَةِ، وأقْرَبُ في ظاهِرِ الأمْرِ إلى الإنابَةِ، بَعْدَ تَقَدُّمِ وعِيدِهِمْ وشَدِيدِ تَهْدِيدِهِمْ، صَرَفَ الكَلامَ إلى أمْرِهِ ﷺ بِما يَلْزَمُهُ مِن وظائِفِ عِبادَتِهِ وما يَلْزَمُهُ في أذْكارِهِ مِن لَيْلِهِ ونَهارِهِ، مُفْتَتِحًا ذَلِكَ بِأجْمَلِ مُكالَمَةِ وألْطَفِ مُخاطَبَةٍ ﴿يا أيُّها المُزَّمِّلُ﴾ [المزمل: ١] وكانَ ذَلِكَ تَسْلِيَةً لَهُ ﷺ كَما (p-٦)ورَدَ ﴿فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ﴾ [فاطر: ٨] إلى آخِرِهِ، ولِيَحْصُلْ مِنهُ الِاكْتِراثُ بِعِنادِ مَن قَدَّمَ عِنادَهُ وكَثْرَةَ لُجُجِهِ، وأتْبَعَ ذَلِكَ بِما يَشْهَدُ لِهَذا الغَرَضِ ويُعَضِّدُهُ وهو قَوْلُهُ تَعالى ﴿فاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلا﴾ [المعارج: ٥] ﴿واصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ واهْجُرْهم هَجْرًا جَمِيلا﴾ [المزمل: ١٠] ﴿وذَرْنِي والمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ ومَهِّلْهم قَلِيلا﴾ [المزمل: ١١] وهَذا عَيْنُ الوارِدِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ﴾ [فاطر: ٨] وفي قَوْلِهِ ﴿نَحْنُ أعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وما أنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبّارٍ﴾ [ق: ٤٥] ثُمَّ قالَ: ﴿إنَّ لَدَيْنا أنْكالا﴾ [المزمل: ١٢] فَذَكَرَ ما أعَدَّ لَهُمْ، وإذا تَأمَّلْتَ هَذِهِ الآيِ وجَدْتَها قاطِعَةً بِما قَدَّمْناهُ، وبانَ لَكَ التِحامَ ما ذَكَرَهُ، ثُمَّ رَجَعَ الكَلامُ إلى التَّلَطُّفِ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وبِأصْحابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أجْمَعِينَ - وأجْزَلَ جَزاءَهم مَعَ وُقُوعِ التَّقْصِيرِ مِمَّنْ يَصِحُّ مِنهُ تَعْظِيمُ المَعْبُودِ الحَقِّ جَلَّ جَلالُهُ ﴿عَلِمَ أنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكم فاقْرَءُوا ما تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ﴾ [المزمل: ٢٠] ثُمَّ خَتَمَ السُّورَةَ بِالِاسْتِغْفارِ مِن كُلِّ ما تَقَدَّمَ مِن عِنادِ الجاحِدِينَ المُقَدَّمِ ذِكْرُهم فِيما قَبْلُ مِنَ السُّورِ إلى ما لا يَفِي العِبادُ المُسْتَجِيبُونَ بِهِ مِمّا أشارَ إلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿عَلِمَ أنْ لَنْ تُحْصُوهُ﴾ [المزمل: ٢٠] - انْتَهى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب