الباحث القرآني

سُورَةُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ مَقْصُودُها الدَّلالَةُ عَلى تَمامِ القُدْرَةِ عَلى ما أنْذَرَ بِهِ آخَرَ ”سَألَ“ (p-٤٢٣)مِن إهْلاكِ المُنْذِرِينَ وتَبْدِيلِ خَيْرٍ مِنهُمْ، ومِنَ القُدْرَةِ عَلى إيجادِ يَوْمِ القِيامَةِ الَّذِي طالَ إنْذارُهم بِهِ وهم عَنْهُ مُعْرِضُونَ وبِهِ مُكَذِّبُونَ وبِهِ لاهُونَ، وتَسْمِيَتُها بِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ أدَلُّ ما فِيها عَلى ذَلِكَ، فَإنَّ أمْرَهُ في إهْلاكِ قَوْمِهِ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ لَهُ في قِصَّتِهِ في هَذِهِ [ السُّورَةِ -] مُقَرَّرٌ ومَسْطُورٌ ( بِسْمِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ الكَمالُ كُلُّهُ مِنَ الجَلالِ والإكْرامِ ( الرَّحْمَنِ الَّذِي عَمَّ بِما أفاضَهُ مِن ظاهِرِ الإنْعامِ ( الرَّحِيمِ الَّذِي خَصَّ أوْلِياءَهُ بِلُزُومِ الطّاعَةِ [ في الِابْتِداءِ -] وإتْمامِ النِّعْمَةِ في الخِتامِ. * * * لَمّا خُتِمَتْ ”سَألَ“ بِالإنْذارِ لِلْكَفّارِ، وكانُوا عُبّادَ أوْثانٍ، بِعَذابِ الدُّنْيا والآخِرَةِ، أتْبَعَها أعْظَمَ عَذابٍ كانَ في الدُّنْيا في تَكْذِيبِ الرُّسُلِ بِقِصَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، وكانَ قَوْمُهُ عُبّادَ أوْثانٍ، وكانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ وكانُوا أشَدَّ تَمَرُّدًا مِن قُرَيْشٍ وأجْلَفَ وأقْوى وأكْثَرَ، فَلَمْ يَنْفَعْهم شَيْءٌ مِن ذَلِكَ عِنْدَ نُزُولِ البَلاءِ وبُرُوكِ النِّقْمَةِ عَلَيْهِمْ وإتْيانِ العَذابِ إلَيْهِمْ، وابْتَدَأها بِالإنْذارِ تَخْوِيفًا مِن عَواقِبِ التَّكْذِيبِ بِهِ، فَقالَ مُؤَكِّدًا لِأجْلِ إنْكارِهِمْ أنْ يَكُونَ الرَّسُولُ بَشَرًا أوْ لِتَنْزِيلِهِمْ مَنزِلَةَ المُنْكِرِينَ مِن حَيْثُ أقَرُّوا بِرِسالَتِهِ وطَعَنُوا في رِسالَةِ غَيْرِهِ مَعَ المُساواةِ في البَشَرِيَّةِ: (p-٤٢٤)﴿إنّا﴾ أيْ بِما لَنا مِنَ العَظَمَةِ الباهِرَةِ البالِغَةِ ﴿أرْسَلْنا نُوحًا﴾ وهو أوَّلُ رَسُولٍ أتى بَعْدَ اخْتِلافِ أوْلادِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ في دِينِ أبِيهِمُ الأقْوَمِ ﴿إلى قَوْمِهِ﴾ أيِ الَّذِينَ كانُوا في غايَةِ القُوَّةِ عَلى القِيامِ بِما يُحاوِلُونَهُ وهم بِصَدَدِ أنْ يُجِيبُوهُ إلى ما دَعاهم إلَيْهِ ويُكْرِمُوهُ لِما بَيْنَهم مِنَ القُرْبِ بِالنَّسَبِ واللِّسانِ، وكانُوا جَمِيعَ أهْلِ الأرْضِ مِنَ الآدَمِيِّينَ. ولَمّا بانَ مَضى المُرْسِلُ والرَّسُولُ والمُرْسَلُ إلَيْهِمْ، وكانَ الإرْسالُ مُتَضَمِّنًا مَعْنى القَوْلِ، أخَذَ في تَفْسِيرِهِ بَيانًا لِلْمُرْسَلِ بِهِ فَقالَ: ﴿أنْ أنْذِرْ﴾ أيْ حَذَّرَ تَحْذِيرًا بَلِيغًا عَظِيمًا ﴿قَوْمَكَ﴾ مِنَ الِاسْتِمْرارِ عَلى الكُفْرِ. ولَمّا كانَ المَقْصُودُ ”إعْلامَهم بِذَلِكَ“ في بَعْضِ الأوْقاتِ لِأنَّ الإنْسانَ لا بُدَّ لَهُ مِن أوْقاتِ شُغْلٍ بِنَفْسِهِ مِن نَوْمٍ وأكْلٍ وغَيْرِهِ، أتى بِالجارِّ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ ورِفْقًا بِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقالَ: ﴿مِن قَبْلِ أنْ يَأْتِيَهُمْ﴾ أيْ عَلى ما هم عَلَيْهِ مِنَ الأعْمالِ الخَبِيثَةِ ﴿عَذابٌ ألِيمٌ﴾ [ و-] قالَ الإمامُ أبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ: لَمّا أمَرَ اللَّهُ تَعالى نَبِيَّهُ ﷺ بِالصَّبْرِ عَلى قَوْمِهِ في قَوْلِهِ: ﴿فاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلا﴾ [المعارج: ٥] (p-٤٢٥)وجَلِيلِ الإغْضاءِ في قَوْلِهِ: ﴿فَذَرْهم يَخُوضُوا ويَلْعَبُوا﴾ [المعارج: ٤٢] أتْبَعَ ذَلِكَ بِقِصَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ وتَكَرُّرِ دُعائِهِ قَوْمَهُ إلى الإيمانِ، وخَصَّ مِن خَبَرِهِ حالَهُ في طُولِ مُدَّةِ التِّذْكارِ والدُّعاءِ لِأنَّهُ المَقْصُودُ في المَوْضِعِ تَسْلِيَةً لِنَبِيِّهِ ﷺ، ولِيَتَأسّى بِهِ في الصَّبْرِ والرِّفْقِ والدُّعاءِ كَما قِيلَ لَهُ ﷺ في غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ ﴿فاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُو العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ولا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ﴾ [الأحقاف: ٣٥] ﴿فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ﴾ [فاطر: ٨] فَقَدْ دامَ دُعاءُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ مَعَ قَوْمِهِ أدْوَمَ مِن مُدَّتِكَ، ومَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يَزِدْهم إلّا فِرارًا [ ﴿قالَ رَبِّ إنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا ونَهارًا﴾ [نوح: ٥] ﴿فَلَمْ يَزِدْهم دُعائِي إلا فِرارًا﴾ [نوح: ٦] ﴿وإنِّي كُلَّما دَعَوْتُهم لِتَغْفِرَ لَهم جَعَلُوا أصابِعَهم في آذانِهِمْ واسْتَغْشَوْا ثِيابَهم وأصَرُّوا واسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبارًا﴾ [نوح: ٧] ثُمَّ مَضَتْ آيُ السُّورَةِ عَلى هَذا المَنهَجِ مِن تَجْدِيدِ الإخْبارِ بِطُولِ مُكابَدَتِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ وتَكْرِيرِ دُعائِهِ، فَلَمْ يَزِدْهم ذَلِكَ إلّا بُعْدًا وتَصْمِيمًا عَلى كُفْرِهِمْ حَتّى أخَذَهُمُ اللَّهُ، وأجابَ فِيهِمْ دُعاءَ نَبِيِّهِ [ نُوحٍ -] عَلَيْهِ السَّلامُ ﴿رَبِّ لا تَذَرْ عَلى الأرْضِ مِنَ الكافِرِينَ دَيّارًا﴾ [نوح: ٢٦] وذَلِكَ لِيَأْسِهِ مِن فَلاحِهِمْ، وانْجَرَّ في هَذا حَضَّ نَبِيِّنا ﷺ عَلى الصَّبْرِ (p-٤٢٦)عَلى قَوْمِهِ والتَّحَمُّلِ مِنهم كَما صَرَّحَ بِهِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بِالعُرْفِ وأعْرِضْ عَنِ الجاهِلِينَ﴾ [الأعراف: ١٩٩] وكَما قِيلَ لَهُ [ قَبْلَ -] ﴿فاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ولا تَكُنْ كَصاحِبِ الحُوتِ﴾ [القلم: ٤٨] ﴿وكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِن أنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ﴾ [هود: ١٢٠] [ انْتَهى-] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب