الباحث القرآني

ولَمّا تَشَوَّفَ السّامِعُ إلى جَوابِهِمْ بَعْدَ هَذا التَّرْغِيبِ المَمْزُوجِ بِالتَّرْهِيبِ، أُجِيبَ بِقَوْلِهِ: ﴿قالَ المَلأُ﴾ أيْ: الأشْرافُ الَّذِينَ يَمْلُؤُونَ العُيُونَ بَهْجَةً والصُّدُورَ هَيْبَةً، ولَمّا كانَتْ عادٌ قَلِيلًا بِالنِّسْبَةِ إلى قَوْمِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - وكانَ قَدْ أسْلَمَ مِن أشْرافِهِمْ مَن لَهُ غِنًى في الجُمْلَةِ، قُيِّدَ بِقَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أيْ: سَتَرُوا ما مِن حَقِّهِ الظُّهُورُ مِن أدِلَّةِ الوَحْدانِيَّةِ، ووُصِفُوا تَسْلِيَةً لِهَذا النَّبِيِّ الكَرِيمِ فِيما يَرى مِن جَفاءِ قَوْمِهِ بِأنَّ مِثْلَ ذَلِكَ كانَ لِإخْوانِهِ مِنَ الأنْبِياءِ بِقَوْلِهِ: ﴿مِن قَوْمِهِ﴾ وأكَّدُوا ما واجَهُوهُ بِهِ مِنَ الجَفاءِ؛ لِأنَّهم عالِمُونَ بِأنَّ حالَهُ في عِلْمِهِ وحُكْمِهِ يُكَذِّبُهم بِقَوْلِهِمْ: ﴿إنّا لَنَراكَ﴾ أيْ: لَنَعْلَمُكَ عِلْمًا مُتَيَقَّنًا (p-٤٣٥)حَتّى كَأنَّهُ مَحْسُوسٌ ﴿فِي سَفاهَةٍ﴾ أيْ: مَظْرُوفًا لِخِفَّةِ العَقْلِ، فَهي مُحِيطَةٌ بِكَ مِن جَمِيعِ الجَوانِبِ، لا خَلاصَ لَكَ مِنها، فَلِذا أدَّتْكَ إلى قَوْلٍ لا حَقِيقَةَ لَهُ، فالتَّنْوِينُ لِلتَّعْظِيمِ، فَإنْ قِيلَ: بَلْ لِلتَّحْقِيرِ، كَأنَّهم تَوَقَّفُوا في وصْفِهِ بِذَلِكَ كَما تَوَقَّفُوا في الجَزْمِ بِالكَذِبِ فَقالُوا: ﴿وإنّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذِبِينَ﴾ أيْ: المُتَعَمِّدِينَ لِلْكَذِبِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ كانَ عِنْدَهم عِلْمٌ مِنَ الرُّسُلِ وما يَأْتِي مُخالِفَهم مِنَ العَذابِ مِن قِصَّةِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - ولَمْ يَكُنْ العَهْدُ بَعِيدًا، وأمّا قَوْمُ نُوحٍ فَجَزَمُوا بِالضَّلالِ وأكَّدُوهُ بِكَوْنِهِ مُبِينًا؛ لِأنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهم شُعُورٌ بِأحْوالِ الرُّسُلِ وعَذابِ الأُمَمِ قَبْلَ ذَلِكَ، ولِهَذا قالُوا ﴿ما سَمِعْنا بِهَذا في آبائِنا الأوَّلِينَ﴾ [المؤمنون: ٢٤] قِيلَ: لَيْسَ كَذَلِكَ، فَقَدْ ورَدَ في جَوابِ قَوْمِ نُوحٍ في سُورَةِ هُودٍ مِثْلُ هَذا، وهو قَوْلُهُ: ﴿بَلْ نَظُنُّكم كاذِبِينَ﴾ [هود: ٢٧] فَإنْ قِيلَ: إنَّما كانَ هَذا في ثانِي الحالِ بَعْدَ أنْ نَصَبَ لَهم الأدِلَّةَ وأقامَ البَراهِينَ عَلى صِحَّةِ مُدَّعاهُ وثارَتْ حُظُوظُ الأنْفُسِ بِالجِدالِ، فَإنَّهُ يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ قَوْمُهُ أجابُوهُ بِذَلِكَ أوَّلَ ما دَعاهم، قِيلَ: والأمْرُ كَذَلِكَ في قِصَّةِ هُودٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - سَواءٌ فَإنَّهُ لَمْ يَقُلْ لَهُ ذَلِكَ إلّا الكُفّارُ مِن قَوْمِهِ، فَتَقْيِيدُهم بِالوَصْفِ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ كانَ فِيهِمْ مَن اتَّبَعَهُ، بَلْ وإنَّ مُتَّبِعَهُ كانَ مِن أشْرافِهِمْ هم بِالظَّنِّ، وتَعْبِيرُ في الكَذِبِ لِإرادَتِهِمْ أنَّهُ يَكْفِي في (p-٤٣٦)وصْفِهِ بِالسَّفاهَةِ الَّتِي زَعَمُوها إقْدامُهُ عَلى ما يُحْتَمَلُ مَعَهُ ظَنُّهم لِكَذِبِهِ، أوْ يَكُونُ قَوْلُهُ غَيْرَ الحَقِّ - في زَعْمِهِمْ - مُرَدَّدًا بَيْنَ أنْ يَكُونَ قالَهُ عَنْ تَعَمُّدٍ أوْ حَمَلَهُ عَلَيْهِ ما رَمَوْهُ بِهِ مِنَ السَّفَهِ مِن غَيْرِ تَأمُّلٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب