الباحث القرآني

ولَمّا كانَ اتِّباعُ مَن يَدَّعِي أنَّهُ أعْقَلُ النّاسِ وأبْعَدُهم عَنِ النَّقائِصِ وأعْرَقُهم في مَعالِي الأخْلاقِ وأرْفَعُهم عَنْ سَفْسافِها لِمَن هَذا سَبِيلُهُ أخْزى الخِزْيِ وأقْبَحُ العارِ، وكانُوا مَعَ العِلْمِ بِهَذا الَّذِي وُصِفَتْ بِهِ - مَعْبُوداتُهم يَفْعَلُونَ في الإشْراكِ بِهِمْ وفي خَوْفِهِمْ ورَجائِهِمْ ما هو عَيْنُ الجَهْلِ؛ كَرَّرَ تَبْكِيتَهم بِاتِّباعِهِمْ في أُسْلُوبٍ آخَرَ أوْضَحَ مِمّا قَبْلَهُ في تَبْيِينِ النَّقائِصِ والتَّنْبِيهِ عَلى المَعايِبِ مُلْجِئٍ إلى الِاعْتِرافِ أوِ التَّصْرِيحِ بِالعِنادِ أوِ الجُنُونِ فَقالَ مُؤَكِّدًا: ﴿إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ﴾ أيْ: أيُّها المُشْرِكُونَ دُعاءَ (p-١٩٥)عِبادَةٍ مُلازِمِينَ لِذَلِكَ، أوْ أنَّهُ أطْلَقَ الدُّعاءَ عَلى العِبادَةِ إشارَةً إلى أنَّهُ لا تَصِحُّ عِبادَةُ مَن لَيْسَ فِيهِ قابِلِيَّةٌ أنْ يُدْعى، والحاصِلُ أنَّ الدُّعاءَ يُلازِمُ المَعْبُودَ. ولَمّا كانَ دُعاؤُهم لَهم إنَّما هو عَلى سَبِيلِ الإشْراكِ، قالَ مُشِيرًا إلى سُفُولِ رُتْبَتِهِمْ بِإثْباتِ الجارِّ: ﴿مِن دُونِ اللَّهِ﴾ أيِ: الَّذِي لَهُ صِفاتُ الكَمالِ والعَظَمَةِ والجَلالِ ﴿عِبادٌ أمْثالُكُمْ﴾ أيْ: في العَجْزِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ لا سِيَّما عَمّا وقَعَ بِهِ التَّحَدِّي مِن مُعارَضَةِ القُرْآنِ وغَيْرِها، وأنْتُمْ تَزِيدُونَ عَلَيْها بِالحَياةِ والعَقْلِ، والمَعْبُودُ لا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ مِثْلَ العابِدِ فَكَيْفَ إذا كانَ دُونَهُ؛ ولَمّا كانُوا لا يُسَلِّمُونَ أنَّهم أمْثالُهُمْ، سَبَّبَ عَنْ ذَلِكَ أمْرَهم بِدُعائِهِمْ لِبَيانِ دَعْوى المِثْلِيَّةِ بَلِ الدُّونِيَّةِ فَقالَ: ﴿فادْعُوهُمْ﴾ أيْ: إلى شَيْءٍ مِنَ الأشْياءِ. ولَمّا كانَ الإلَهُ الحَقُّ يُجِيبُ ولَيَّهُ عِنْدَ التَّحَدِّي مِن غَيْرِ تَخَلُّفٍ، أشارَ إلى ذَلِكَ بِالرَّبْطِ بِالفاءِ فَقالَ: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ﴾ أيْ: يُوجِدُوا لَكم إجابَةً بَيِّنَةً في الإتْيانِ بِسُورَةٍ تُماثِلُ شَيْئًا مِنَ القُرْآنِ وفي شَيْءٍ مِنَ المَنافِعِ. ولَمّا كانَ المَقامُ مُحْتاجًا إلى مَزِيدِ تَوْبِيخٍ وإلْهابٍ، قَدَّمَ مِنهُ ما رَأيْتُ، ثُمَّ زادَ في الإلْهابِ فَقالَ: ﴿إنْ كُنْتُمْ﴾ أيْ: جِبِلَّةً وطَبْعًا ﴿صادِقِينَ﴾ أيْ: في دَعْوى أنَّهم آلِهَةٌ، فَإنَّ رُتْبَةَ الإلَهِ تَقْتَضِي ذَلِكَ، وقَرَأ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ”إنْ“ خَفِيفَةً و”عِبادًا أمْثالَكُمْ“ بِنَصْبِ الدّالِ واللّامِ، (p-١٩٦)واتَّفَقَ المُفَسِّرُونَ عَلى تَخْرِيجِها عَلى أنَّ ”إنْ“ هي النّافِيَةُ أُعْمِلَتْ عَمَلَ ”ما“ الحِجازِيَّةِ، فَرَفَعَتِ الِاسْمَ ونَصَبَتِ الخَبَرَ، وإعْمالُها هَذا العَمَلَ فِيهِ خِلافٌ، أجازَهُ الكِسائِيُّ وأكْثَرُ الكُوفِيِّينَ، ومِنَ البَصْرِيِّينَ ابْنُ السَّرّاجِ والفارِسِيُّ وابْنُ جِنِّيٍّ، ومَنَعَ مِنهُ الفَرّاءُ وأكْثَرُ البَصْرِيِّينَ، واخْتُلِفَ النَّقْلُ عَنْ سِيبَوَيْهِ والمُبَرِّدِ، والصَّحِيحُ أنَّ إعْمالَها لُغَةٌ ثَبَتَ ذَلِكَ في النَّظْمِ والنَّثْرِ - ذَكَرَ ذَلِكَ كُلَّهُ أبُو حَيّانَ وذَكَرَ أنَّهُ أشْبَعُ الكَلامِ فِيهِ في شَرْحِ التَّسْهِيلِ، واعْتُرِضَ عَلى هَذا التَّخْرِيجِ بِأنَّهُ يَلْزَمُ مِنهُ مُنافاتُها لِلْقِراءَةِ المَشْهُورَةِ، وإنَّما يُسَلِّمُ لَهُ ذَلِكَ لَوْ تَوارَدَ النَّفْيُ والإثْباتُ عَلى شَيْءٍ واحِدٍ، ولَيْسَ الأمْرُ هُنا كَذَلِكَ، فالإثْباتُ لِمُماثَلَتِها لَهم في مُطْلَقِ العَجْزِ، والنَّفْيُ لِمُساواتِها لَهم فِيهِ لِزِيادَتِهِمْ عَنْها بِالبَطْشِ ونَحْوِهِ، أوْ يَكُونُ الأمْرُ - كَما قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ - أنَّ الإثْباتَ عَلى سَبِيلِ التَّنَزُّلِ والنَّفْيِ عَلى الحَقِيقَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب