الباحث القرآني

ولَمّا ذَكَرَ سُبْحانَهُ السّاعَةَ هُنا كَما ذَكَرَها أوَّلَ السُّورَةِ بِما لَمْ يَذْكُرْهُ (p-١٨٩)هُناكَ مِن تَهَكُّمِهِمْ واسْتِهْزائِهِمْ، وخَتَمَ هُنا بِحَصْرِ العِلْمِ والقُدْرَةِ في اللَّهِ المُوجِبِ لِتَفَرُّدِهِ بِالإلَهِيَّةِ، وكانَ الَّذِي جَرَّهم إلى ذَلِكَ الِاسْتِهْزاءِ إشْراكَهُمْ، ذَكَرَ ما ذَكَرَ قَبْلَها أوَّلَ السُّورَةِ مِنَ ابْتِداءِ الخَلْقِ عَلى وجْهِ الحَصْرِ المُسْتَلْزِمِ لِتَمامِ القُدْرَةِ المُوجِبِ لِنَفْيِ الشَّرِيكِ واعْتِقادِ القُدْرَةِ عَلى السّاعَةِ وغَيْرِها والصِّدْقِ في كُلِّ ما وقَعَ الإخْبارُ بِهِ مِن أمْرِها وغَيْرِهِ المُوجِبِ لِلِاسْتِقامَةِ في قَبُولِ بِشارَتِهِ ونِذارَتِهِ والإقْبالِ بِالكُلِّيَّةِ عَلى الخالِقِ، فَقالَ مُقَرِّرًا لِلتَّوْحِيدِ مُؤَكِّدًا لِأمْرِهِ: ﴿هُوَ﴾ أيْ: وحْدَهُ ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ أيْ: ولَمْ تَكُونُوا شَيْئًا ﴿مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ﴾ أيْ: خَلَقَها ابْتِداءً مِن تُرابٍ وهي آدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ - كَما مَرَّ بَيانُهُ، ومَن قَدَرَ عَلى اخْتِراعِ حَيٍّ مِن شَيْءٍ لَيْسَ لَهُ أصْلٌ في الحَياةِ، كانَ عَلى إعادَتِهِ حَيًّا مِن ذَلِكَ الشَّيْءِ بَعْدَ أنْ صارَ لَهُ أصْلٌ في الحَياةِ أقْدَرَ. ولَمّا كانَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ بَعْدَ صَيْرُورَتِهِ لَحْمًا ودَمًا أقْرَبَ إلى السَّبَبِيَّةِ لِخَلْقِ ذاتِ لَحْمٍ ودَمٍ مِنهُ، قالَ [مُعَبِّرًا بِالواوِ لِأنَّهُ كافٍ في نَفْيِ الشِّرْكِ الَّذِي السِّياقُ لِلتَّحْذِيرِ مِنهُ بِخِلافِ الزُّمَرِ فَإنَّهُ لِلْقَهْرِ، وتَأْخِيرُ المُسَبَّباتِ عَنِ الأسْبابِ مُدَّةً أدُلُّ عَلَيْهِ لِأنَّهُ خِلافُ الأصْلِ]: ﴿وجَعَلَ﴾ لِأنَّ الجَعْلَ - كَما قالَ الحَرالِّيُّ - إظْهارُ أمْرٍ عَنْ سَبَبٍ وتَصْيِيرٍ ﴿مِنها﴾ أيْ: لا مِن غَيْرِها ﴿زَوْجَها﴾ أيْ: حَوّاءَ مِن لَحْمِها ودَمِها وعَظْمِها. ولَمّا كانَ المُرادُ بِالنَّفْسِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ وكانَ الزَّوْجُ يُقالُ عَلى الذَّكَرِ (p-١٩٠)والأُنْثى، اسْتَخْدَمَ ضَمِيرَهُ في المُذَكَّرِ ذاكِرًا عِلَّةَ الجَعْلِ بِقَوْلِهِ: ﴿لِيَسْكُنَ﴾ أيْ: آدَمُ هو المُرادُ بِالنَّفْسِ هُنا، ولَمّا كانَ الزَّوْجُ هُنا هو المَرْأةَ أنَّثَ الضَّمِيرَ فَقالَ: ﴿إلَيْها﴾ [وتَنَقُّلُكم مِن ذَلِكَ السُّكُونِ مِنهُ إلَيْها] لِأنَّ النَّفْسَ إلى الجِنْسِ أمْيَلُ وعَلَيْهِ أقْبَلُ، ولا سِيَّما إنْ كانَ بَعْضًا، ألا تَرى إلى مَحَبَّةِ الوالِدِ لِوَلَدِهِ والقَرِيبِ لِقَرِيبِهِ، وإنَّما مَنَعَ سُبْحانَهُ مِن نِكاحِ الأصْلِ والفَرْعِ لِما في ذَلِكَ مِنَ الضِّرارِ وغَيْرِهِ مِنَ الحِكَمِ الكِبارِ، فَيَغْشاها عِنْدَ ما يَسْكُنُ إلَيْها فَيَحْصُلُ الحَبَلُ والوِلادَةُ فَتَتَفَرَّعُ النُّفُوسُ مِن تِلْكَ النَّفْسِ. ولَمّا كانَ [السُّكُونُ هُنا كِنايَةً عَنِ الجِماعِ، أعادَهُ بِلَفْظٍ أقْرَبَ مِنهُ] فَقالَ مُؤْذِنًا بِقُرْبِ غِشْيانِها بَعْدَ جَعْلِها، [أوْ] ناسِقًا لَهُ عَلى [ما] تَقْدِيرُهُ: فَسَكَنَ إلَيْها فَمالَتْ نَفْسُهُ إلَيْها فَلَمْ يَتَمالَكْ أنْ غَشِيَها ﴿فَلَمّا تَغَشّاها﴾ أيْ: غَشِيَها آدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ المُعَبَّرُ عَنْهُ بِالنَّفْسِ بِهِمَّةٍ عَظِيمَةٍ ﴿حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا﴾ أيْ: لِأنَّهُ نُطْفَةٌ ﴿فَمَرَّتْ بِهِ﴾ أيْ: فَعالَجَتْ [بِهِ] أعْمالَها وقامَتْ وقَعَدَتْ، لَمْ يَعُقْها عَنْ شَيْءٍ مِن ذَلِكَ، إعْلامًا بِأنَّ أمْرَها فِيهِ كانَ عَلى عادَةِ النِّساءِ الَّتِي نَعْرِفُها ﴿فَلَمّا أثْقَلَتْ﴾ أيْ: صارَتْ ثَقِيلَةً بِكِبَرِهِ وتَحَرُّكِهِ في بَطْنِها ﴿دَعَوا اللَّهَ﴾ أيْ: آدَمُ وحَوّاءُ عَلَيْهِما السَّلامُ. ولَمّا ذَكَرَ الِاسْمَ الأعْظَمَ اسْتِحْضارًا لِأنَّ المَدْعُوَّ هو الَّذِي لَهُ جَمِيعُ الكَمالِ، فَهو قادِرٌ عَلى ما دَعَوا بِهِ لِأنَّهُ قادِرٌ عَلى كُلِّ ما يُرِيدُ، ذَكَرَ صِفَةَ الإحْسانِ رَجاءَ القَبُولِ والِامْتِنانِ فَقالَ: ﴿رَبَّهُما﴾ أيِ: الَّذِي أحْسَنَ إلَيْهِما، (p-١٩١)مُقْسِمِينَ ﴿لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحًا﴾ أيْ: ولَدًا لا عَيْبَ فِيهِ ﴿لَنَكُونَنَّ مِنَ الشّاكِرِينَ﴾ أيْ: نَحْنُ وأوْلادُنا عَلى نِعْمَتِكَ عَلَيْنا، وذَلِكَ أنَّهُما جَوَّزا أنْ يَكُونَ غَيْرَ سَوِيٍّ لِقُدْرَةِ اللَّهِ عَلى كُلِّ ما يُرِيدُ؛ لِأنَّهُ الفاعِلُ المُخْتارُ لا الطَّبِيعَةُ ولا غَيْرُها، وأشارَ بِالفاءِ إلى قُرْبِ الوِلادَةِ مِنَ الدُّعاءِ فَقالَ:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب