الباحث القرآني

ولَمّا كانَ هَذا السِّياقُ مُوهِمًا لِمَن لَمْ يَرْسَخْ قَدَمُهُ في الإيمانِ أنَّ الشَّيْطانَ لَهُ تَأْثِيرٌ مُسْتَقِلٌّ في الإغْواءِ، نَفى ذَلِكَ غَيْرَةً عَلى هَذا المَقامِ في مَظْهَرِ العَظَمَةِ فَقالَ: ﴿ولَوْ شِئْنا﴾ أيْ: أنْ نَرْفَعَهُ بِها عَلى ما لَنا مِنَ العَظَمَةِ الَّتِي مَن دَنا ساحَتَها بِغَيْرِ إذْنٍ مُحِقَ ﴿لَرَفَعْناهُ﴾ أيْ: في المَنزِلَةِ رِفْعَةً دائِمَةً ﴿بِها﴾ أيِ: الآياتِ حَتّى لا يَزالَ عامِلًا بِها. ولَمّا عَلَّقَ الأمْرَ بِالمَشِيئَةِ تَنْبِيهًا عَلى أنَّها هي السَّبَبُ الحَقِيقِيُّ وأنَّ ما لَمْ يَشَأْهُ سُبْحانَهُ لا يَكُونُ، وكانَ التَّقْدِيرُ: ولَكِنّا لَمْ نَشَأْ ذَلِكَ وشِئْنا لَهُ الكُفْرَ فَأخْلَدْناهُ - إلى آخِرِهِ، عَبَّرَ عَنْهُ تَعْلِيمًا لِلْأدَبِ في إسْنادِ الخَيْرِ إلى اللَّهِ والشَّرِّ إلى غَيْرِهِ وإنْ كانَ الكُلُّ خَلْقَهُ حِفْظًا - لِعُقُولِ الضُّعَفاءِ مِن إيهامِ نَقْصٍ أوْ إدْخالِ لَبْسٍ بِقَوْلِهِ مُسْنِدًا نَقْصَهُ إلَيْهِ: ﴿ولَكِنَّهُ أخْلَدَ﴾ أيْ: فَعَلَ فِعْلَ مَن أوْقَعَ الخُلْدَ - وهو الدَّوامُ - وأوْجَدَهُ ﴿إلى الأرْضِ﴾ أيْ: رَمى بِنَفْسِهِ إلى الدُّنْيا رَمْيًا، تَهالُكًا عَلى ما فِيها مِنَ المَلاذِّ الحَيَوانِيَّةِ والشَّهَواتِ النَّفْسانِيَّةِ ﴿واتَّبَعَ﴾ أيِ: اتِّباعًا شَدِيدًا (p-١٦٠)﴿هَواهُ﴾ فَأعْرَضَ عَنِ التَّمَسُّكِ بِما آتاهُ اللَّهُ مِنَ الآياتِ مُقَدِّمًا لِداعِي نَفْسِهِ عَلى داعِي رُوحِهِ؛ لِأنَّ القَلْبَ الَّذِي هو نَتِيجَتُهُما في عالَمِ الأمْرِ لَهُ وجْهانِ: وجْهٌ إلى الرُّوحِ العُلْوِيِّ الرُّوحانِيِّ الَّذِي هو الأبُ، ولَهُ الذُّكُورَةُ المُناسِبَةُ لِلْعُلُوِّ؛ ووَجْهٌ إلى النَّفْسِ الَّتِي هي الرُّوحُ الحَيَوانِيُّ الَّتِي هي الأُمُّ ولَها المُناسَبَةُ لِلْأرْضِ بِالأُنُوثَةِ وبِأنَّ أصْلَها مِنَ التُّرابِ الَّذِي لَهُ الرُّسُوبُ بِوَضْعِ الجِبِلَّةِ؛ فالتَّقْدِيرُ: فَحَطَّ نَفْسَهُ حَطًّا عَظِيمًا، لِأنّا لَمْ نَشَأْ رَفْعَهُ بِما أعْطَيْناهُ مِنَ الآياتِ، وإنَّما جَعَلْناهُ وبالًا عَلَيْهِ، فَلا يَغْتَرَّ أحَدٌ بِما أُوتِيَ مِنَ المَعارِفِ، وما حازَ مِنَ المَفاخِرِ واللَّطائِفِ؛ فَإنَّ العِبْرَةَ بِالخَواتِيمِ، ولَنا بَعْدَ ذَلِكَ أنْ نَفْعَلَ ما نَشاءُ. ولَمّا كانَ هَذا حالَهُ، تَسَبَّبَ عَنْهُ أنْ قالَ تَعالى: ﴿فَمَثَلُهُ﴾ أيْ: مَعَ ما أُوتِيَ مِنَ العِلْمِ في اتِّباعِهِ لِمُجَرَّدِ هَواهُ مِن غَيْرِ دَلِيلٍ بَعْدَ الأمْرِ بِمُخالَفَةِ الهَوى ﴿كَمَثَلِ الكَلْبِ﴾ أيْ: في حالِ دَوامِ اللَّهْثِ. ولَمّا كانَ [كَأنَّهُ] قِيلَ: مَثَلُهُ في أيِّ أحْوالِهِ؟ قالَ: في كَوْنِهِ ﴿إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ﴾ أيْ: لِتَضْرِبَهُ ﴿يَلْهَثْ أوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ﴾ فَإنْ أوْجَبَ لَكَ الحَمْلُ عَلَيْهِ ظَنَّ أنَّ لَهْثَهُ لَمّا حاوَلَ مِن ذَلِكَ التَّعَبِ رَدَّكَ عَنْهُ لَهْثُهُ في الدَّعَةِ، فَتَعْلَمُ حِينَئِذِ أنَّهُ لَيْسَ لَهُ سَبَبٌ إلّا اتِّباعُ الهَوى، فَتابِعُ الهَوى مِثْلُ الكَلْبِ كَما بَيَّنَ، ومِثالُ هَذا المُنْسَلِخِ الجاهِلِ الَّذِي لا يُتَصَوَّرُ أنْ يَتَّبِعَ غَيْرَ الهَوى؛ لِأنَّهُ يَتَّبِعُ الهَوى مَعَ إيتاءِ الآياتِ فَبَعْدَ الِانْسِلاخِ مِنها أوْلى، فَقَدْ وضَحَ تَشْبِيهُ مِثْلِهِ بِمَثَلِ الكَلْبِ، لا تَشْبِيهَ مِثْلِهِ بِالكَلْبِ؛ وهَذِهِ القِصَّةُ تَدُلُّ عَلى (p-١٦١)أنَّ مَن كانَتْ نِعَمُ اللَّهِ في حَقِّهِ أكْثَرَ، كانَ بُعْدُهُ عَنِ اللَّهِ إذا أعْرَضَ عَنْهُ أعْظَمَ وأكْبَرَ. ولَمّا تَقَرَّرَ المَثَلانِ، وكانَ كُلٌّ مِنهُما مُنْطَبِقًا عَلى حالَةِ كُلِّ مُكَذِّبٍ، كانَتِ النَّتِيجَةُ قَوْلَهُ: ﴿ذَلِكَ﴾ أيْ: كُلٌّ مِنَ المَثَلَيْنِ ﴿مَثَلُ القَوْمِ﴾ أيِ: الأقْوِياءِ ما يُحاوِلُونَهُ ﴿الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا﴾ أيْ: في أنَّ تَرْكَهم لَها إنَّما هو بِمُجَرَّدِ الهَوى؛ لِأنَّ لَها مِنَ الظُّهُورِ والعَظَمَةِ بِنِسْبَتِها إلَيْنا ما لا يَخْفى عَلى مَن لَهُ أدْنى بَصِيرَةٍ ﴿فاقْصُصِ القَصَصَ﴾ أيْ: فَأخْبِرِ الإخْبارَ العَظِيمَ الَّذِي تَتَبَّعْتَ بِهِ مَواقِعَ الوَقائِعِ وآثارَ الأعْيانِ حَتّى لَمْ تَدَعْ في شَيْءٍ مِنها لَبْسًا عَلى كُلِّ مَن يَسْمَعُ لَكَ مِنَ اليَهُودِ وغَيْرِهِمْ، وهو مَصْدَرُ قَصَّ الشَّيْءِ - إذا تَبِعَ أثَرَهُ واسْتَقْصى في ذَلِكَ ﴿لَعَلَّهم يَتَفَكَّرُونَ﴾ أيْ: لِيَكُونَ حالُهم حالَ مَن يُرْجى تَفَكُّرُهُ في هَذِهِ الآياتِ، فَيَعْلَمُونَ أنَّهُ لا يَأْتِي بِمِثْلِها مِن غَيْرِ مُعَلِّمٍ مِنَ النّاسِ إلّا نَبِيٌّ فَيَرُدُّهم ذَلِكَ إلى الصَّوابِ حَذَرًا مِن مِثْلِ حالِ هَذا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب