الباحث القرآني

ولَمّا فَرَغَ سُبْحانَهُ مِن ذِكْرِ الوَعْدِ بِالمِيقاتِ المَقْصُودِ بِهِ سَعْيَ الكَلِيمِ عَلَيْهِ السَّلامُ فِيما يَهْدِيهِمْ إلى صِراطِ اللَّهِ، وذَكَرَ سَعْيَهم فِيما أضَلَّهم عَنِ الطَّرِيقِ بِاتِّخاذِهِمُ العِجْلَ، وكانَ خِتامُ ذَلِكَ ما بَدا مِن مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ الشَّفَقَةِ عَلى أخِيهِ ثُمَّ عَلى الكافَّةِ بِأخْذِ الألْواحِ عِنْدَ الفَراغِ مِمّا يَجِبُ مِنَ الغَضَبِ لِلَّهِ، رَدَّ الكَلامَ عَلى ذِكْرِ شَيْءٍ فَعَلَهُ في المِيقاتِ مُرادٌ بِهِ عِصْمَتُهم في صِراطِ اللَّهِ بِنَقْلِهِمْ - بِمُشارَكَتِهِ في سَماعِهِمْ لِكَلامِ اللَّهِ - مِن عِلْمِ اليَقِينِ إلى عَيْنِ اليَقِينِ بَلْ حَقِّ اليَقِينِ شَفَقَةً عَلَيْهِمْ ورَحْمَةً لَهُمْ، لِيَكُونَ إخْبارُهم عَمّا رَأوْا مُؤَيِّدًا لِما يُخْبِرُ بِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِحِفْظِهِمْ مِن مِثْلِ ما وقَعُوا فِيهِ مِن عِبادَةِ العِجْلِ، ومَعَ ذَلِكَ وقَعَ مِنهُمُ العِصْيانُ بِطَلَبِ ما لا يَنْبَغِي لَهم مِنَ الرُّؤْيَةِ عَلى وجْهِ التَّعَنُّتِ، فَقالَ: ﴿واخْتارَ﴾ أيِ: اجْتَهَدَ في أخْذِ الخِيارِ ﴿مُوسى قَوْمَهُ﴾ ثُمَّ أبْدَلَ مِنهم قَوْلَهُ: ﴿سَبْعِينَ رَجُلا﴾ إشارَةً إلى أنَّ مَن عَداهم عَدَمٌ، لا يُطْلَقُ عَلَيْهِمُ اسْمُ القَوْمِ في المَعْنى الَّذِي أرادَهُ، وهو نَحْوُ ما قالَ النَّبِيُّ ﷺ فِيما أخْرَجَهُ الشَّيْخانِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما ”النّاسُ كالإبِلِ المِائَةِ، لا تَكادُ تَجِدُ فِيها راحِلَةً“ ثُمَّ ذَكَرَ عِلَّةَ الِاخْتِيارِ فَقالَ: ﴿لِمِيقاتِنا﴾ أيْ: فَما اخْتارَ إلّا مَن رَأى أنَّهُ يَصْلُحُ لِما نُرِيدُ مِن عَظَمَتِنا في الوَقْتِ الَّذِي حَدَّدْناهُ لَهُ، ودَنا بِهِمْ مِنَ الحَضْرَةِ (p-١٠١)الخَطابِيَّةِ في الجَبَلِ هو وهارُونُ عَلَيْهِما السَّلامُ، واسْتَخْلَفَ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ يُوشَعَ بْنَ نُونٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، كُلُّ ذَلِكَ عَنْ أمْرِ اللَّهِ لَهُ، و[فِي] هَذا الكَلامِ عَطْفٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿وواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً﴾ [الأعراف: ١٤٢] فَيَكُونُ المِيقاتُ هو الأوَّلَ وهو ظاهِرُ التَّوْراةِ كَما مَرَّ بَيانُهُ في البَقَرَةِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلى قَوْلِهِ: ﴿واتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى﴾ [الأعراف: ١٤٨] أوْ عَلى قَوْلِهِ: ﴿أخَذَ الألْواحَ﴾ [الأعراف: ١٥٤] وحِينَئِذٍ يَكُونُ هَذا المِيقاتُ غَيْرَ المِيقاتِ الأوَّلِ، ويُؤَيِّدُهُ ما نُقِلَ مِن أنَّ هارُونَ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ مَعَهُمْ، وكَأنَّهم لِما سَمِعُوا كَلامَ اللَّهِ طَلَبَ بَعْضُهُمُ الرُّؤْيَةَ جاعِلِيها شَرْطًا لِإيمانِهِمْ فَقالُوا: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرى اللَّهَ جَهْرَةً﴾ [البقرة: ٥٥] كَما فَعَلَ النُّقَباءُ الِاثْنا عَشَرَ حِينَ أرْسَلَهم لِجَسِّ أحْوالِ الجَبّارِينَ فَنَقَضَ أكْثَرُهُمْ، فَأخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَماتُوا، فَخَشِيَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ أنْ يَتَّهِمَهُ بَنُو إسْرائِيلَ في مَوْتِهِمْ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ ﴿فَلَمّا أخَذَتْهُمُ﴾ أيْ: أخْذَ قَهْرٍ وغَلَبَةٍ ﴿الرَّجْفَةُ﴾ أيِ: الَّتِي سَبَّبَتْها الصّاعِقَةُ الَّتِي تَقَدَّمَتْ في البَقَرَةِ، فَزُلْزِلَتْ قُلُوبُهم فَأماتَتْهُمْ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رِضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أنَّ هَؤُلاءِ غَيْرُ السَّبْعِينَ الَّذِينَ قالُوا: ﴿أرِنا اللَّهَ جَهْرَةً فَأخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ﴾ [النساء: ١٥٣] وأنَّ أُولَئِكَ كانُوا قَبْلَ هَؤُلاءِ، فالظّاهِرُ أنَّ سَبَبَ الرَّجْفَةِ ما رَأوْا عِنْدَ سَماعِ الكَلامِ مِن جَلالِ اللَّهِ وعَظِيمِ هَيْبَتِهِ مِنَ الغَمامِ الَّذِي تَغَشّى الجَبَلَ والقُتارِ والبُرُوَقِ وأصْواتِ القُرُونِ وغَيْرِ ذَلِكَ بِحَيْثُ كادَتِ الرَّجْفَةُ - وهي رِعْدَةٌ - تُفَرِّقُ أوْصالَهم بَعْضَها مِن بَعْضٍ ﴿قالَ﴾ أيْ: مُوسى تَمَلُّقًا لِرَبِّهِ سُبْحانَهُ (p-١٠٢)﴿رَبِّ﴾ أيْ: أيُّها المُحْسِنُ إلَيَّ ﴿لَوْ شِئْتَ أهْلَكْتَهُمْ﴾ أيْ: أمَتَّهم. ولَمّا لَمْ يَكُنْ إهْلاكُهم مُسْتَغْرِقًا لِلْماضِي، أدْخَلَ الجارَّ فَقالَ: ﴿مِن قَبْلُ وإيّايَ﴾ أيْ: قُدْرَتُكَ عَلَيَّ وعَلَيْهِمْ قَبْلُ أنْ نَقْتَرِبَ مِن هَذِهِ الحَضْرَةِ المُقَدَّسَةِ ونَحْنُ بِحَضْرَةِ قَوْمِنا كَقُدْرَتِكَ عَلَيْنا حِينَ تُشَرِّفُنا بِها، وقَدْ أسْبَلْتَ عَلَيْنا ذَيْلَ عَفْوِكَ وأسْبَغْتَ عَلَيْنا نِعْمَتَكَ ونَحْنُ في غَيْرِ الحَضْرَةِ فَلَمْ تُهْلِكْنا، فَإنْعامُكَ عَلَيْنا ونَحْنُ في حَضْرَةِ القُدْسِ وبِساطِ القُرْبِ والأُنْسِ أوْلى. ثُمَّ لَمّا كانَ الحالُ مُقْتَضِيًا لِأنْ يُقالَ: ألَمْ تَرَ إلى ما اجْتَرَؤُوا عَلَيْهِ، وكانَ كَأنَّهُ قالَ: إنَّما قالَ ذَلِكَ قَوْمٌ مِنهم سُفَهاءُ، دَلَّ [عَلى] ذَلِكَ بِقَوْلِهِ اسْتِعْطافًا: ﴿أتُهْلِكُنا﴾ وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رِضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أنَّ رَجْفَتَهم كانَتْ بِسَبَبِ أنَّهم لَمْ يَنْهَوْا عَنْ عِبادَةِ العِجْلِ مَعَ أنَّهم لَمْ يَرْضَوْا بِذَلِكَ. وكَأنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ عَبَّرَ بِهَذِهِ العِبارَةِ المُقْتَضِيَةِ لِإهْلاكِ الجَمِيعِ لِأنَّهُ جَوَّزَ أنَّهُ كَما أهْلَكَ هَؤُلاءِ يُهْلِكُ غَيْرَهم لِتَقْصِيرٍ آخَرَ بِسَبَبِ ذَلِكَ كَعَدَمِ الجِهادِ مَثَلًا حَتّى يَعُمَّهُمُ الهَلاكُ ﴿بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنّا﴾ فَكَأنَّهُ ﷺ رَضِيَ أنَّهُ إنْ لَمْ يَشْمَلْهُمُ العَفْوُ أنْ يَخُصَّ العَفْوَ بِمَن لَمْ يُذْنِبْ بِالفِعْلِ ويَعْفُوَ عَمَّنْ قَصَّرَ بِالسُّكُوتِ، وعَلى تَقْدِيرِ كَوْنِ المِيقاتِ غَيْرَ الأوَّلِ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ بَعْدَ اتِّخاذِهِمُ العِجْلَ كَما تَقَدَّمَ عَنِابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، فَيَكُونُ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ خافَ أنْ يَكُونَ إهْلاكُهم فِتْنَةً لِبَنِي إسْرائِيلَ وسَبَبًا لِكُفْرِهِمْ كَما كانَ إبْطاؤُهُ عَنْهم بِزِيادَةِ عَشَرَةِ أيّامٍ (p-١٠٣)عَلى الثَّلاثِينَ في المِيقاتِ الأوَّلِ سَبَبًا لِاتِّخاذِهِمُ العِجْلَ، ويَجُوزُ حِينَئِذٍ أنْ يُرادَ بِفِعْلِ السُّفَهاءِ اتِّخاذُ العِجْلِ، ويُؤَيِّدُهُ التَّعْبِيرُ بِالفِعْلِ دُونَ القَوْلِ وقَدْ تَقَدَّمَ نَقْلُهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما. ولَمّا كانَ قَوْلُهُ هَذا رُبَّما أفْهَمَ رِضاهُ بِهَلاكِ المُذْنِبِينَ، قالَ مُعَرِّضًا بِالسُّؤالِ في العَفْوِ عَنِ الجَمِيعِ: ﴿إنْ هِيَ﴾ أيِ: الفِتْنَةُ الَّتِي أوْقَعَها السُّفَهاءُ ﴿إلا فِتْنَتُكَ﴾ أيِ: ابْتِلاؤُكَ واخْتِبارُكَ ﴿تُضِلُّ بِها مَن تَشاءُ﴾ أيْ: تُظْهِرُ في عالَمِ الشَّهادَةِ مَن ضَلالُهُ ما كانَ مَعْلُومًا لَكَ في عالَمِ الغَيْبِ ﴿وتَهْدِي مَن تَشاءُ﴾ أيْ: تُظْهِرُ ما في عِلْمِكَ مِن ذَلِكَ. ولَمّا أثْبَتَ أنَّ الكُلَّ بِيَدِهِ، اسْتَأْنَفَ سُؤالَهُ في أنْ يَفْعَلَ لَهُمُ الأصْلَحَ فَقالَ: ﴿أنْتَ﴾ [أيْ: وحْدَكَ] ﴿ولِيُّنا﴾ أيْ: نَعْتَقِدُ أنَّهُ لا يَقْدِرُ عَلى عَمَلِ مَصالِحِنا غَيْرُكَ، وأنْتَ لا نَفْعَ لَكَ في شَيْءٍ مِنَ الأمْرَيْنِ ولا ضُرٌّ، بَلِ الكُلُّ بِالنِّسْبَةِ إلَيْكَ عَلى حَدٍّ سَواءٍ، ونَحْنُ عَلى بَصِيرَةٍ مِن أنَّ أفْعالَكَ لا تُعَلُّلُ بِالأغْراضِ، وعَفْوُكَ عَنّا يَنْفَعُنا وانْتِقامُكَ مِنّا يَضُرُّنا، ونَحْنُ في حَضْرَتِكَ قَدِ انْقَطَعْنا إلَيْكَ وحَطَطْنا رِحالَ افْتِقارِنا لَدَيْكَ. ولَمّا أثْبَتَ أنَّهُ الفَعّالُ لِما يَشاءُ وأنَّهُ لا ولِيَّ لَهم غَيْرُهُ، وكانَ مِن شَأْنِ الوَلِيِّ جَلْبُ النَّفْعِ ودَفْعُ الضُّرِّ، سَبَّبَ عَنْ كَوْنِهِ الوَلِيَّ وحْدَهُ قَوْلَهُ بادِئًا بِدَفْعِ الضَّرَرِ: ﴿فاغْفِرْ لَنا﴾ أيِ: امْحُ ذُنُوبَنا ﴿وارْحَمْنا﴾ أيِ: ارْفَعْنا؛ ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ: فَأنْتَ خَيْرُ الرّاحِمِينَ، عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: ﴿وأنْتَ خَيْرُ الغافِرِينَ﴾ (p-١٠٤)أيْ: لِأنَّ غَيْرَكَ يَتَجاوَزُ عَنِ الذَّنْبِ لِلثَّناءِ أوِ الثَّوابِ أوْ دَفْعًا لِلصِّفَةِ الخَسِيسَةِ وهي صِفَةُ الحِقْدِ ونَحْوِهِ، وأنْتَ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ،
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب