الباحث القرآني

ولَمّا أخْبَرَ بِالسَّبَبِ في تَأْخِيرِ الِانْتِقامِ عَنْهم مَعَ مُساواتِهِمْ لِمَن أُوقِعَتْ (p-٨٨)بِهِمُ النِّقْمَةُ في مُوجِبِ الِانْتِقامِ، أخْبَرَ سُبْحانَهُ بِحالِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ مَعَهم عِنْدَ رُجُوعِهِ إلَيْهِمْ مِنَ الغَضَبِ لِلَّهِ والتَّبْكِيتِ لِمَن خالَفَهُ مَعَ ما اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الرَّحْمَةِ والتَّواضُعِ فَقالَ: ﴿ولَمّا رَجَعَ مُوسى﴾ أيْ: مِنَ المُناجاةِ ﴿إلى قَوْمِهِ غَضْبانَ﴾ أيْ: في حالِ رُجُوعِهِ لَمّا أخْبَرَهُ اللَّهُ تَعالى عَنْهم مِن عِبادَةِ العِجْلِ ﴿أسِفًا﴾ أيْ: شَدِيدَ الغَضَبِ والحُزْنِ ﴿قالَ بِئْسَما﴾ أيْ: خِلافَةُ خِلافَتِكُمُ الَّتِي ﴿خَلَفْتُمُونِي﴾ أيْ: قُمْتُمْ مَقامِي وفَعَلْتُمْ مَقامِي وفَعَلْتُمْ خَلْفِي. ولَمّا كانَ هَذا رُبَّما أوْهَمَ أنَّهم فَعَلُوهُ مِن رِوائِهِ وهو حاضِرٌ في طَرَفِ العَسْكَرِ، قالَ: ﴿مِن بَعْدِي﴾ أيْ: حَيْثُ عَبَدْتُمْ غَيْرَ اللَّهِ أيُّها العَبَدَةُ، وحَيْثُ لَمْ تَكْفُوهم أيُّها المُوَحِّدُونَ بَعْدَ ذَهابِي إلى الجَبَلِ لِلْمُواعَدَةِ الإلَهِيَّةِ وبَعْدَ ما سَمِعْتُمْ مِنِّي مِنَ التَّوْحِيدِ لِلَّهِ تَعالى وإفْرادِهِ عَنْ خَلْقِهِ بِالعِبادَةِ ونَفْيِ الشُّرَكاءِ عَنْهُ، وقَدْ رَأيْتُمْ حِينَ كَفَفْتُكم وزَجَرْتُكم عَنْ عِبادَةِ غَيْرِهِ حِينَ قُلْتُمْ: ﴿اجْعَلْ لَنا إلَهًا كَما لَهم آلِهَةٌ﴾ [الأعراف: ١٣٨] ومِن حَقِّ الخُلَفاءِ أنْ يَسِيرُوا سِيرَةَ المُسْتَخْلِفِ ولا يُخالِفُوهُ في شَيْءٍ. ولَمّا كانَ قَدْ أمَرَهُمُ أنْ لا يُحْدِثُوا حَدَثًا حَتّى يَعُودَ إلَيْهِمْ، أنْكَرَ عَلَيْهِمْ عَدَمَ انْتِظارِهِ فَقالَ: ﴿أعَجِلْتُمْ﴾ قالَ الصَّغانِيُّ في المَجْمَعِ: سَبَقْتُمْ، وقالَ غَيْرُهُ: عَجِلَ عَنِ الأمْرِ، إذا تَرَكَهُ غَيْرَ تامٍّ، ويُضَمَّنُ مَعْنى سَبَقَ، فالمَعْنى: (p-٨٩)سابِقِينَ ﴿أمْرَ رَبِّكُمْ﴾ أيْ: مِيعادَ الَّذِي ما زالَ مُحْسِنًا إلَيْكُمْ، أيْ: فَعَلْتُمْ هَذا قَبْلَ بُلُوغِ أمْرِ المَوْعِدِ الَّذِي زادَ فِيهِ رَبِّي وهو العَشَرَةُ الأيّامِ بِرُجُوعِي إلَيْكم إلى حَدِّهِ، فَظَنَنْتُمْ أنِّي مُتٌّ فَغَيَّرْتُمْ كَما غَيَّرَتِ الأُمَمُ بَعْدَ مَوْتِ أنْبِيائِها، قالَ الإمامُ أبُو عَبْدِ اللَّهِ القَزّازُ أيْضًا: عَجِلْتُمْ: سَبَقْتُمْ، ومِنهُ تَقُولُ: عَجِلْتُ فُلانًا سَبَقْتُهُ، وأسْنَدَهُ ابْنُ التَّيّانِيِّ إلى الأصْمَعِيِّ. ﴿وألْقى الألْواحَ﴾ أيِ: الَّتِي فِيها التَّوْراةُ غَضَبًا لِلَّهِ وإرْهابًا لِقَوْمِهِ، ودَلَّ هَذا عَلى أنَّ الغَضَبَ بَلَغَ مِنهُ حَدًّا لَمْ يَتَمالَكْ مَعَهُ، وذَلِكَ في اللَّهِ تَعالى: ﴿وأخَذَ بِرَأْسِ أخِيهِ﴾ أيْ: بِشَعْرِهِ ﴿يَجُرُّهُ إلَيْهِ﴾ أيْ: بِناءً عَلى أنَّهُ قَصَّرَ وإعْلامًا لَهم بِأنَّ الغَضَبَ مِن هَذا الفِعْلِ قَدْ بَلَغَ مِنهُ مَبْلَغًا يَجِلُّ عَنِ الوَصْفِ؛ لِأنَّهُ اجْتِثاثٌ لِلدِّينِ مِن أصْلِهِ. ولَمّا كانَ هارُونُ عَلَيْهِ السَّلامُ غَيْرَ مُقَصِّرٍ في نَهْيِهِمْ، أخَذَ في إعْلامِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ بِذَلِكَ مُخَصِّصًا الأُمَّ وإنْ كانَ شَقِيقَهُ - تَذْكِيرًا لَهُ بِالرَّحِمِ المُوجِبَةِ لِلْعَطْفِ والرِّقَّةِ ولا سِيَّما وهي مُؤْمِنَةٌ وقَدْ قاسَتْ فِيهِ المَخاوِفَ، فاسْتَأْنَفَ سُبْحانَهُ الإخْبارَ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿قالَ ابْنَ أُمَّ﴾ وحَذَفَ أداةَ النِّداءِ وياءَ الإضافَةِ لِما يَقْتَضِيهِ الحالُ مِنَ الإيجازِ، وفَتَحَ الجُمْهُورُ المِيمَ تَشْبِيهًا [لَهُ] بِخَمْسَةَ عَشَرَ وعَلى حَذْفِ الألِفِ المُبْدَلَةِ مِن ياءِ الإضافَةِ، وكَسَرَ المِيمَ ابْنُ عامِرٍ وحَمَزَةُ والكِسائِيُّ وأبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ بِتَقْدِيرِ حَذْفِ ياءِ الإضافَةِ تَخْفِيفًا ﴿إنَّ القَوْمَ﴾ أيْ: عَبَدَةَ العِجْلِ الَّذِينَ (p-٩٠)يَعْرِفُ قِيامَهم في الأُمُورِ الَّتِي يُرِيدُونَها ﴿اسْتَضْعَفُونِي﴾ أيْ: عَدُّونِي ضَعِيفًا وأوْجَدُوا ضَعْفِي بِإرْهابِهِمْ لِي ﴿وكادُوا يَقْتُلُونَنِي﴾ أيْ: قارَبُوا ذَلِكَ لِإنْكارِي ما فَعَلُوهُ [فَسَقَطَ عَنِّي الوُجُوبُ]. ولَمّا تَسَبَّبَ عَنْ ذَلِكَ إطْلاقُهُ، خافَ أنْ يَمْنَعَهُ الغَضَبُ مِن ثَباتِ ذَلِكَ في ذِهْنِهِ وتَقَرُّرِهِ في قَلْبِهِ فَقالَ: ﴿فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأعْداءَ﴾ أيْ: لا تَسُرُّهم بِما تَفْعَلُ بِي فَأكُونَ مَلُومًا مِنهم ومِنكَ؛ ولَمّا اسْتَعْطَفَهُ بِالتَّذْكِيرِ بِالشَّماتَةِ الَّتِي هي شَماتَةٌ بِهِ أيْضًا، أتْبَعَهُ ضَرَرًا يَخُصُّهُ فَقالَ: ﴿ولا تَجْعَلْنِي﴾ أيْ: بِمُؤاخَذَتِكَ لِي ﴿مَعَ القَوْمِ الظّالِمِينَ﴾ أيْ: فَتَقْطَعَنَّ بِعَدِّكَ لِي مَعَهم وجَعْلِي في زُمْرَتِهِمْ عَمَّنْ أحَبَّهُ مِنَ الصّالِحِينَ، وتَصِلُنِي بِمَن أبْغَضَهُ مِنَ الفاسِدِينَ الَّذِينَ فَعَلُوا فِعْلَ مَن هو في الظَّلامِ، فَوَضَعُوا العِبادَةَ في غَيْرِ مَوْضِعِها مِن غَيْرِ شُبْهَةٍ ولا لَبْسٍ أصْلًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب