الباحث القرآني

ولَمّا انْقَضى ما أنِسَهُ سُبْحانَهُ بِهِ لَفَتَ الكَلامَ - في الإخْبارِ لَنا عَنْ عَظِيمِ ما آتاهُ - لِي مَظْهَرَ العَظَمَةِ، فَقالَ مُفَصِّلًا لِتِلْكَ الرِّسالَةِ ومُبَيِّنًا بَعْضَ ما كانَ مِنَ الكَلامِ ﴿وكَتَبْنا﴾ أيْ: بِعَظَمَتِنا ﴿لَهُ في الألْواحِ﴾ عَرَّفَها لِعَظَمَتِها تَنْبِيهًا عَلى أنَّها لِجَلالَةِ ما اخْتُصَّتْ بِهِ كَأنَّها المُخْتَصَّةُ بِهَذا الِاسْمِ، وأعْظَمُ مِن هَذا جَعَلَ قَلْبَ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ لَوْحًا قابِلًا لِما يُلْقى إلَيْهِ جامِعًا لِعُلُومِ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ ﴿مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ أيْ: يَحْتاجُهُ بَنُو إسْرائِيلَ، وذَلِكَ هو العَشْرُ الآياتِ الَّتِي نِسْبَتُها إلى التَّوْراةِ نِسْبَةُ الفاتِحَةِ إلى القُرْآنِ، فَفِيها (p-٨١)أُصُولُ الدِّينِ وأُصُولُ الأحْكامِ والتَّذْكِيرِ بِالنِّعَمِ، والأمْرُ بِالزُّهْدِ والوَرَعِ ولُزُومِ مَحاسِنِ الأعْمالِ والبُعْدِ عَنْ مُساوِيها، ولِذا قالَ مُبْدِلًا: ﴿مَوْعِظَةً وتَفْصِيلا﴾ أيْ: عَلى وجازَتِها بِما كانَتْ سَبَبًا ﴿لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ أيْ: لِأنَّها - مَعَ كَوْنِها أُمَّهاتٍ وجَوامِعَ - مُفَصَّلَةٌ تَرْجِعُ إلَيْها بُحُورُ العِلْمِ وتَنْشَقُّ مِنها يَنابِيعُها. ولَمّا كانَ هَذا هَكَذا، تَسَبَّبَ عَنْهُ حَتْمًا قَوْلُهُ تَعالى التِفاتًا إلى خِطابِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ بِخِطابِ التَّأْنِيسِ إشارَةً إلى أنَّ التِزامَ التَّكالِيفِ صَعْبٌ: ﴿فَخُذْها﴾ أيِ: الألْواحَ ﴿بِقُوَّةٍ﴾ أيْ: بِجِدٍّ وعَزِيمَةٍ في العِلْمِ والعَمَلِ ﴿وأْمُرْ قَوْمَكَ﴾ أيِ: الأقْوِياءَ عَلى مُحاوَلَةِ ما يُرادُ ﴿يَأْخُذُوا بِأحْسَنِها﴾ كَأنَّهُ سُبْحانَهُ أطْلَقَ لِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ الأخْذَ بِكُلِّ ما فِيها لِما عِنْدَهُ مِنَ المَلَكَةِ الحاجِزَةِ لَهُ عَنْ شَيْءٍ مِنَ المُجاوَزَةِ، ولِذَلِكَ قالَ لَهُ: ﴿بِقُوَّةٍ﴾ وقَيَّدَهم بِالأحْسَنِ لِيَكُونَ الحَسَنُ جِدًّا مانِعًا لَهم مِنَ الوُصُولِ إلى القَبِيحِ، وذَلِكَ كالِاقْتِصاصِ والعَفْوِ والِانْتِصارِ والصَّبْرِ. ولَمّا كانَ كَأنَّهُ قِيلَ: وهَلْ يَتْرُكُ الأحْسَنَ أحَدٌ؟ فَقِيلَ: نَعَمْ، الفاسِقُ يَتْرُكُهُ، بَلْ ويَتَجاوَزُ الحَسَنَ إلى القَبِيحِ، بَلْ وإلى أقْبَحِ القَبِيحِ، ومَن تَرَكَهُ أهْلَكْتُهُ وإنْ جَلَّ آلُهُ وعَظُمَتْ جُنُودُهُ وأمْوالُهُ، قالَ كالتَّعْلِيلِ لِذَلِكَ: ﴿سَأُرِيكم دارَ الفاسِقِينَ﴾ أيِ: الَّذِينَ يَخْرُجُونَ عَنْ أوامِرِي إلى ما أنْهاهم عَنْهُ فَأنْصُرُكم عَلَيْهِمْ وأُمَكِّنُكم بِفِسْقِهِمْ مِن رِقابِهِمْ وأمْوالِهِمْ مِن (p-٨٢)الكَنْعانِيِّينَ والحاثانِيِّينَ وغَيْرِهِمْ مِن سُكّانِ الأراضِي المُقَدَّسَةِ لِتَعْلَمُوا أنَّ مَن أغْصَبَنِي وتَرَكَ أمْرِي أمْكَنْتُ مِنهُ، وإنَّما ذَكَرَ الدّارَ لِئَلّا تَغُرَّهم مَنَعَتُها إذا اسْتَقَرُّوا بِها فَيَظُنُّوا أنْ لا غالِبَ [لَهُمْ] فِيها بِوُعُورَةِ أرْضِها وشُهُوقِ جِبالِها وإحْكامِ أسْوارِها، وإذا تَأمَّلْتَ ما سَيَأْتِي في شَرْحِ هَذِهِ الآياتِ مِنَ التَّوْراةِ لاحَ لَكَ هَذا المَعْنى، وكَذا ما ذُكِرَ مِنَ التَّوْراةِ عِنْدَ قَوْلِهِ في المائِدَةِ: ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكم بِشَرٍّ مِن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ﴾ [المائدة: ٦٠] وفي هَذِهِ الجُمْلَةِ المُخْتَصَرَةِ بِشارَةٌ بِإتْمامِ الوَعْدِ بِنُصْرَتِهِمْ عَلَيْهِمْ بِطاعَتِهِمْ ونِذارَةٌ عَلى تَقْدِيرِ مَعْصِيَتِهِمْ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: إنْ أخَذُوا بِالأحْسَنِ أرَيْتُهم دارَ الفاسِقِينَ، وأتْمَمْتُ عَلَيْهِمُ النِّعْمَةَ ما دامُوا عَلى الشُّكْرِ، وإنْ لَمْ يَأْخُذُوا أهْلَكْتُهم كَما أُهْلِكُ الفاسِقِينَ مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ، فَحَذَّرَهم لِئَلّا يَفْعَلُوا أفْعالَهم إذا اسْتَقَرَّتْ بِهِمُ الدّارُ، وزالَتْ عَنْهُمُ الأكْدارُ، ويُؤَيِّدُ كَوْنَ المُرادِ القُدْسَ لا مِصْرَ قِراءَةُ مَن قَرَأ: سَأُورِثُكم - مِنَ الإرْثِ، لِأنَّها هي المَقْصُودَةُ بِإخْراجِهِمْ مِن مِصْرَ وبَعْثِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، ولا يَنْفِي ذَلِكَ احْتِمالَ مِصْرَ أيْضًا. واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب