الباحث القرآني

ولَمّا انْقَضى ما أراهم سُبْحانَهُ مِنَ الأفْعالِ الهائِلَةِ الَّتِي اسْتَخْلَصَهم بِها مِن ذَلِكَ الجَبّارِ، شَرَعَ يَذْكُرُ ما قابَلُوهُ [بِهِ] مِنَ الجَهْلِ بِهِ سُبْحانَهُ وما قابَلَهم بِهِ مِنَ الحِلْمِ، ثُمَّ ما أحَلَّ بِهِمْ بَعْدَ طُولِ المُهْلَةِ مِن ضَرْبِ الذِّلَّةِ والمَسْخِ بِصُورَةِ القِرَدَةِ، فَقالَ عاطِفًا عَلى قَوْلِهِ: ﴿فَأغْرَقْناهم في اليَمِّ﴾ [الأعراف: ١٣٦] أوْ قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ بَعَثْنا مِن بَعْدِهِمْ مُوسى﴾ [الأعراف: ١٠٣] ﴿وجاوَزْنا﴾ أيْ: قَطَعْنا بِما لَنا مِنَ [العَظَمَةِ] وساقَهُ عَلى طَرِيقِ المُفاعَلَةِ تَعْظِيمًا لَهُ، رُوِيَ أنَّ جَوازَهم كانَ يَوْمَ عاشُوراءَ، وأنَّمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ صامَهُ شُكْرًا لِلَّهِ تَعالى عَلى إنْجائِهِمْ وإهْلاكِ عَدُوِّهِمْ ﴿بِبَنِي إسْرائِيلَ﴾ بَعْدَ الآياتِ الَّتِي شاهَدُوها ﴿البَحْرَ﴾ وإنَّما جَعَلْتُهُ مَعْطُوفًا عَلى أوَّلِ القِصَّةِ لِأنَّ هَذِهِ القِصَصَ كُلَّها بَيانٌ لِأنَّ في النّاسِ السَّيِّئَ الجَوْهَرِ الَّذِي يُغْنِيهِ الآياتُ كَما مَضى عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿والبَلَدُ الطَّيِّبُ﴾ [الأعراف: ٥٨] وبَيانُ قَوْلِهِ: ﴿أخَذْنا أهْلَها بِالبَأْساءِ والضَّرّاءِ﴾ [الأعراف: ٩٤] إلى آخِرِها، ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ - مَعَ ما ابْتُدِئَتْ بِهِ القَصَصُ - خَتَمَها بِقَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا﴾ [الأعراف: ١٧٦] وقَوْلِهِ: ﴿ولَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ﴾ [الأعراف: ١٧٩] وحَسُنَ مَوْقِعُها بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿وتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الحُسْنى﴾ [الأعراف: ١٣٧] (p-٦٩)لِأنَّهُ لَمّا قِيلَ ﴿بِما صَبَرُوا﴾ [الأعراف: ١٣٧] تَشَوَّفَتِ النَّفْسُ إلى فِعْلِهِمْ حالَ الرَّخاءِ: هَلْ شَكَرُوا؟ فَبَيَّنَ أنَّ كَثِيرًا مِنهم كَفَرُوا تَصْدِيقًا لِقَوْلِهِ ﴿وما وجَدْنا لأكْثَرِهِمْ مِن عَهْدٍ﴾ [الأعراف: ١٠٢] وما شاكَلَهُ، وما أحْسَنَ تَعْقِيبَ ذَلِكَ - بِقَوْلِهِ: ﴿فَأتَوْا﴾ أيْ: مَرُّوا - بِفاءِ التَّعْقِيبِ ﴿عَلى قَوْمٍ﴾ أيْ: ذَوِي قُوَّةٍ، قِيلَ: كانُوا مِن لَخْمٍ ﴿يَعْكُفُونَ﴾ أيْ: يَدُورُونَ ويَتَحَلَّقُونَ مُلازِمِينَ مُواظِبِينَ ﴿عَلى أصْنامٍ لَهُمْ﴾ أيْ: لا قُوَّةَ فِيها ولا نَفْعَ، فَهم في عُكُوفِهِمْ عَلَيْها مَثَلٌ في الغَباوَةِ، وقِيلَ: إنَّها كانَتْ تَماثِيلَ بَقَرٍ، وكانَ ذَلِكَ أوَّلَ أمْرِ العَجَلِ. ولَمّا أخْبَرَ سُبْحانَهُ بِذَلِكَ، عَلِمَ السّامِعُ أنَّهم بَيْنَ أمْرَيْنِ: إمّا شُكْرٌ وإمّا كُفْرٌ، فَتَشَوَّفَ إلى ما كانَ مِنهُمْ، فَأجابَ سُبْحانَهُ سُؤالَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿قالُوا﴾ أيْ: لَمْ يَلْبَثْ ذِكْرُهم لَمّا أراهم سُبْحانَهُ مِن عَظَمَتِهِ وشُكْرِهِمْ لَمّا أفاضَ عَلَيْهِمْ مِن نِعْمَتِهِ إلّا رَيْثَما أمِنُوا مِن عَدُوِّهِمْ بِمُجاوَزَتِهِمُ البَحْرَ وإغْراقِهِمْ فِيهِ حَتّى طَلَبُوا إلَهًا غَيْرَهُ بِقَوْلِهِمْ: ﴿يا مُوسى﴾ سَمَّوْهُ كَما تَرى بِاسْمِهِ جَفاءً وغِلْظَةً اعْتِمادًا عَلى ما عَمَّهم مِن بِرِّهِ وحِلْمِهِ غَيْرَ مُتَأدِّبِينَ بِما بَهَرَهم مِن جَلالَةِ حَظِّهِ مِنَ اللَّهِ وقَسَمِهِ ﴿اجْعَلْ لَنا إلَهًا﴾ أيْ: شَيْئًا نَراهُ ونَطُوفُ بِهِ تَقَيُّدًا بِالوَهْمِ ﴿كَما لَهم آلِهَةٌ﴾ وهَذا مِنهم قَوْلُ مَن لا يَعُدُّ الإلَهَ - الَّذِي فَعَلَ مَعَهم هَذِهِ الأفاعِيلَ - شَيْئًا، ولا يَسْتَحْضِرُهُ بِوَجْهٍ. (p-٧٠)ولَمّا كانَ هَذا مِنهم عَظِيمًا، اسْتَأْنَفَ جَوابَ مَن تَشَوَّفَ إلى قَوْلِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ لَهم ما هم بِقَوْلِهِ: ﴿قالَ إنَّكم قَوْمٌ﴾ أيْ: ذَوُو قِيامٍ في شَهَواتِ النُّفُوسِ، وقالَ: ﴿تَجْهَلُونَ﴾ مُضارِعًا إشْعارًا بِأنَّ ذَلِكَ مِنهم كالطَّبْعِ والغَرِيزَةِ، لا يَنْتَقِلُونَ عَنْهُ في ماضٍ ولا مُسْتَقْبَلٍ، واعْلَمْ أنَّهُ لا تَكْرِيرَ في هَذِهِ القِصَصِ؛ فَإنَّ كُلَّ سِياقٍ مِنها لِأمْرٍ لَمْ يَسْبِقْ [مِثْلُهُ] فالمَقْصُودُ مِن قِصَّةِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ وفِرْعَوْنَ - عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ والمَلامُ - هَذا الِاسْتِدْلالُ الوُجُودِيُّ عَلى قَوْلِهِ: ﴿وإنْ وجَدْنا أكْثَرَهم لَفاسِقِينَ﴾ [الأعراف: ١٠٢] ومِن هُنا تَعْلَمُ أنَّ سِياقَ قِصَّةِ بَنِي إسْرائِيلَ بَعْدَ الخَلاصِ مِن عَدُوِّهِمْ لِبَيانِ إسْراعِهِمْ في الكُفْرِ ونَقْضِهِمْ لِلْعُهُودِ، واسْتَمَرَّ سُبْحانَهُ في هَذا الِاسْتِدْلالِ إلى آخِرِ السُّورَةِ، وما أنْسَبَ: ﴿وإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ﴾ [الأعراف: ١٧٢] الآيَةَ. لِقَوْلِهِ ﴿وما وجَدْنا لأكْثَرِهِمْ مِن عَهْدٍ﴾ [الأعراف: ١٠٢] وذَكَرَ في أوَّلِ الَّتِي تَلِيها تَنازُعَهم في الأنْفالِ تَحْذِيرًا لَهم مِن أنْ يَكُونُوا مِنَ الأكْثَرِ المَذْمُومِينَ في هَذِهِ، هَذا بِخِلافِ المَقْصُودِ مِن سِياقِ قَصَصِ بَنِي إسْرائِيلَ في البَقَرَةِ؛ فَإنَّهُ هُناكَ لِلِاسْتِجْلابِ لِلْإيمانِ بِالتَّذْكِيرِ بِالنِّعَمِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ في سِياقِ خَطابِهِ سُبْحانَهُ لِجَمِيعِ النّاسِ بِقَوْلِهِ: ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ [البقرة: ٢١] ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وكُنْتُمْ أمْواتًا فَأحْياكُمْ﴾ [البقرة: ٢٨] وما شاكَلَهُ مِنَ الِاسْتِعْطافِ بِتَعْدادِ النِّعَمِ ودَفْعِ النِّقَمِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب