ولَمّا بانَ بِما مَضى حالُ الكُفّارِ مُجْمَلًا ومُفَصَّلًا، وكانَ المَقْصُودُ مِن ذَلِكَ عِبْرَةَ السّامِعِينَ، وكانَ أخْذُهم بِالبَأْساءِ والضَّرّاءِ مَعَ إبْقاءِ مُهَجِهِمْ وحِفْظِ أرْواحِهِمْ وأفْهامِهِمْ بَعْدَ إهْلاكِ مَن قَبْلَهم في بَعْضِ ما لَحِقَهم مِن ذَلِكَ وإيراثِهِمُ الأرْضَ مِن بَعْدِهِمْ حالًا يَكُونُونَ بِها في حَيِّزِ مَن يُرْجى (p-١٤)مِنهُ الخَوْفُ المُقْتَضِي لِلتَّضَرُّعِ والعِلْمِ قَطْعًا بِأنَّ الفاعِلَ لِذَلِكَ هو اللَّهُ، وأنَّهُ لَوْ شاءَ لَأهْلَكَهم بِالذُّنُوبِ أوْ غَطّى أفْهامَهم بِحَيْثُ يَصِيرُونَ كالبَهائِمِ لا يَسْمَعُونَ إلّا دُعاءً ونِداءً، فَسَماعُهم حَيْثُ لا فَهْمَ كَلا سَماعٍ، فَجَعَلُوا ذَلِكَ سَبَبًا لِلْأمْنِ؛ أنْكَرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿أفَأمِنَ﴾ [الأعراف: ٩٧] إلى آخِرِهِ؛ ثُمَّ أنْكَرَ عَلَيْهِمْ عَدَمَ الِاسْتِدْلالِ عَلى القُدْرَةِ فَقالَ عاطِفًا [عَلى] ”أفَأمِنَ“،
﴿أوَلَمْ يَهْدِ﴾ أيْ: يُبَيِّنْ أخْذُنا الأُمَمَ الماضِيَةَ بِالبَأْساءِ والضَّرّاءِ ثُمَّ إهْلاكُهم إذا لَمْ يَتَّعِظُوا،
﴿لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرْضَ﴾ وأظْهَرَ مَوْضِعَ الإضْمارِ تَعْمِيمًا وتَعْلِيقًا لِلْحُكْمِ بِالوَصْفِ وإشارَةً إلى بَلادَتِهِمْ لِعَدَمِ البَحْثِ عَنِ الأخْبارِ لِيَعْلَمُوا مِنها ما يَضُرُّ وما يَنْفَعُ فَلا يَكُونُوا كالبَهائِمِ، فَإنَّهم لَوْ تَأمَّلُوا أحْوالَهم وأحْوالَ مَن ورِثُوا أرْضَهم وأحْوالَ الأرْضِ لَكَفاهم ذَلِكَ في الهِدايَةِ إلى سَواءِ السَّبِيلِ.
ولَمّا كانَ إرْثُهم غَيْرَ مُسْتَغْرِقٍ لِلزَّمانِ، أتى بِالجارِّ فَقالَ: ﴿مِن بَعْدِ أهْلِها﴾ ثُمَّ ذَكَرَ مَفْعُولَ ”يَهْدِ“ بِقَوْلِهِ: ”أنْ“، أيْ: أنّا،
﴿لَوْ نَشاءُ﴾ أيْ: في أيِّ وقْتٍ أرَدْنا،
﴿أصَبْناهم بِذُنُوبِهِمْ﴾ أيْ: إصابَةً نَمْحَقُهم بِها كَما فَعَلْنا بِمَن ورِثُوا أرْضَهُمْ؛ ولَمّا كانَ هَذا تَخْوِيفًا لِلْمَوْجُودِينَ بَعْدَ المُهْلَكِينَ، ومِنهم قُرَيْشٌ وسائِرُ العَرَبِ الَّذِينَ يُخاطَبُونَ بِهَذا القُرْآنِ، فَكَأنَّ المَخُوفَ بِهِ لَمْ يَقَعْ بَعْدُ، عَطَفَ عَلى ”أصَبْنا“ قَوْلَهُ: ﴿ونَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ﴾ أيْ: بِإزالَةِ عُقُولِهِمْ حَتّى يَكُونُوا كالبَهائِمِ، ولِذَلِكَ سَبَّبَ عَنْهُ قَوْلَهُ: (p-١٥)﴿فَهم لا يَسْمَعُونَ﴾ أيْ: سَماعَ فَهْمٍ، وعَبَّرَ عَنِ الإصابَةِ بِالماضِي إشارَةً إلى سُرْعَةِ الإهْلاكِ مَعَ كَوْنِهِ شَيْئًا واحِدًا غَيْرَ مُتَجَزِّئٍ، وعَنِ الطَّبْعِ بِالمُضارِعِ إيماءً إلى التَّجَدُّدِ بِحَيْثُ لا يَمُرُّ زَمَنٌ إلّا كانُوا فِيهِ في طَبْعٍ جَدِيدٍ.
{"ayah":"أَوَلَمۡ یَهۡدِ لِلَّذِینَ یَرِثُونَ ٱلۡأَرۡضَ مِنۢ بَعۡدِ أَهۡلِهَاۤ أَن لَّوۡ نَشَاۤءُ أَصَبۡنَـٰهُم بِذُنُوبِهِمۡۚ وَنَطۡبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ فَهُمۡ لَا یَسۡمَعُونَ"}