الباحث القرآني
﴿الَّذِي خَلَقَ﴾ أيْ قَدَّرَ وأوْجَدَ.
ولَمّا كانَ الخَوْفُ مِن إيقاعِ المُؤْلِمِ أدْعى إلى الخُضُوعِ لِأنَّهُ أدَلُّ عَلى المُلْكِ مَعَ أنَّ الأصْلَ في الأشْياءِ العَدَمُ، قَدَّمَ قَوْلَهُ: ﴿المَوْتَ﴾ أيْ هَذا الجِنْسَ وهو زَوالُ الحَياةِ عَنِ الحَيِّ الَّذِي هو في غايَةِ الِاقْتِدارِ عَلى التَّقَلُّبِ بِجَعْلِهِ جَمادًا كَأنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ حَرَكَةً أصْلًا. أوَّلُ ما يَفْعَلُ في تِلْكَ الدّارِ بَعْدَ اسْتِقْرارِ كُلِّ فَرِيقٍ في دارِهِ وأنْ يَعْدَمَ هَذا الجِنْسَ فَيُذْبَحُ بَعْدَ أنْ يُصَوَّرَ في صُورَةِ كَبْشٍ ﴿والحَياةَ﴾ أيْ هَذا (p-٢٢٠)الجِنْسُ وهو المَعْنى الَّذِي يُقَدَّرُ الجَمادُ بِهِ عَلى التَّقَلُّبِ بِنَفْسِهِ وبِالإرادَةِ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: المَوْتُ خَلَقَهُ اللَّهُ عَلى صُورَةِ كَبْشٍ أمْلَحَ لا يَمُرُّ بِشَيْءٍ ولا يَجِدُ رِيحَهُ إلّا ماتَ، والحَياةُ عَلى صُورَةِ فَرَسٍ بِلِقاءٍ وهي الَّتِي كانَ جِبْرِيلُ والأنْبِياءُ يَرْكَبُونَها فَلا يَجِدُ رِيحَها شَيْءٌ إلّا حَيِيَ، وهي الَّتِي أخَذَ السّامِرِيُّ قَبْضَةً مِن أثَرِها وألْقاهُ عَلى الحُلِيِّ الَّذِي ألْقاهُ بَنُو إسْرائِيلَ ونَوى أنْ يَكُونَ عِجْلًا [ فَصارَ عِجْلًا-] .
ولَمّا ذَكَرَ الدّالَّ عَلى القُدْرَةِ أتْبَعُهُ غايَتَهُ، وهو الحُكْمُ الَّذِي هو خاصَّةُ المُلُوكِ فَقالَ تَعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ﴾ أيْ يُعامِلُكم وهو أعْلَمُ بِكم مِن أنْفُسِكم مُعامَلَةَ المُخْتَبِرِ لِإظْهارِ ما عِنْدَكم مِنَ العَمَلِ بِالِاخْتِيارِ ﴿أيُّكم أحْسَنُ عَمَلا﴾ أيْ مِن جِهَةِ العَمَلِ أيْ عَمَلُهُ أحْسَنُ مِن عَمَلِ غَيْرِهِ، وعِبارَةُ القُرْآنِ في إسْنادِ الحَسَنِ إلى الإنْسانِ تَدُلُّ عَلى أنَّ مَن كانَ عَمَلُهُ أحْسَنَ كانَ هو أحْسَنُ ولَوْ أنَّهُ أبْشَعُ النّاسِ مَنظَرًا، ومَن كانَ عَمَلُهُ أسْوَأ كانَ بِخِلافِ ذَلِكَ، والحُسْنُ إنَّما يُدْرَكُ بِالشَّرْعِ، فَما حَسَّنَهُ الشَّرْعُ فَهو الحَسَنُ وما قَبَّحَهُ فَهو القَبِيحُ، وكانَ ذَلِكَ مُفِيدًا لِلْقِيامِ بِالطّاعَةِ لِأنَّ مَن تَفَكَّرَ في حالِهِ عَلِمَ أنَّهُ مُبايِنٌ لِبَقِيَّةِ الحَيَواناتِ بِعُقْلَةٍ ولِلنَّباتاتِ بِحَياتِهِ، ولِلْجَماداتِ بِنُمُوِّهِ، وأنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ مِن ذاتِهِ بِدَلِيلِ مَوْتِهِ، فَما كانَ لَهُ ذَلِكَ إلّا بِفاعِلٍ مُخْتارٍ، لَهُ الحَياةُ مِن ذاتِهِ، فَيَجْتَهِدُ في رِضاهُ بِاتِّباعِ رُسُلِهِ إنْ كانَ عاقِلًا، (p-٢٢١)فَيَشْكُرُهُ إذا أنْعَمَ، ويَصْبِرُ إنِ امْتَحَنَ وانْتَقَمَ، ويَخْدُمُهُ بِما أمَرَ ويَنْزَجِرُ عَمّا عَنْهُ زَجَرَهُ، فَهَذِهِ الآيَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلى وُجُودِ المُقْتَضِي لِلسَّعادَةِ وانْتِفاءِ المانِعِ مِنها ووُجُودِ المُقْتَضِي إعْدادٌ وإرْشادٌ، فالإعْدادُ إعانَتُهُ سُبْحانَهُ لِلْعَبْدِ بِإعْدادِهِ لِقَبُولِ السَّعادَةِ كالحَدّادِ يَلِينُ الحَدِيدُ بِالنّارِ لِيَقْبَلَ أنْ يَكُونَ سِكِّينًا، والإرْشادُ أخْذُهُ بِالنّاصِيَةِ إلى ما أعَدَّ لَهُ كالضَّرْبِ بِالسِّكِّينِ وإصْلاحِها لِلْقَطْعِ بِها، وانْتِفاءُ المانِعِ هو المَوْقِفُ عَنْ ذَلِكَ وهو دَفْعُ المُشَوِّشاتِ والمُفْسِداتِ كَتَثَلُّمِ السِّكِّينِ وهو يَجْرِي السَّبَبُ وسَبَبُ السَّبَبِ، وهو ما اشْتَمَلَ [ عَلَيْهِ -] قَوْلُهُ ﷺ
«اللَّهُمَّ أعْنِي ولا تُعِنْ عَلَيَّ» الحَدِيثُ، فَذَكَرَهُ لِتَمامِ القُدْرَةِ والعِزَّةِ مَعَ ذِكْرِ الأحْسَنِ دالٌّ عَلى تَوْفِيقِهِ بِما ذَكَرَ، ومَن تَأمَّلَ الآيَةَ عَرَفَ أنَّهُ ما خَلَقَ لا لِيَتَمَيَّزَ جَوْهَرُهُ مِن صِدْقِ غَيْرِهِ أوْ صِدْقِهِ مِن جَوْهَرِ غَيْرِهِ، و[ أنَّ -] الدُّنْيا مَزْرُوعَةٌ، وأنَّ الآخِرَةَ مُحْصِدَةٌ، فَيَصِيرُ مِن نَفْسِهِ عَلى بَصِيرَةٍ، وثارَتْ إرادَتُهُ لِما خَلَقَ لَهُ تارَةً بِالنَّظَرِ إلى جَمالِ رَبِّهِ مِن حُسْنٍ وإحْسانٍ، وأُخْرى إلى جَلالِهِ مِن قُدْرَةٍ وإمْكانٍ، وتارَةً بِالنَّظَرِ لِنَفْسِهِ بِالشَّفَقَةِ عَلَيْها مِن خِزْيِ الحِرْمانِ، فَيَجْتَهِدُ في رِضا رَبِّهِ وصَلاحِ نَفْسِهِ خَوْفًا مِن عاقِبَةِ هَذِهِ البَلْوى.
(p-٢٢٢)ولَمّا كانَ لا يَغْفُلُ الِابْتِلاءُ مِنّا إلّا جاهِلٌ بِالعَواقِبِ وعاجِزٌ عَنْ رَدِّ المُسِيءِ عَنْ إساءَتِهِ وجَعْلِهِ مُحْسِنًا مِن أوَّلِ نَشْأتِهِ، قالَ نافِيًا لِذَلِكَ عَنْ مَنِيعِ جَنابِهِ بَعْدَ أنْ نَفاهُ بِلَطِيفِ تَدْبِيرِهِ وعَظِيمِ أمْرِهِ في [ خَلْقِ -] المَوْتِ والحَياةِ، ومُزِيلًا بِوَصْفِ العِزَّةِ لِما قَدْ يَقُولُهُ مَن يَكُونُ قَوِيَّ الهِمَّةِ: أنا لا أحْتاجُ إلى تَعَبٍ كَبِيرٍ في الوُصُولِ إلَيْهِ سُبْحانَهُ بَلْ أصِلُ إلَيْهِ أيْ وقْتَ [ شِئْتَ -] بِأيْسَرِ سَعْيٍ ﴿وهُوَ﴾ أيْ والحالُ أنَّهُ وحْدَهُ ﴿العَزِيزُ﴾ [ أيِ -] الَّذِي يَصْعُبُ الوُصُولُ إلَيْهِ جِدًّا، مِنَ العِزازِ وهو المَكانُ الوَعِرُ [و -] الَّذِي يَغْلِبُ كُلَّ شَيْءٍ ولا يَغْلِبُهُ شَيْءٌ، فَلَوْ أرادَ جَعْلَ الكُلَّ مُحْسِنِينَ، ولا يَكُونُ كَذَلِكَ إلّا وهو تامُّ القُدْرَةِ فَيَلْزَمُ تَمامَ العِلْمِ والوَحْدانِيَّةِ ووُجُوبَ الوُجُودِ أزَلًا وأبَدًا.
ولَمّا كانَ العَزِيزُ مِنّا يُهْلِكُ كُلَّ مَن خالَفَهُ إذا عَلِمَ مُخالَفَتَهُ، قالَ مُبَيِّنًا إمْهالَهُ لِلْعُصاةِ مُرَغِّبًا لِلْمُسِيءِ في التَّوْبَةِ، بَعْدَ تَرْهِيبِهِ مِنَ الإصْرارِ عَلى الحَوْبَةِ، لِأنَّهُ قَدْ يَكُونُ مَزْدَرِئًا لِنَفْسِهِ قائِلًا: إنَّ مِثْلِي لا يَصْلُحُ لِلْخِدْمَةِ لِما لِي مِنَ الذُّنُوبِ القاطِعَةِ وأيْنَ التُّرابُ مِن [ رَبِّ -] الأرْبابِ ﴿الغَفُورُ﴾ أيْ [ أنَّهُ -] مَعَ ذَلِكَ يَفْعَلُ في مَحْوِ الذُّنُوبِ عَيَنًا وأثَرًا فِعْلُ المُبالِغِ في ذَلِكَ ويَتَلَقّى مَن أقْبَلَ إلَيْهِ أحْسَنَ تَلَقٍّ كَما (p-٢٢٣)قالَ تَعالى في الحَدِيثِ القُدْسِيِّ «ومَن أتانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» .
{"ayah":"ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَیَوٰةَ لِیَبۡلُوَكُمۡ أَیُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلࣰاۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡغَفُورُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق