الباحث القرآني

ولَمّا كانَ ذَلِكَ أمْرًا غامِضًا، دَلَّ عَلَيْهِ بِأمْرٍ مُشاهَدٍ أبْدَعَهُ بِلُطْفِهِ وأتْقَنَهُ بِخِبْرَتِهِ لِاسْتِدْعاءِ الشُّكْرِ مِن عِبادِهِ عَلى ما أبْدَعَ لَهم ومَنَّ عَلَيْهِمْ بِهِ مِنَ النِّعَمِ الباهِرَةِ الَّتِي بِها قِوامُهُمْ، ولَوْلاهُ لَما كانَ لَهم بَقاءٌ فَقالَ مُسْتَأْنِفًا: ﴿هُوَ﴾ أيْ وحْدَهُ ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ﴾ لِتَتَوَصَّلُوا إلى ما يَنْفَعُكم ﴿الأرْضَ﴾ عَلى سِعَتِها وعِظَمِها وجَزْوَنَةِ كَثِيرٍ مِنها ﴿ذَلُولا﴾ أيْ مُسَخَّرَةً لا تَمْتَنِعُ، قابِلَةً لِلِانْقِيادِ لِما تُرِيدُونَ مِنها مِن مَشْيٍ وإنْباطِ مِياهٍ وزَرْعِ حُبُوبٍ وغَرْسِ أشْجارٍ وغَيْرِ ذَلِكَ غايَةَ الِانْقِيادِ، بِما تَفْهَمُهُ صِيغَةُ المُبالَغَةِ مَعَ أنَّ فِيها أماكِنُ خَوّارَةً تَسُوخُ فِيها الأرْجُلُ ويَغُوصُ فِيها ما خالَطَها، ومَواضِعُ مُشْتَبِكَةٌ بِالأشْجارِ يَتَعَذَّرُ أوْ يَتَعَسَّرُ سُلُوكُها، وأماكِنُ (p-٢٤٥)مَلْأى سِباعًا وحَيّاتٍ وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ المَوانِعِ، وأماكِنَ هي جِبالٌ شاهِقَةٌ إمّا يَتَعَذَّرُ سُلُوكُها كَجَبَلِ السَّدِّ بَيْنَنا وبَيْنِ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ، ورَدَ في الحَدِيثِ أنَّهُ تَزْلَقُ عَلَيْهِ الأرْجُلُ ولا تَثْبُتُ، أوْ يُشَقُّ سُلُوكُها، ومَواطِنُ هي بُحُورٌ عَذْبَةٌ أوْ مُلِحَّةٌ فَلَوْ شاءَ لَجَعَلَها كُلَّها كَذَلِكَ لِيَكُونَ بِحَيْثُ لا يُمْكِنُ الِانْتِفاعُ بِها، فَما قَسَّمَها إلى سُهُولٍ وجِبالٍ وبُرُورٍ وبُحُورٍ وأنْهارٍ وعُيُونٍ ومِلْحٍ وعَذْبٍ وزَرْعٍ وشَجَرٍ وتُرابٍ وحَجَرٍ ورِمالٍ ومَدَرٍ وغَيْرِ ذَلِكَ إلّا لِحِكْمَةٍ بالِغَةٍ وقُدْرَةٍ باهِرَةٍ، لِتَكُونَ قابِلَةً لِجَمِيعِ ما تُرِيدُونَ مِنها، صالِحَةً لِسائِرِ ما يَنْفَعُكم فِيها. ولَمّا كانَ مَعْنى التَّذْلِيلِ ما تَقَدَّمَ، سَبَّبَ عَنْهُ قَوْلُهُ تَمْثِيلًا لِغَرَضِ التَّذْلِيلِ لِأنَّ مِنكَبَيِ البَعِيرِ ومُلْتَقاهُما مِنَ الغارِبِينَ أرَقَّ شَيْءٍ وأنْباهُ عَنْ أنْ يَطَأهُ الرّاكِبُ بِقَدَمِهِ ويَعْتَمِدَ عَلَيْهِ: ﴿فامْشُوا﴾ [ أيِ -] الهُوَيْنا مُكْتَسِبِينَ وغَيْرِ مُكْتَسِبِينَ إنْ شِئْتُمْ مِن غَيْرِ صُعُوبَةٍ تُوجِبُ لَكم وثْبًا أوْ حَبْوًا ﴿فِي مَناكِبِها﴾ أيْ أماكِنِها الَّتِي هي لَوْلا تَسْهِيلُنا لِمَناكِبِ الحَيَواناتِ لَكانُوا يَنْتَكِبُونَ عَنِ الوُقُوفِ عَلَيْها، فَكَيْفَ بِالمَشْيِ، [و -] قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: إنَّها الجِبالُ - لِأنَّ تَذْلِيلَها أدَلُّ دَلِيلٍ (p-٢٤٦)عَلى تَذْلِيلِ غَيْرِها، ولِيَكُنْ مِشْيَتُكم فِيها وتَصَرُّفُكم بَذْلٌ وإخْباتٌ وسُكُونٌ اسْتِصْغارًا لِأنْفُسِكم وشُكْرًا لِمَن سَخَّرَ لَكم ذَلِكَ - واللَّهُ الهادِي. ولَمّا ذَكَرَ سُبْحانَهُ أنَّهُ يَسَرَّها لِلْمَشْيِ، ذَكَّرَهم بِأنَّهُ سَهَّلَها لِإخْراجِ الخَيْراتِ والبَرَكاتِ فَقالَ: ﴿وكُلُوا﴾ ودَلَّ عَلى أنَّ الرِّزْقَ فَوْقَ الكِفايَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿مِن رِزْقِهِ﴾ أيِ الَّذِي أوْدَعَهُ لَكم فِيها وأمْكَنَكم مِن إخْراجِهِ بِضِدِّ ما تَعْرِفُونَ مِن أحْوالِكم فَإنَّ الدَّفْنَ في الأرْضِ مِمّا يُفْسِدُ المَدْفُونَ ويُحِيلُهُ إلى جَوْهَرِها كَما يَكُونُ لِمَن قَبَرْتُمُوهُ فِيها، ومَعَ ذَلِكَ فَأنْتُمْ تَدْفِنُونَ الحُبَّ وغَيْرَهُ مِمّا يَنْفَعُكم فَيُخْرِجُهُ لَكم سُبْحانَهُ عَلى أحْسَنِ ما تُرِيدُونَ ويَخْرُجُ لَكم مِنَ الأقْواتِ والفَواكِهِ والأدْهانِ والمَلابِسِ ما تَعْلَمُونَ، وكَذَلِكَ النُّفُوسُ هي صَعْبَةٌ كالجِبالِ وإنْ قُدْتَها لِلْخَيْرِ انْقادَتْ لَكَ كَما قِيلَ ”هِيَ النَّفْسُ ما عَوَّدْتَها تَتَعَوَّدُ“ . ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ لِلْبَعْثِ عَلى الشُّكْرِ والتَّحْذِيرِ مِنَ الكُفْرِ: واعْبُدُوهُ جَزاءً عَلى إحْسانِهِ إلَيْكم وتَرْبِيَتِهِ لَكم. فَمِنهُ مَبْدَأُ جَمِيعِ ذَلِكَ، عَطَفَ عَلَيْهِ ما يَدْعُو إلى الحَياءِ مِنَ السَّيِّدِ والخَجَلِ مِن تَوْبِيخِهِ عِنْدَ لِقائِهِ فَقالَ: ﴿وإلَيْهِ﴾ أيْ وحْدَهُ ﴿النُّشُورُ﴾ وهو إخْراجُ جَمِيعِ الحَيَواناتِ الَّتِي أكَلَتْها الأرْضُ وأفْسَدَتْها، يُخْرِجُها في الوَقْتِ الَّذِي يُرِيدُهُ (p-٢٤٧)عَلى ما كانَ كُلٌّ مِنها [ عَلَيْهِ -] عِنْدَ المَوْتِ كَما أخْرَجَ تِلْكَ الأرْزاقَ، لا فَرْقَ بَيْنَ هَذا وذاكَ، غَيْرَ أنَّكم لا تَتَأمَّلُونَ [ فَيَسْألُكم -] عَمّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، فَيا فَوْزَ مَن شَكَرَ ويا هَلاكَ مَن كَفَرَ، فَإنَّ هَذا أبْعَثُ شَيْءٍ عَلى الشُّكْرِ، وأشَدُّ شَيْءٍ إبْعادًا عَنِ العِصْيانِ لا سِيَّما الكُفْرُ، لِما قَرَّرَ مِن حاجَةِ الإنْسانِ، [و -] الإحْسانِ [ إلَيْهِ -] بِأنْواعِ الإحْسانِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب