الباحث القرآني

ولَمّا أفْهَمَ الأمْرَ بِالوِقايَةِ والمَدْحِ لِلْمَلائِكَةِ أنَّ المَأْمُورِينَ بِالوِقايَةِ مُقَصِّرُونَ قالَ مُرْشِدًا إلى داءِ التَّقْصِيرِ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ناداهم بِما هو ألْيَقُ بِهِمْ مِن أداةِ البُعْدِ ﴿تُوبُوا﴾ أيِ ارْجِعُوا رُجُوعًا تامًّا ﴿إلى اللَّهِ﴾ أيِ المَلِكِ الَّذِي لا كُفُوءَ لَهُ. ولَمّا كانَ كُلُّ فَعُولٍ بِمَعْنى فاعِلٍ يَسْتَوِي فِيهِ المُذَكَّرُ والمُؤَنَّثُ قالَ: ﴿تَوْبَةً نَصُوحًا﴾ أيْ بالِغَةً في كَوْنِها ناصِحَةً عَنِ الإسْنادِ المَجازِيِّ أيْ مَنصُوحًا فِيها بِالإخْلاصِ في الأزْمانِ الثَّلاثَةِ، الماضِي بِالنَّدَمِ، والحالِ بِالإقْلاعِ. والمُسْتَقْبَلِ بِالعَزْمِ عَلى عَدَمِ العَوْدِ إلى الذَّنْبِ، فَلا يَقَعُ فِيها رُجُوعٌ كَما لا يَعُودُ الحَلِيبُ إلى الضَّرْعِ، فَلا يُؤْذِي أحَدٌ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَإنَّ أذى رَسُولِهِ مِن أذاهُ، قالَ القُرْطُبِيُّ: النَّصُوحُ مَجْمَعُها أرْبَعَةُ أشْياءَ: الِاسْتِغْفارُ بِاللِّسانِ، والإقْلاعُ بِالأبْدانِ، وإضْمارُ تَرْكِ العَوْدِ بِالجَنانِ، ومُهاجِرَةُ سَيِّئِ الإخْوانِ، وقالَ رُوَيْمُ الرّاعِي: هي أنْ تَكُونَ لِلَّهِ وجْهًا بِلا قَفًا كَما كانَتْ لَهُ عِنْدَ المَعْصِيَةِ قَفاءٌ بِلا وجْهٍ. ولَمّا أمَرَ بِالتَّوْبَةِ عَلَّلَها بِما يُفِيدُ الإطْماعَ مِنَ الإقامَةِ بَيْنَ الرَّجاءِ والخَوْفِ إعْلامًا بِأنَّ هَذا المَقامَ هو المُنَجِّي لِأنَّهُ اعْتِقادُ الكَمالِ لَهُ سُبْحانَهُ وهو [ أنَّ -] لَهُ أنْ يَفْعَلَ ما يَشاءُ في المُطِيعِ وغَيْرِهِ بِقَوْلِهِ: (p-٢٠١)﴿عَسى رَبُّكُمْ﴾ [ أيْ -] افْعَلُوا ذَلِكَ لِيَكُونَ المُحْسِنُ إلَيْكم بِهَذا البَيانِ جَدِيرًا أوْ حَقِيقًا ﴿أنْ يُكَفِّرَ﴾ أيْ يُغَطِّيَ تَغْطِيَةً عَظِيمَةً ﴿عَنْكُمْ﴾ أيْ بِالتَّوْبَةِ، وإذا كانَ التّائِبُ عَلى خَطَرٍ فَما ظَنُّكَ بِالمُصِرِّ عَلى ذُنُوبِهِ ﴿سَيِّئاتِكُمْ﴾ أيْ [ ما -] بَدا مِنكم ما يَسُوءُهُ. ولَمّا ذَكَرَ نَفْعَ التَّوْبَةِ في دَفْعِ المَضارِّ، ذَكَرَ نَفْعَها في جَلْبِ المَسارِّ فَقالَ: ﴿ويُدْخِلَكُمْ﴾ أيْ يَوْمَ الفَصْلِ ﴿جَنّاتٍ﴾ أيْ بَساتِينَ كَثِيرَةَ الأشْجارِ تَسْتُرُ داخِلَها لِأنَّها ﴿تَجْرِي﴾ ولَمّا كانَ ذَلِكَ الجَرْيُ في بَعْضِ أرْضِها قالَ مُعَبِّرًا بِأداةِ التَّبْعِيضِ: ﴿مِن تَحْتِها﴾ أيْ تَحْتِ غُرَفِها وأشْجارِها ﴿الأنْهارُ﴾ فَهي لا تَزالُ رَيًّا. ولَمّا ذَكَرَ الغُفْرانَ والإكْرامَ. ذَكَرَ وقْتَهُ فَقالَ مُبَشِّرًا لِأهْلِهِ مُعْرِضًا لِغَيْرِهِمْ مُسْتَحْمِدًا لِأهْلِ وِدِّهِ لِكَوْنِهِ وفَّقَهم ولَمْ يَخْذُلْهم كَأعْدائِهِ: ﴿يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ﴾ أيِ المَلِكُ الأعْظَمُ الَّذِي لَهُ الإحاطَةُ بِالكَمالِ ﴿النَّبِيَّ﴾ أيِ الرَّجُلِ الَّذِي يُنْبِئُهُ اللَّهُ بِما يُوجِبُ لَهُ الرِّفْعَةَ التّامَّةَ مِنَ الأخْبارِ الَّتِي [ هي -] في غايَةِ العَظَمَةِ ﴿والَّذِينَ﴾ أيْ (p-٢٠٢)ولا يُخْزِي الَّذِينَ ﴿آمَنُوا مَعَهُ﴾ وهْمُ الصَّحابَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم إنْ [ كانَ المُرادُ -] المَعِيَّةَ في مُطْلَقِ الزَّمانِ، وسابِقُوهم إنْ كانَ المُرادُ في الوَصْفِ أوْ زَمانٍ مَخْصُوصٍ كَبَدْرٍ وبَيْعَةَ الرِّضْوانِ لِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «لا يَدْخُلُ النّارَ أحَدٌ بايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ» كَما رَواهُ مُسْلِمٌ عَنْ [ أُمِّ -] مُبَشِّرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها وأبُو داوُدَ والتِّرْمِذِيُّ عَنْ جابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «”ولَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلى أهْلِ بَدْرٍ فَقالَ:“ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكم» ”“ وقالَ تَعالى: ﴿لا يَسْتَوِي مِنكم مَن أنْفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ وقاتَلَ أُولَئِكَ أعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أنْفَقُوا﴾ [الحديد: ١٠] إلى قَوْلِهِ ﴿وكُلا وعَدَ اللَّهُ الحُسْنى﴾ [الحديد: ١٠] ونِساءَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ أحَقُّ بِأنْ يَكُنْ أوَّلَ راغِبٍ في الكَوْنِ مَعَهُ في الإيمانِ لِيَبْعُدْنَ عَنِ النِّيرانِ، وإذا اسْتَحْضَرْتَ قِصَصَ الأنْبِياءِ مِن سُورَةِ هُودٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ اتَّضَحَ لَكَ حُسْنَ هَذا الوَجْهِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ”الَّذِينَ“ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ ”نُورُهُمْ“ أوْ يَكُونُ الخَبَرُ ”مَعَهُ“ إشارَةٌ إلى أنَّ جَمِيعَ الأنْبِياءِ وصالِحِي أُمَمِهِمْ مَن أُمَّتِهِ [و -] تَحْتَ لِوائِهِ، وذَلِكَ في غايَةِ ما يَكُونُ مِنَ الشَّرَفِ والرِّفْعَةِ لَهُ ﷺ والإيمانِ المُقَيَّدِ بِمَعِيَّتِهِ، أيْ تَأهُّلِهِ لِمُصاحَبَةِ إيمانِهِ ﷺ غَيْرَ الإيمانِ المُطْلَقِ، فَلا مانِعَ مِن أنْ يَدْخُلَ غَيْرُهم مِنَ المُؤْمِنِينَ النّارَ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنها بِشَفاعَةِ الشّافِعِينَ فَلا مُتَمَسِّكَ لِلْمُعْتَزِلَةِ بِها في أنَّ مُرْتَكِبَ الكَبائِرِ مُخَلَّدٌ في النّارِ لِأنَّهُ داخِلٌ النّارَ فَهو مُخْزِي، فَهو غَيْرُ مَوْصُوفٍ بِالإيمانِ لِأنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِالإيمانِ لا يَخْزى بِدَلِيلِ هَذِهِ الآيَةِ، قالَ أبُو حَيّانَ: (p-٢٠٣)وفِي الحَدِيثِ: ”أنَّهُ ﷺ تَضَرَّعَ في أمْرِ أُمَّتِهِ فَأوْحى اللَّهُ إلَيْهِ: إنْ شِئْتَ جَعَلْتَ حِسابَهم إلَيْكَ، فَقالَ: يا رَبِّ! أنْتَ أرْحَمُ بِهِمْ مِنِّي، فَقالَ تَعالى: إذًا لا أُخْزِيكَ فِيهِمْ“ . ولَمّا نَفى عَنْهُمُ الخِزْيَ، فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ مُقَدَّمًا لِلنُّورِ لِأنَّ السِّياقَ لِتَعْظِيمِ النَّبِيِّ ﷺ بِخِلافِ ما مَضى في الحَدِيدِ: ﴿نُورُهم يَسْعى﴾ أيْ سَعْيًا مُسْتَمِرَّ التَّجَدُّدِ، وعَلى التَّفْسِيرِ الآخَرِ تَكُونُ هَذِهِ الجُمْلَةُ حالِيَّةً، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ خَبَرًا لِ ”الَّذِينَ“ إذا جَعَلْناهُ مُبْتَدَأً ﴿بَيْنَ أيْدِيهِمْ﴾ وحُذِفَ الجارُّ إشارَةً إلى أنَّهُ مَلَأ تِلْكَ الجِهَةَ ”و“ كَذا ”بِأيْمانِهِمْ“ وأمّا ما يَلِي شَمائِلَهم فَإنَّهم لا يَلْتَفِتُونَ إلَيْهِ لِأنَّهم [ إمّا -] مِنَ السّابِقِينَ وإمّا مِن أهْلِ اليَمِينِ، فَهم يَمْشُونَ [ فِيما -] بَيْنَ الجِهَتَيْنِ ويُؤْتُونَ صَحائِفَ أعْمالِهِمْ مِنهُما، وأمّا أهْلُ الشَّمالِ فَيُعْطُونَها مِن وراءِ ظُهُورِهِمْ ومِن شَمائِلِهِمْ وهم بِما لَهم مِنَ النُّورِ إنْ قالُوا سُمِعَ لَهم وإنْ شَفَعُوا شُفِّعُوا. ولَمّا كانَتْ إدامَةً لِلْمَلِكِ هي أشْرَفُ صِفاتِ العَبْدِ قالَ: ﴿يَقُولُونَ﴾ أيْ مُجَدِّدِينَ لِذَلِكَ دائِمًا لِعِلْمِهِمْ أنَّ اللَّهَ تَعالى [ لَهُ أنَّ-] (p-٢٠٤)يَفْعَلَ ما يَشاءُ، لا حَقَّ لِأحَدٍ عَلَيْهِ ولا سِيَّما إذا رَأوُا انْطِفاءَ نُورِ المُنافِقِينَ، قالَ سَهْلٌ: لا يَسْقُطُ الِافْتِقارُ إلى اللَّهِ تَعالى عَنِ المُؤْمِنِينَ في الدُّنْيا ولا في الآخِرَةِ بَلْ هم في الآخِرَةِ أشَدُّ افْتِقارًا إلَيْهِ وإنْ كانُوا في دارِ العِزَّ لِشَوْقِهِمْ إلى لِقائِهِ: ﴿رَبَّنا﴾ أيْ أيُّها المُتَفَضِّلُ عَلَيْنا بِهَذا النُّورِ وبِكُلِّ خَيْرٍ كُنّا أوْ نَكُونُ فِيهِ ﴿أتْمِمْ﴾ فَأظْهَرُوا لِأنَّ المَقامَ لَهُ. ولَمّا كانَ الإنْسانُ رُبَّما رُزِقَ شَيْئًا فانْتَفَعَ بِهِ غَيْرُهُ دُونَهُ قالُوا: ﴿لَنا نُورَنا﴾ أيِ الَّذِي مَنَنْتَ بِهِ عَلَيْنا حَتّى يَكُونَ في غايَةِ التَّمامِ فَتُوصِلُنا بِهِ إلى المَأْمَنِ في دارِ السَّلامِ، ولا تَجْعَلْنا كالمُنافِقِينَ الَّذِينَ أطْفَأتَ أنْوارَهم فَكانَتْ عاقِبَتُهم إلى الظَّلامِ. ولَمّا كانَ كُلُّ مَن حَسُنَ أدَبُهُ لا بُدَّ أنْ يَعْتَقِدَ في نَفْسِهِ النَّقْصَ، قالُوا عَلى سَبِيلِ الذِّلَّةِ والمَسْكَنَةِ والتَّواضُعِ: ﴿واغْفِرْ لَنا﴾ أيِ امْحُ عَنّا كُلَّ نَقْصٍ كانَ يَمِيلُ بِنا إلى أحْوالِ المُنافِقِينَ عَيْنُهُ وأثَرُهُ، وهَذا النُّورُ هو صُورَةُ أعْمالِهِمْ في الدُّنْيا لِأنَّ الآخِرَةَ تَظْهَرُ فِيها حَقائِقُ الأشْياءِ وتَتْبَعُ الصُّوَرَ مَعانِيَها، وهو شَرْعُ اللَّهِ الَّذِي شَرَعَهُ وهو الصِّراطُ الَّذِي يَضْرِبُ بَيْنَ ظَهْرانِيِّ جَهَنَّمَ لِأنَّ الفَضائِلَ في الدُّنْيا مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ الرَّذائِلِ، فَكُلُّ فَضِيلَةٍ تَكْتَنِفُها رَذِيلَتانِ: إفْراطٌ وتَفْرِيطٌ، فالفَضِيلَةُ هي الصِّراطُ المُسْتَقِيمُ، والرَّذِيلَتانِ ما كانَ مِن جَهَنَّمَ عَنْ يَمِينِهِ وشِمالِهِ، فَمَن كانَ (p-٢٠٥)يَمْشِي في الدُّنْيا عَلى ما أمَرَ بِهِ سَواءٌ مِن غَيْرِ إفْراطٍ ولا تَفْرِيطٍ كانَ نُورُهُ تامًّا، ومَن أمالَتْهُ الشَّهَواتُ طُفِئَ نُورُهُ - أعاذَنا اللَّهُ مِن ذَلِكَ ورَزَقَنا حُسْنَ الثَّباتِ، وكانَ ذَلِكَ الطَّفْءُ في بَعْضِ الأوْقاتِ واخْتَطَفَتْهُ كَلالِيبُ هي صُوَرُ الشَّهَواتِ فَتَمِيلُ بِهِ في النّارِ بِقَدْرِ مَيْلِهِ إلَيْها، والمُنافِقُ يَظْهَرُ لَهُ نُورُ إقْرارِهِ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، فَإذا مَشى طُفِئَ لِأنَّ إقْرارَهُ لا حَقِيقَةَ لَهُ [ فَنُورُهُ لا حَقِيقَةَ لَهُ -]. ولَمّا كانَ ما ذَكَرَ لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلّا اللَّهُ تَعالى، عَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ مُؤَكِّدًا لِإنْكارِ الكُفّارِ البَعْثَ وما تَفَرَّعَ عَنْهُ: ﴿إنَّكَ﴾ أيْ وحْدَكَ ﴿عَلى كُلِّ شَيْءٍ﴾ أيْ يُمْكِنُ دُخُولُ المَشِيئَةِ فِيهِ ﴿قَدِيرٌ﴾ أيْ بالِغُ القُدْرَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب