الباحث القرآني

﴿ويَرْزُقْهُ﴾ بِحَوْلِهِ وقُوَّتِهِ بِجَلْبِ المَسارِ في الدِّينِ والدُّنْيا والآخِرَةِ في نَظِيرِ ما اجْتَلَبَ مِن فِعْلِ الأوامِرِ. ولَمّا كانَ أحْلى الهِباتِ ما جاءَ مِن مَكانٍ لا يُرْجى قالَ: ﴿مِن حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾ أيْ لا يَقْوى رَجاؤُهُ لَهُ، و[ لَمّا -] أكَّدَ في هَذا وأعْظَمَ الوَعْدَ لِأنَّهُ وإنْ كانَ عامًّا لِكُلِّ مُتَّقٍ فَتَعَلَّقَهُ بِما تَقَدَّمَ أقْوى والنَّظَرَ فِيما تَقَدَّمَ إلى حُقُوقِ العِبادِ أكْثَرُ، والمُضايِقَةُ فِيها أشَدُّ، والدَّواعِي إلَيْها أبْلَغُ، فالِاتِّقاءُ فِيهِ بِعَدَمِ الطَّلاقِ في الحَيْضِ والإضْرارِ بِالمَرْأةِ بِتَطْوِيلِ العِدَّةِ (p-١٥٢)أوِ الإخْراجِ مِنَ المَسْكَنِ وكِتْمانِ الشَّهادَةِ والعُسْرِ في أدائِها والإخْلالِ بِشَيْءٍ مِنها والتَّأْكِيدِ والإبْلاغِ في الوَعْدِ لِأجْلِ ما جُبِلَ عَلَيْهِ الإنْسانُ مِنَ القَلَقِ في أُمُورِهِ، عَطَفَ عَلى ذَلِكَ قَوْلَهُ: ﴿ومَن يَتَوَكَّلْ﴾ [ أيْ -] يَسْنِدُ أُمُورَهُ كُلَّها ويُفَوِّضُها مُعْتَمِدًا فِيها ﴿عَلى اللَّهِ﴾ أيِ المَلِكِ الَّذِي بِيَدِهِ كُلُّ شَيْءٍ ولا كُفُوءَ لَهُ فَقَدْ جَمَعَ الأرْكانَ الثَّلاثَةَ الَّتِي لا يَصْلُحُ التَّوْكِيلُ إلّا بِها، وهي العِلْمُ المُحِيطُ لِئَلّا يُدَلِّسَ عَلَيْهِ، والقُدْرَةُ التّامَّةُ لِئَلّا يَعْجَزَ، والرَّحْمَةَ بِالمُتَوَكُّلِ [ والعِنايَةَ بِهِ -] لِئَلّا يَحِيفَ عَلَيْهِ، والتَّوَكُّلُ يَكُونُ مَعَ مُباشَرَةِ الأسْبابِ وهو مِنَ المَقاماتِ العَظِيمَةِ وإلّا كانَ اتِّكالًا، ولَيْسَ بِمَقامٍ بَلْ خِسَّةَ هِمَّةٍ وعَدَمَ مُرُوءَةٍ، لِأنَّهُ إبْطالُ حِكْمَةِ اللَّهِ الَّتِي أحْكَمَها في الدُّنْيا مِن تَرْتِيبِ المُسَبِّباتِ عَلى الأسْبابِ - قالَهُ المَلْوِيُّ ﴿فَهُوَ﴾ أيِ اللَّهُ في غَيْبِ غَيْبِهِ فَضْلًا عَنِ الشَّهادَةِ بِسَبَبِ تَوَكُّلِهِ ﴿حَسْبُهُ﴾ أيْ كافِيهِ، وحَذَفَ المُتَعَلِّقَ لِلتَّعْمِيمِ، وحَرْفَ الِاسْتِعْلاءِ لِلشّارَةِ إلى أنَّهُ قَدْ حَمَّلَ أُمُورَهُ كُلَّها عَلَيْهِ سُبْحانَهُ لِأنَّهُ القَوِيُّ الَّذِي لا يَعْصِيهِ شَيْءٌ، والكَرِيمُ الَّذِي يُحْسِنُ حَمْلَ ذَلِكَ ورَعْيَهُ، والعَزِيزُ الَّذِي يَدْفَعُ عَنْهُ كُلَّ ضارٍّ ويَجْلِبُ لَهُ كُلَّ سارٍّ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ المَعانِي الكِبارِ، فَلا يَبْدُو لَهُ في عالَمِ الشَّهادَةِ شَيْءٌ يُشْقِيهِ لا مِنَ الغَيْبِ ولا مِن غَيْبِ الغَيْبِ، وفي الحَدِيثِ «لَوْ أنَّكم تَوَكَّلْتُمْ عَلى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكم كَما يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِماصًا وتَرُوحُ (p-١٥٣)بِطانًا» . ولَمّا كانَ ذَلِكَ أمْرًا لا يَكادُ [ يُحِيطُ -] بِهِ الوَهْمُ، عَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ مُهَوِّلًا [ لَهُ -] بِالتَّأْكِيدِ والإظْهارِ في مَوْضِعِ الإضْمارِ: ﴿إنَّ اللَّهَ﴾ أيِ المُحِيطَ بِكُلِّ كَمالٍ المُنَزَّهَ عَنْ كُلِّ شائِبَةِ نَقْصٍ ﴿بالِغُ أمْرِهِ﴾ أيْ جَمِيعِ ما يُرِيدُهُ فَلا بُدَّ مِن نُفُوذِهِ سَواءٌ حَصَلَ تَوَكُّلٌ أمْ لا، وسَمّاهُ أمْرًا إشارَةً إلى أنَّهُ مِمّا يَسْتَحِقُّ أنْ يُؤْمَرَ بِهِ وإلى أنَّهُ في سُرْعَةِ الكَوْنِ إذا أُرِيدَ لَمْ يَتَخَلَّفْ بِوَجْهٍ بَلْ يَكُونُ كالمُؤْتَمَرِ الحَقِيرِ لِلْمَلِكِ الجَلِيلِ الكَبِيرِ. ولَمّا كانَ ضَرْبُ المَقادِيرِ مِنَ القادِرِ مُوجِبًا لِعَدَمِ الإخْلالِ بِشَيْءٍ مِنها، عَلَّلَ ذَلِكَ بِما اقْتَضى تَحَتُّمَ الوَعْدِ والتَّوَكُّلِ فَقالَ: ﴿قَدْ جَعَلَ اللَّهُ﴾ أيِ المَلِكِ الَّذِي لا كُفُوءَ لَهُ ولا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ جَعْلًا مُطْلَقًا مِن غَيْرِ تَقَيُّدٍ بِجِهَةٍ ولا حَيْثِيَّةٍ ﴿لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ أيْ تَقْدِيرًا لا يَتَعَدّاهُ في مِقْدارِهِ وزَمانِهِ ومَكانِهِ وجَمِيعِ عَوارِضِهِ وأحْوالِهِ وإنِ اجْتَهَدَ جَمِيعُ الخَلائِقِ في أنْ يَتَعَدّاهُ، فَمَن تَوَكَّلَ اسْتَفادَ الأجْرَ وخَفَّفَ عَنْهُ الألَمَ، وقَذَفَ في قَلْبِهِ السَّكِينَةَ، ومَن لَمْ يَتَوَكَّلْ لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ، وزادَ ألَمُهُ وطالَ غَمُّهُ بِشِدَّةِ سَعْيِهِ وخَيْبَةِ أسْبابِهِ الَّتِي يَعْتَقِدُ أنَّها هي المُنْجِحَةُ، فَمَن رَضِيَ فَلَهُ الرِّضى ومَن سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ، جَفَّ القَلَمُ فَلا يُزادُ في المَقادِيرِ شَيْءٌ ولا يُنْقَصُ (p-١٥٤)مِنها شَيْءٌ، ويُحْكى أنَّ رَجُلًا أتى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقالَ: أوْلِنِي مِمّا أوْلاكَ اللَّهُ فَقالَ: أتَقْرَأُ القُرْآنَ؟ قالَ: لا، قالَ: إنّا لا نُوَلِّي مَن لا يَقْرَأُ القُرْآنَ، فانْصَرَفَ الرَّجُلُ واجْتَهَدَ حَتّى تَعَلَّمَ القُرْآنَ رَجاءَ أنْ يَعُودَ إلى عُمْرَ فَيُوَلِّيهِ، فَلَمّا تَعَلَّمَ القُرْآنَ تَخَلَّفَ عَنْ عُمَرَ فَرَآهُ ذاتَ يَوْمٍ فَقالَ: يا هَذا! أهَجَرْتَنا، فَقالَ: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ ! لَسْتُ مِمَّنْ يَهْجُرُ؟ ولَكِنِّي تَعَلَّمْتُ القُرْآنَ فَأغْنانِي اللَّهُ عَنْ عُمَرَ وعَنْ بابِ عُمَرَ، قالَ: أيُّ آيَةٍ أغْنَتْكَ؟ قالَ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ [الطلاق: ٢] ﴿ويَرْزُقْهُ مِن حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾ انْتَهى. ومَن تَوَكَّلَ عَلى غَيْرِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى ضاعَ لِأنَّهُ لا يَعْلَمُ المَصالِحَ وإنْ عَلِمَها لَمْ يَعْلَمْ أيْنَ هِيَ، وإنَّ عَلِمَ لَمْ يَعْلَمْ مَتى يَسْتَعْمِلُها [ وإنْ عَلِمَ لَمْ يَعْلَمْ كَمِ المِقْدارُ المُسْتَعْمَلُ، وإنْ عَلِمَ لَمْ يَعْلَمْ كَيْفَ يَسْتَعْمِلُها -] وهو سُبْحانُهُ المُنْفَرِدُ بِعِلْمِ ذَلِكَ كُلِّهِ وما لا يَعْلَمُهُ حَقَّ عِلْمِهِ غَيْرُهُ، والآيَةُ تَفْهَمُ أنَّ مَن لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ يُقَتِّرُ عَلَيْهِ، وهو مُوافِقٌ لِما رَوى ابْنُ حِبّانَ في صَحِيحِهِ والحاكِمُ واللَّفْظُ لَهُ - وقالَ: صَحِيحُ الإسْنادِ - عَنْ ثَوْبانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: (p-١٥٥)قالَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: «لا يَرُدُّ القَدَرَ إلّا الدُّعاءُ ولا يَزِيدُ في العُمْرِ إلّا البِرُّ، وإنَّ الرَّجُلَ لِيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ» وتَفْهَمُ أنَّ مَن لَمْ يَتَوَكَّلْ لَمْ يُكْفَ شَيْئًا مِنَ الأشْياءِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب