الباحث القرآني

ولَمّا كانَ أعْظَمُ الدَّلائِلِ عَلَيْهِ سُبْحانَهُ آياتِ الآفاقِ ﴿سَنُرِيهِمْ آياتِنا في الآفاقِ﴾ [فصلت: ٥٣] وآياتِ الأنْفُسِ، وقَدَّمَ الأوَّلَ عُلْوِيَّهُ وسُفْلِيَّهُ لِوُضُوحِهِ، أتْبَعَهُ الثّانِي دَلِيلًا عَلى عُمُومِ قُدْرَتِهِ الدّالِّ عَلى تَمامٍ مُلْكِهِ بِأنَّهُ المُخْتَصُّ بِالِاخْتِراعِ لِأعْجَبِ الأشْياءِ خَلْقًا والحَمْلُ عَلى المَكارِهِ فَقالَ: ﴿هُوَ﴾ أيْ وحْدَهُ ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ أيْ أنْشَأكم عَلى ما أنْتُمْ عَلَيْهِ بِأنْ قَدَّرَكم وأوْجَدَكم بِالحَقِّ عَلى وفْقِ التَّقْدِيرِ خِلافًا لِمَن أنْكَرَ ذَلِكَ مِنَ الدَّهْرِيَّةِ وأهْلِ الطَّبائِعِ. ولَمّا كانَ قَدْ تَقَدَّمَ في سُورَةِ المُنافِقِينَ ما أعْلَمَ أنَّهم فَرِيقانِ، عَرَفَ في هَذِهِ أنَّ ذَلِكَ مُسَبِّبٌ عَنْ إبْداعِهِ لِأنَّ مِن مَعْهُودِ المُلْكِ أنْ يَكُونَ في مَمْلَكَتِهِ الوَلِيُّ والعَدُوُّ والمُؤالِفُ والمُخالِفُ والطّائِعُ والعاصِي والمَلِكُ يَنْتَقِمُ ويَعْفُو ويُعاقِبُ ويُثِيبُ ويُقَدِّمُ ويُؤَخِّرُ ويَرْفَعُ ويَضَعُ، ولِذَلِكَ قالَ ﷺ «لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا فَتَسْتَغْفِرُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكم ثُمَّ جاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ فَيُغْفَرُ لَهُمْ» أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ والتِّرْمِذِيُّ عَنْ (p-١٠٤)أبِي أيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقالَ تَعالى مُقَدِّمًا لِلْعَدُوِّ إشارَةً إلى أنَّهُ عالِمٌ بِهِ وقادِرٌ عَلَيْهِ، وما كانَ مِنهُ شَيْئًا إلّا بِإرادَتِهِ، وفِيهِ تَلْوِيحٌ إلى أنَّهُ الأكْثَرُ ومَعَ كَثْرَتِهِ هو الأضْعَفُ، لِأنَّ اللَّهَ تَعالى لَيْسَ مَعَهُ بِمَعُونَتِهِ وإلّا لَأعْدَمَ الصِّنْفَ الآخَرَ: ﴿فَمِنكُمْ﴾ أيْ فَتَسَبَّبَ عَنْ خَلْقِهِ لَكم وتَقْدِيرِهِ لِأشْباحِكُمُ الَّتِي تَنْشَأُ عَنْها الأخْلاقُ إنْ كانَ مِنكم بِإبْداعِهِ لِصِفاتِكم كَما أبْدَعَ لِذَواتِكم ﴿كافِرٌ﴾ أيْ عَرِيقٌ في صِفَةِ الكُفْرِ مُهْلِكٌ نَفْسَهُ بِما هَيَّأهُ لِاكْتِسابِهِ ويُسْرِهِ لَهُ بَعْدَ ما خَلَقَهُ في أحْسَنِ تَقْوِيمٍ عَلى الفِطْرَةِ الأُولى، وفي الحَدِيثِ أنَّ الغُلامَ الَّذِي قَتَلَهُ الخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلامُ طُبِعَ كافِرًا فَمَعْنى أنَّ فِطْرَتَهُ الأُولى خُلِقَتْ مُهَيَّأةً لِلْكُفْرِ، فَإنَّ الأفْعالَ عامَّةٌ وخاصَّةٌ، فالخاصَّةُ تُضافُ إلى العَبْدِ يُقالُ: صَلّى وصامَ وآمَنَ وكَفَرَ، والعامَّةُ تُضافُ إلى اللَّهِ تَعالى فَيُقالُ: أوْجَدَ القُدْرَةَ عَلى الحَرَكَةِ والسُّكُونِ وخَلْقِ الحَرَكَةِ والسُّكُونِ، والأفْعالُ الخاصَّةُ مُتَعَلِّقُ الأمْرِ والنَّهْيِ ﴿ومِنكم مُؤْمِنٌ﴾ أيْ راسِخٌ في الإيمانِ في حُكْمِ اللَّهِ تَعالى في الأزَلِ مُنْجٍ نَفْسَهُ بِالأعْمالِ الصّالِحَةِ الَّتِي طابَقَ بِها العِلْمُ الأزَلِيُّ، فَهو سُبْحانُهُ خَلَقَ الكافِرَ وخَلَقَ كُفْرَهُ فِعْلًا لَهُ، والمُؤْمِنُ وإيمانُهُ فِعْلًا لَهُ، لِأنَّهُ خَلَقَ القُدْرَةَ (p-١٠٥)والِاخْتِيارَ وغَيَّبَ أمْرَ العاقِبَةِ، فَكُلٌّ مِنهُما يَكْتُبُ بِاخْتِيارِهِ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ، ولا يُوجَدُ مِن كُلٍّ مِنهُما إلّا ما قَدَّرَهُ عَلَيْهِ وأرادَهُ مِنهُ لِأنَّ وُجُودَ غَيْرِ المَقْدُورِ عَجْزٌ، وخِلافُ المُرادِ المَعْلُومِ جَهْلٌ، وقَدْ عَلِمَ مِن هَذِهِ القِسْمَةِ عِلْمًا قَطْعِيًّا أنَّ أحَدَ القِسْمَيْنِ مُبْطِلٌ ضالٌّ مُخالِفٌ لِأمْرِ المَلِكِ الَّذِي ثَبَتَ مُلْكُهُ، ومِنَ المَعْلُومِ قَطْعًا أنَّ كُلَّ مَلِكٍ لا بُدَّ لَهُ أنْ يَحْكُمَ بَيْنَ رَعِيَّتِهِ في [الأمْرِ] الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ويُنْصِفُ المَظْلُومَ مِن ظالِمِهِ، ومِنَ المُشاهَدِ أنَّ بَعْضَهم يَمُوتُ عَلى كُفْرانِهِ مِن غَيْرِ نَقْصٍ يَلْحَقُهُ، وبَعْضُهم عَلى إيمانِهِ كَذَلِكَ، فَعَلِمَ أنَّ هَذِهِ الدّارَ لَيْسَتْ دارَ الفَصْلِ، وأنَّ الدّارَ المُعَدَّةَ لَهُ إنَّما هي بَعْدَ المَوْتِ والبَعْثِ، وهَذا مِمّا هو مَرْكُوزٌ في الطَّبائِعِ لا يَجْهَلُهُ أحَدٌ، ولَكِنَّ الخَلْقَ أعْرَضُوا عَنْهُ بِما هم فِيهِ مِنَ القَواطِعِ، فَصارَ مِمّا لا يَخْطُرُ بِإنْكارِهِمْ، فَصارَ بِحَيْثُ لا تَسْتَقِلُّ بِهِ عُقُولُهُمْ، ولَكِنَّهم إذا ذُكِّرُوا بِهِ وأوْضَحَتْ لَهم هَذِهِ القَواطِعُ الَّتِي أشارَ سُبْحانَهُ إلَيْها وجَرَّدُوا النَّفْسَ عَنِ الحُظُوظِ والمُرُورِ مَعَ الإلْفِ عَدُّوهُ كُلُّهم مِنَ الضَّرُورِيّاتِ، وعَلِمَ مِن تَسْبِيبِهِ تَقْسِيمَهم هَذا عَنْ تَقْدِيرِهِ وُجُوبَ [الإيمانِ] بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ. ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ: فالَّذِي أبْدَعَكم وحَمَلَكم عَلى ذَلِكَ وفاوَتَ بَيْنَكم (p-١٠٦)عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿واللَّهُ﴾ أيِ الَّذِي لَهُ الإحاطَةُ الكامِلَةُ بِفِعْلِهِ ذَلِكَ، وقَدَّمَ الجارَّ لا لِلتَّخْصِيصِ بَلْ إشارَةً إلى مَزِيدِ الِاعْتِناءِ كَما تَقُولُ لِمَن سَألَكَ: هَلْ تَعْرِفُ كَذا، وظَهَرَ مِنهُ التَّوَقُّفُ في عِلْمِكَ لَهُ: نَعَمْ أعْرِفُهُ ولا أعْرِفُ غَيْرَهُ، فَقالَ: ﴿بِما تَعْمَلُونَ﴾ أيْ تُوقِعُونَ عَمَلَهُ كَسْبًا ﴿بَصِيرٌ﴾ أيْ بالِغُ العِلْمِ بِذَلِكَ، فَهو الَّذِي خَلَقَ جَمِيعَ أعْمالِكُمُ الَّتِي نُسِبَ كَسْبُها إلَيْكُمْ، وهو خالِقُ جَمِيعِ الِاسْتِعْداداتِ والصِّفاتِ كَما خَلَقَ الذَّواتِ خِلافًا لِلْقَدَرِيَّةِ لِأنَّهُ لا يَتَصَوَّرُ أنْ يَخْلُقَ الخالِقُ ما لا يَعْلَمُهُ، ولَوْ سُئِلَ الإنْسانُ كَمْ مَشى في يَوْمِهِ مِن خُطْوَةٍ لَمْ يَدْرِ، فَكَيْفَ لَوْ سُئِلَ أيْنَ مَوْضِعُ مَشْيِهِ ومَتى زَمانُهُ فَكَيْفَ وإنَّهُ لِيَمْشِي أكْثَرَ مَشْيِهِ وهو غافِلٌ عَنْهُ، ومِن جَهْلِ أفْعالِهِ كَمًّا وكَيْفًا وأيْنًا وغَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ خالِقًا لَها بِوَجْهٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب