الباحث القرآني
(p-٩٩)سُورَةُ التَّغابُنِ
مَقْصُودُها الإبْلاغُ فى التَّحْذِيرِ مِمّا حَذَّرَتْ مِنهُ المُنافِقُونَ بِإقامَةِ الدَّلِيلِ القاطِعِ عَلى أنَّهُ مِنَ العِرْضِ عَلى الدَّيْنُونَةِ عَلى النَّقِيرِ والقِطْمِيرِ يَوْمَ القِيامَةِ يَوْمَ الجَمْعِ الأعْظَمِ، واسْمُها التَّغابُنُ واضِحُ الدَّلالَةِ عَلى ذَلِكَ،[و] هو أدَلُّ ما فِيها عَلَيْهِ لِذَلِكَ سُمِّيَتْ بِهِ ”بِسْمِ اللَّهِ“ مالِكِ المُلْكِ فَلا كُفُؤَ لَهُ ولا مَثِيلَ ”الرَّحْمَنِ“ الَّذِي وسِعَ الخَلائِقَ بِرُّهُ الجَلِيلُ ”الرَّحِيمِ“ الَّذِي خَصَّ مِمَّنْ عَمَّهُ بِالبَرِّ قَوْمًا فَوْقَهم لِلْجَمِيلِ.
* * *
لَمّا خُتِمَتْ تِلْكَ بِإثْباتِ القَهْرِ بِنُفُوذِ الأمْرِ وإحاطَةِ العِلْمِ، افْتَتَحَ هَذِهِ بِإحاطَةِ الحَمْدِ ودَوامِ التَّنَزُّهِ عَنْ كُلِّ شائِبَةِ نَقْصٍ، إرْشادًا إلى النَّظَرِ في أفْعالِهِ والتَّفَكُّرِ في مَصْنُوعاتِهِ لِأنَّهُ الطَّرِيقُ إلى مَعْرِفَتِهِ، وأمّا مَعْرِفَتُهُ بِكُنْهِ الحَقِيقَةِ فَمُحالٌ فَإنَّهُ لا يَعْرِفُ الشَّيْءَ كَذَلِكَ إلّا مِثْلَهُ ولا مِثْلَ لَهُ، فَقالَ مُؤَكِّدًا لِما أفْهَمَهُ أوَّلَ الجُمْعَةِ: ﴿يُسَبِّحُ﴾ أيْ يُوقِعُ التَّنْزِيهَ التّامَّ مَعَ التَّجْدِيدِ والِاسْتِمْرارِ ﴿لِلَّهِ﴾ الَّذِي لَهُ الإحاطَةُ بِأوْصافِ الكَمالِ ﴿ما في السَّماواتِ﴾ الَّذِي مِن جُمْلَتِهِ الأراضِي وما فِيها فَلا يُرِيدُ مِن شَيْءٍ مِنهُ شَيْئًا إلّا كانَ عَلى وفْقِ الإرادَةِ، فَكانَ لِذَلِكَ الكَوْنِ والكائِنِ (p-١٠٠)شاهِدًا لَهُ بِالبَراءَةِ عَنْ كُلِّ شائِبَةِ نَقْصٍ.
ولَمّا كانَ الخِطابُ مَعَ مَن تَقَدَّمَ في آخِرِ المُنافِقِينَ مِمَّنْ هو مُحْتاجٌ إلى التَّأْكِيدِ، قالَ مُؤَكِّدًا بِإعادَةِ المَوْصُولِ: ﴿وما في الأرْضِ﴾ أيْ كَذَلِكَ بِدَلالَتِها عَلى كَمالِهِ واسْتِغْنائِهِ، وقَدْ تَقَدَّمَ أنَّ مُوافَقَةَ العاقِلِ لِلْأمْرِ مِثْلَ مُوافَقَةِ غَيْرِ العاقِلِ لِلْإرادَةِ، فَعَلَيْهِ أنْ يُهَذِّبَ نَفْسَهُ غايَةَ التَّهْذِيبِ فَيَكُونُ في طاعَتِهِ بِامْتِثالِ الأوامِرِ كَطاعَةِ غَيْرِ العاقِلِ في امْتِثالِهِ لِما يُرادُ مِنهُ.
ولَمّا ساقَ سُبْحانَهُ ذَلِكَ الدَّلِيلَ النَّقْلِيَّ كَمالَ نَزاهَتِهِ عَلى وجْهٍ يَفْهَمُ الدَّلِيلَ العَقْلِيَّ لِمَن لَهُ لُبٌّ كَما قالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لا يَنْفَعُ مَسْمُوعٌ إذا لَمْ يَكُنْ مَطْبُوعًا، كَما لا تَنْفَعُ الشَّمْسُ [و]ضَوْءُ العَيْنِ مَمْنُوعٌ، وذَلِكَ لِكَوْنِهِ سُبْحانَهُ جَعَلَهم مَظْرُوفِينَ كَما هو المُشاهَدُ، والمَظْرُوفُ مُحْتاجٌ لِوُجُودِ ظَرْفِهِ قَبْلَهُ فَهو عاجِزٌ فَهو مُسَبِّحٌ دائِمًا إنْ لَمْ يَكُنْ بِلِسانٍ قالَهُ كانَ بِلِسانِ حالِهِ، وصانِعُهُ الغَنِيُّ عَنِ الظَّرْفِ فَغَيْرُهُ سَبُوحٌ، [عَلَّلَ] ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿لَهُ﴾ أيْ وحْدَهُ ﴿المُلْكُ﴾ [أيْ] كُلُّهُ مُطْلَقًا في الدُّنْيا والآخِرَةِ، وهو السِّيادَةُ العامَّةُ لِلْخاصِّ والعامِّ والسِّياسَةُ العامَّةُ بِرُكْنَيْها دَفْعُ الشُّرُورِ وجَلْبُ الخُيُورِ الجالِبُ لِلسُّرُورِ (p-١٠١)والحُبُورُ مِنَ الإبْداعِ والإعْدامِ، فَهو أبْلَغُ مِمّا في الجُمْعَةِ، فَإنَّ المُلْكَ قَدْ يَكُونُ مُلْكًا في الصُّورَةِ، وذَلِكَ المُلْكُ الَّذِي هو ظاهِرٌ فِيهِ لِغَيْرِهِ، فَداوَمَ التَّسْبِيحَ الَّذِي اقْتَضَتْهُ عَظَمَةُ المَلِكِ هُنا أعْظَمُ مِن ذَلِكَ الدَّوامِ.
ولَمّا أتْبَعُهُ في الجُمْعَةِ التَّنْزِيهُ عَنِ النَّقْصِ، أتْبَعَهُ هُنا الوَصْفُ بِالكَمالِ فَقالَ: ﴿ولَهُ﴾ أيْ وحْدَهُ ﴿الحَمْدُ﴾ أيِ الإحاطَةُ بِأوْصافِ الكَمالِ كُلِّها فَلِذَلِكَ يُنَزِّهُهُ جَمِيعُ مَخْلُوقاتِهِ، فَمَن فَهِمَ تَسْبِيحَها فَذَلِكَ [المُحْسِنُ]، ومَن كانَ في طَبْعِهِ وفِطْرَتِهِ الأُولى بِالفَهْمُ ثُمَّ ضَيَّعَهُ يُوشِكُ أنْ يَرْجِعَ فَيَفْهَمُ، ومَن لَمْ يُهَيَّأْ لِذَلِكَ فَذَلِكَ الضّالُّ الَّذِي لا حِيلَةَ فِيهِ ﴿وهُوَ﴾ أيْ وحْدَهُ ﴿عَلى كُلِّ شَيْءٍ﴾ أيْ شَيْءٍ مُمْكِنٍ أنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ المَشِيئَةُ ﴿قَدِيرٌ﴾ لِأنَّهُ وحْدَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُطْلَقًا عَلِيمٌ، لِأنَّ نِسْبَةَ ذاتِهِ المُقْتَضِيَةَ لِلْقُدْرَةِ إلى الأشْياءِ كُلِّها عَلى حَدٍّ سَواءٍ وهَذا واضِحٌ جِدًّا، ولِأنَّ مَن عَرَفَ نَفْسَهُ بِالنَّقْصِ عَرَفَ رَبَّهُ بِالكَمالِ وقُوَّةِ السُّلْطانِ والجَلالِ.
وقالَ [الإمامُ] أبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى: لَمّا بَسَطَ في السُّورَتَيْنِ قَبِلَ مِن حالِ مَن حَمَلَ التَّوْراةَ مِن بَنِي إسْرائِيلَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلْها، وحالَ المُنافِقِينَ المُتَظاهِرِينَ بِالإسْلامِ، وقُلُوبُهم كُفْرًا وعِنادًا مُتَكاثِفَةَ الإظْلامِ، وبَيَّنَ خُرُوجَ الطّائِفَتَيْنِ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ المُسْتَقِيمِ، وتَنَكُّبُهم عَنْ هُدى الدِّينِ القَوِيمِ، وأوْهَمَ ذِكْرَ اتِّصافِهِمْ بِمُتَحَدِّ أوْصافِهِمْ خُصُوصُهم في الكُفْرِ بِوَسْمِ الِانْفِرادِ وسْمًا يُنْبِئُ عَنْ عَظِيمِ ذَلِكَ الإبْعادِ، سِوى ما (p-١٠٢)تَناوَلَ غَيْرُهم مِن أحْزابِ الكُفّارِ، فَأنْبَأ تَعالى [عَنْ] أنَّ الخَلْقَ بِجُمْلَتِهِمْ وإنْ تَشَعَّبَتِ الفِرَقُ وافْتَرَقَتِ الطُّرُقُ راجِعُونَ بِحُكْمِ السَّوابِقِ إلى طَرِيقَيْنِ فَقالَ تَعالى ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكم فَمِنكم كافِرٌ ومِنكم مُؤْمِنٌ﴾ [التغابن: ٢] وقَدْ أوْضَحْنا الدَّلائِلَ أنَّ المُؤْمِنِينَ عَلى دَرَجاتٍ، و[أهْلُ] الكُفْرِ ذُو طَبَقاتٍ، وأهْلُ النِّفاقِ أدْوَنُهم حالًا وأسْوَأُهم كُفْرًا وضَلالًا ﴿إنَّ المُنافِقِينَ في الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النّارِ﴾ [النساء: ١٤٥] وافْتُتِحَتِ السُّورَةُ بِالتَّنْزِيهِ لِعَظِيمِ مُرْتَكَبِ المُنافِقِينَ في جَهْلِهِمْ ولَوْ لَمْ تَنْطَوِ سُورَةُ المُنافِقِينَ مِن عَظِيمِ مُرْتَكَبِهِمْ إلّا عَلى ما حَكاهُ تَعالى مِن قَوْلِهِمْ ﴿لَئِنْ رَجَعْنا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنها الأذَلَّ﴾ [المنافقون: ٨] وقَدْ أشارَ قَوْلُهُ تَعالى ﴿يَعْلَمُ ما في السَّماواتِ والأرْضِ ويَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وما تُعْلِنُونَ واللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ﴾ [التغابن: ٤] إلى ما قَبْلَهُ وبَعْدَهُ مِنَ الآياتِ إلى سُوءِ جَهْلِ المُنافِقِينَ وعَظِيمِ حِرْمانِهِمْ في قَوْلِهِمْ بِألْسِنَتِهِمْ مِمّا لَمْ تَنْطَوِ عَلَيْهِ قُلُوبُهم ﴿واللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ المُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ﴾ [المنافقون: ١] واتِّخاذُهم أيْمانَهم جُنَّةً وصَدُّهم عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إلى ما وصَفَهم سُبْحانَهُ بِهِ، فافْتَتَحَ سُبْحانَهُ وتَعالى سُورَةَ التَّغابُنِ بِتَنْزِيهِهِ عَمّا تَوَهَّمُوهُ مِن مُرْتَكَباتِهِمُ الَّتِي لا تَخْفى عَلَيْهِ سُبْحانَهُ ﴿ألَمْ يَعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهم ونَجْواهُمْ﴾ [التوبة: ٧٨] ثُمَّ قالَ تَعالى ﴿ويَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وما تُعْلِنُونَ﴾ [التغابن: ٤] فَقَرَعَ ووَبَّخَ في عِدَّةِ آياتٍ ثُمَّ (p-١٠٣)أشارَ إلى ما مَنَعَهم مِن تَأمُّلِ الآياتِ، وصَدِّهِمْ عَنِ اعْتِبارِ المُعْجِزاتِ، وأنَّهُ الكِبَرُ المُهْلِكُ غَيْرَهُمْ، فَقالَ تَعالى مُخْبِرًا عَنْ سَلَفِهِمْ في هَذا المُرْتَكِبِ، مِمَّنْ أعْقَبَهُ ذَلِكَ ألِيمَ العَذابِ وسُوءَ المُنْقَلَبِ ﴿ذَلِكَ بِأنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهم بِالبَيِّناتِ فَقالُوا أبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وتَوَلَّوْا﴾ [التغابن: ٦] ثُمَّ تَناسَجَ الكَلامُ مَعْرُفًا بِمَآلِهِمُ الأُخْرَوِيِّ ومَآلِ غَيْرِهِمْ إلى قَوْلِهِ ﴿وبِئْسَ المَصِيرُ﴾ [التغابن: ١٠] ومُناسَبَةُ ما بَعْدُ يَتَبَيَّنُ في التَّفْسِيرِ بِحَوْلِ اللَّهِ - انْتَهى.
{"ayah":"یُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۖ لَهُ ٱلۡمُلۡكُ وَلَهُ ٱلۡحَمۡدُۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرٌ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











