الباحث القرآني
ولَمّا حَذَّرَ مِنَ الإقْبالِ عَلى الدُّنْيا، رَغَّبَ في بَذْلِها مُخالَفَةً لِلْمُنافِقِينَ فَقالَ: ﴿وأنْفِقُوا﴾ أيْ ما أُمِرْتُمْ بِهِ مِن واجِبٍ أوْ مَندُوبٍ، وزادٍ في التَّرْغِيبِ بِالرِّضى مِنهم بِاليَسِيرِ مِمّا [هُوَ] كُلُّهُ لَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿مِن ما رَزَقْناكُمْ﴾ (p-٩٤)أيْ مِن عَظَمَتِنا وبَلَغَ النِّهايَةَ في ذَلِكَ بِالرِّضا بِفِعْلِ ما أمَرَ بِهِ مَعَ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ في زَمَنِ ما ولَوْ قَلَّ بِما أرْشَدَ إلَيْهِ إثْباتُ الجارِّ، فَقالَ مُرَغِّبًا في التَّأهُّبِ لِلرَّحِيلِ والمُبادَرَةِ لِمُباغَتِهِ الأجَلَ، مُحَذِّرًا مِنَ الِاغْتِرارِ بِالتَّسْوِيفِ في أوْقاتِ السَّلامَةِ: ﴿مِن قَبْلِ﴾ وفَكَّ المَصْدَرَ لِيُفِيدَ ”أنَّ“ مَزِيدَ القُرْبِ [فَقالَ]: ﴿أنْ يَأْتِيَ﴾ ولمّا كانَ تَقْدِيمُ المَفْعُولِ كَما تَقَدَّمَ في النِّساءِ أهْوَلُ قالَ: ﴿أحَدَكُمُ المَوْتُ﴾ [أيْ] بِرُؤْيَةِ دَلائِلِهِ وأماراتِهِ، وكُلُّ لَحْظَةٍ مَرَّتْ فَهي مِن دَلائِلِهِ وأماراتِهِ. ولمّا كانَتِ الشَّدائِدُ تَقْتَضِي الإقْبالَ عَلى اللَّهِ، سَبَّبَ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿فَيَقُولَ﴾ سائِلًا في الرَّجْعَةِ، وأشارَ إلى تَرْقِيقِها لِلْقُلُوبِ بِقَوْلِهِ: ﴿رَبِّ لَوْلا﴾ أيْ هَلْ لا ولِمَ لا ﴿أخَّرْتَنِي﴾ أيْ أخَّرْتُ مَوْتِي إمْهالًا لِي ﴿إلى أجَلٍ﴾ أيْ زَمانٍ، وبَيَّنَ أنَّ مُرادَهُ اسْتِدْراكَ ما فاتَ لَيْسَ إلّا بِقَوْلِهِ: ﴿قَرِيبٍ فَأصَّدَّقَ﴾ أيْ لِلتَّزَوُّدِ في سَفَرِي هَذا الطَّوِيلِ الَّذِي أنا مُسْتَقْبَلُهُ، قالَ الغَزالِيُّ في كِتابِ التَّوْبَةِ مِنَ الإحْياءِ: قالَ بَعْضُ العارِفِينَ: إنَّ مَلَكَ المَوْتِ إذا ظَهَرَ لِلْعَبْدِ أعْلَمَهُ أنَّهُ قَدْ بَقِيَ مِن عُمْرِكَ ساعَةٌ، وأنَّكَ لا تَسْتَأْخِرُ عَنْها طَرْفَةَ عَيْنٍ فَيَبْدُو لِلْعَبْدِ مِنَ الأسَفِ والحَسْرَةِ مِمّا لَوْ كانَتْ لَهُ الدُّنْيا بِحَذافِيرِها لَخَرَجَ مِنها عَلى أنْ يَضُمَّ إلى تِلْكَ السّاعَةِ ساعَةً أُخْرى لِيَسْتَعْتِبَ فِيها (p-٩٥)ويَتَدارَكُ تَفْرِيطَهُ، يَقُولُ: يا مَلَكَ المَوْتِ! أخِّرْنِي يَوْمًا أعْتَذِرُ فِيهِ إلى رَبِّي وأتُوبُ وأتَزَوَّدُ فِيها صالِحًا لِنَفْسِي، [فَيَقُولُ]: فَنِيَتِ السّاعاتُ فَلا ساعَةَ، فَيُغْلِقُ عَلَيْهِ بابَ التَّوْبَةِ فَيَتَغَرْغَرُ بِرُوحِهِ وتُرَدِّدُ أنْفاسُهُ في شَراسِيفِهِ ويَتَجَرَّعُ غُصَّةَ اليَأْسِ عَنِ التَّدارُكِ وحَسْرَةِ النَّدامَةِ عَلى تَضْيِيعِ العُمْرِ، فَيَضْطَرِبُ أصْلُ إيمانِهِ في صَدَماتِ تِلْكَ الأهْوالِ، فَإذا زَهَقَتْ نَفْسُهُ فَإنْ كانَ سَبَقَتْ لَهُ [مِنَ] اللَّهِ الحُسْنى خَرَجَتْ رُوحُهُ عَلى التَّوْحِيدِ، فَذَلِكَ حُسْنُ الخاتِمَةِ، وإنْ سَبَقَ لَهُ القَضاءُ بِالشِّقْوَةِ والعِياذُ بِاللَّهِ تَعالى خَرَجَتْ رُوحُهُ عَلى الشَّكِّ والِاضْطِرابِ، وذَلِكَ سُوءُ الخاتِمَةِ، ومَن تَرَكَ المُبادَرَةَ إلى التَّوْبَةِ بِالتَّسْوِيفِ كانَ بَيْنَ خَطَرَيْنِ عَظِيمَيْنِ: أحَدُهُما أنْ تَتَراكَمَ الظُّلْمَةُ عَلى قَلْبِهِ مِنَ المَعاصِي حَتّى يَصِيرَ رَيْنًا وطَبْعًا فَلا يَقْبَلُ المَحْوَ، الثّانِي أنْ يُعاجِلَهُ المَرَضُ أوِ المَوْتُ فَلا يَجِدُ مُهْلَةً لِلِاشْتِغالِ بِالمَحْوِ، فَيَأْتِي اللَّهُ تَعالى بِقَلْبٍ غَيْرِ سَلِيمٍ، والقَلْبُ أمانَةُ اللَّهِ عِنْدَ عَبْدِهِ، قالَ بَعْضُ العارِفِينَ: إنَّ لِلَّهَ تَعالى إلى عَبْدِهِ سِرَّيْنِ عَلى سَبِيلِ الإلْهامِ: أحَدُهُما إذا خَرَجَ مِن بَطْنِ أُمِّهِ يَقُولُ لَهُ: عَبْدِي قَدْ أخْرَجْتُكَ إلى الدُّنْيا طاهِرًا نَظِيفًا واسْتَوْدَعْتُكَ وائْتَمَنتُكَ عَلَيْهِ فانْظُرْ كَيْفَ تَحْفَظُ الأمانَةَ وانْظُرْ كَيْفَ تَلْقانِي، والثّانِي عِنْدَ خُرُوجِ رُوحِهِ يَقُولُ: عَبْدِي ماذا صَنَعْتَ في أمانَتِي [عِنْدَكَ] (p-٩٦)هَلْ حَفِظْتَها حَتّى تَلْقانِي عَلى العَهْدِ فَألْقاكَ عَلى الوَفاءِ أوْ أضَعْتَها فَألْقاكَ بِالمُطالَبَةِ والعَذابِ.
ولَعَلَّهُ أدْغَمَ تاءَ التَّفَعُّلِ إشارَةً إلى أنَّهُ إذا أخَّرَ فِعْلَ ذَلِكَ عَلى وجْهِ [الإخْفاءِ لِيَكُونَ أفْضَلَ، أوْ يَكُونُ إدْغامُها اخْتِصارًا لِبُلُوغِ الأمْرِ إلى حَدٍّ مُحْوِجٍ إلى] الإيجازِ في القَوْلِ كَما طَلَبَ في الزَّمَنِ، ويُؤَيِّدُهُ قِراءَةُ الجَماعَةِ غَيْرَ أبِي عَمْرٍو ﴿وأكُنْ﴾ بِالجَزْمِ عَطْفًا عَلى الجَوابِ الَّذِي هَدى السِّياقَ إلى تَقْدِيرِهِ، فَإنَّ حالَ هَذا [الَّذِي] أشَرَّفَ هَذا الإشْرافَ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ أرادَ إنْ ”أخَّرْتَنِي أتَصَدَّقُ“ ولَكِنَّهُ حَذَفَهُ لِضِيقِ المَقامِ عَنْهُ واقْتِضاءِ الحالِ لِحَذْفِهِ، وهو مَعْنى ما حَكاهُ سِيبَوَيْهِ عَنِ الخَلِيلِ أنَّ الجَزْمَ عَلى تَوَهُّمِ الشَّرْطِ الَّذِي [دَلَّ] عَلَيْهِ التَّمَنِّي عَلى المَوْضِعِ، فَإنَّ الجازِمَ غَيْرُ مَوْجُودٍ، ومَعْنى ما قالَ غَيْرُهُ أنَّ ”لَوْلا“ لِكَوْنِها تَحْضِيضِيَّةً مُتَضَمِّنَةً مَعْنى الأمْرِ ومَعْنى الشَّرْطِ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: أخِّرْنِي، فَيَكُونُ جَوابُهُ العارِي عَنِ الفاءِ مَجْزُومًا لَفْظًا والمَقْرُونُ بِها مَجْزُومًا مُحَلًّا فَ ”اكْنِ“ عَطْفٌ عَلى المَحَلِّ، ونَصَبَ أبُو عَمْرٍو عَطْفًا عَلى اللَّفْظِ لِأنَّهُ جَوابُ التَّمَنِّي الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ ”لَوْلا“ وإجْماعُ المَصاحِفِ عَلى حَذْفِ الواوِ لا يَضُرُّهُ لِأنَّهُ قالَ: إنَّها لِلِاخْتِصارِ، وهو ظاهِرٌ، وذَلِكَ لِلْمُناسَبَةِ بَيْنَ اللَّفْظِ والخَطِّ والزَّمانِ والمُرادِ، ومِن هُنا تَعْرِفُ جَلالَةَ (p-٩٧)القُرّاءِ ومُرادُهم إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى بِقَوْلِهِمْ في الضّابِطِ المَشْهُورِ وإنْ تَوافَقَ رَسْمُ المُصْحَفِ ولَوِ احْتِمالًا ﴿مِنَ الصّالِحِينَ﴾ أيِ العَرِيقِينَ في هَذا الوَصْفِ العَظِيمِ، وزادَ في الحَثِّ عَلى المُبادَرَةِ بِالطّاعاتِ قَبْلَ الفَواتِ بِقَوْلِهِ مُؤَكِّدًا لِأجَلٍ عَظِيمِ الرَّجاءِ مِن هَذا المُحْتَضَرِ لِلتَّأْخِيرِ عَطْفًا عَلى [ما] تَقْدِيرُهُ: فَلا يُؤَخِّرُهُ اللَّهُ فَيَفُوتُهُ ما أرادَ:
{"ayah":"وَأَنفِقُوا۟ مِن مَّا رَزَقۡنَـٰكُم مِّن قَبۡلِ أَن یَأۡتِیَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ فَیَقُولَ رَبِّ لَوۡلَاۤ أَخَّرۡتَنِیۤ إِلَىٰۤ أَجَلࣲ قَرِیبࣲ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق