الباحث القرآني

ولَمّا كانَتِ القُدْرَةُ عَلى تَزْكِيَةِ الجِلْفِ الجافِي [بِحَمْلِهِ] عَلى التَّنْزِيهِ أدَلُّ عَلى القُدْرَةِ عَلى غَيْرِهِ، وكانَ قَدْ أسْلَفَ عَنْ بَنِي إسْرائِيلَ أنَّهم لَمْ يَقْبَلُوا التَّزْكِيَةَ بَلْ زاغُوا، دَلَّ عَلى قُدْرَتِهِ في عِزَّتِهِ وحِكْمَتِهِ ومِلْكِهِ وقُدْسِهِ عَلى تَزْكِيَةِ جَمِيعِ العُقَلاءِ بِقَوْلِهِ: ﴿هُوَ﴾ أيْ وحْدَهُ ﴿الَّذِي بَعَثَ﴾ أيْ مِن حَضْرَةِ غَيْبٍ غَيَّبَهُ بِشَرْعِ أوامِرِهِ ونَواهِيهِ ﴿فِي الأُمِّيِّينَ﴾ أيِ العَرَبِ لِأنَّهم كانُوا مَعْرُوفِينَ مِن بَيْنِ سائِرِ الأُمَمِ لا يَكْتُبُونَ بَلْ هم عَلى الخِلْقَةِ الأوْلى حِينَ الخُرُوجِ مِن بَطْنِ الأُمِّ، وذَكَرَ ظَرْفُ البَعْثِ وإهْمالُ غايَتِهِ دالٌّ عَلى أنَّها كُلٌّ مَن يَتَأتّى البَعْثُ إلَيْهِ وهم جَمِيعُ الخَلْقِ، ويَجُوزُ أنْ تُطْلَقَ الأُمِّيَّةُ عَلى جَمِيعِ أهْلِ الأرْضِ لِأنَّ بَعْثَهُ ﷺ كانَ حِينَ ذَهَبَ العِلْمُ مِنَ النّاسِ، ولِأنَّ العَرَبَ أصْلٌ فَجَمِيعُ الباقِينَ تَبَعٌ لَهُمْ، فَلا بِدَعَ أنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِمْ وصْفَهم ﴿رَسُولا﴾ ولَمّا كانَ تَقْوِيمُ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ أعْجَبَ قالَ: ﴿مِنهُمْ﴾ بَلِ الأُمِّيَّةُ [بِمَعْنى] عَدَمِ الكِتابَةِ والتَّجَرُّدِ عَنْ كُلِّ تَكَلُّفِ وصْفٍ لازِمٍ لَهُ دائِمًا وعِلْمِهِ لِما يَكُنْ يَعْلَمُ مِن غَيْرِ تَطَلُّبٍ، فَكانَتْ آثارُ البَشَرِيَّةِ عِنْدَ مُنْدَرَسِهِ، وأنْوارِ الحَقائِقِ عَلَيْهِ لائِحَةٌ، وذَلِكَ يَتَوَهَّمُ الِافْتِقارَ إلى الِاسْتِعانَةِ بِالكُتُبِ لِأنَّ مَنشَأ (p-٤٩)مُشاكَلَتِهِ لِحالِ مَن بُعِثَ فِيهِمْ أقْرَبُ إلى مُساواتِهِمْ لَهُ لَوْ أمْكَنَهُمْ، فَيَكُونُ عَدَمُ إمْكانِ المُساواةِ أدُلَّ عَلى الإعْجازِ، وذَكَرَ [بَعْثَهُ] مِنهم إنْ خُصَّ الوَصْفُ بِالعَرَبِ لا يَنْفِي بَعْثَهُ إلى غَيْرِهِمْ ولا سِيَّما مَعَ ما ورَدَ فِيهِ مِنَ الصَّرائِحِ وأثْبَتَهُ مِنَ الدَّلائِلِ القَواطِعِ، فَذَكَرَ مَوْضِعَ البَعْثِ وابْتِداءَهُ فَتَكُونُ الغايَةُ مُطْلَقَةً تَقْدِيرُها: إلى عامَّةِ الخَلْقِ. ولَمّا كانَ كَوْنُهُ مِنهم مُفْهِمًا [لِأنَّهُ لا يَزِيدُ عَلَيْهِمْ مِن حَيْثُ كَوْنُهُ مِنهُمْ] وإنْ زادَ فَبِشَيْءٍ يَسِيرٍ، عَجِبَ مِن أمْرِهِ ونَبَّهَ عَلى مُعْجِزَةٍ عَظِيمَةٍ لَهُ بِقَوْلِهِ مُسْتِأْنِفًا: ﴿يَتْلُو﴾ أيْ يَقْرَأُ قِراءَةً يَتْبَعُ بَعْضُها بَعْضًا عَلى وجْهِ الكَثْرَةِ والعُلُوِّ والرِّفْعَةِ ﴿عَلَيْهِمْ﴾ مَعَ كَوْنِهِ أُمِّيًّا مِثْلَهم ﴿آياتِهِ﴾ أيْ يَأْتِيهِمْ بِها عَلى سَبِيلِ التَّجَدُّدِ والمُواصَلَةِ آيَةً بَيِّنَةً عَلى صِدْقِهِ لِأنَّهُ أُمِّيٌّ مِثْلَهم بَلْ فِيهِمُ الكاتِبُ والعالِمُ وإنْ كانُوا مَعْمُورِينَ في كَثْرَتِهِمْ [فَما] خَصَّهُ عَنْهم بِذَلِكَ إلّا القادِرُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ. ولَمّا كانَ المَقامُ لِلتَّنْزِيهِ [ولِتَأْدِيبِ مَن وقَعَ في مُوادَّةِ الكُفّارِ ونَحْوِ ذَلِكَ، قَدَّمَ التَّزْكِيَةَ فَقالَ]: ﴿ويُزَكِّيهِمْ﴾ أيْ عَنِ الأخْلاقِ الرَّذِيلَةِ والعَقائِدِ الزّائِغَةِ، فَكانَتْ تَزْكِيَتُهُ لَهم مُدَّةَ حَياتِهِ بِنَظَرِهِ الشَّرِيفِ إلَيْهِمْ وتَعْلِيمِهِ لَهم وتِلاوَتِهِ عَلَيْهِمْ، فَرُبَّما نَظَرَ إلى الإنْسانِ نَظْرَةَ مَحَبَّةٍ فَزَكّاهُ (p-٥٠)اللَّهُ بِها، ورُبَّما سَرَتْ تِلْكَ النَّظْرَةُ إلى ثانٍ فَأشْرَقَتْ أنْوارُها عَلَيْهِ عَلى حَسَبِ القابِلِيّاتِ كَما وقَعَ لِعُمَيْرِ بْنِ وهْبٍ ثُمَّ صَفْوانَ بْنِ أُمِّيَّةَ وكَذا ذُو النُّورِ الطُّفَيْلُ بْنُ عامِرِ الدَّوْسِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ قَوَّمَهُ، فَأمّا عُمَيْرٌ فَكانَ مِن أعْظَمِ المُؤْذِينَ لِلنَّبِيِّ ﷺ ولِمَن آمَنَ بِهِ فَتَذاكَرَ مَعَ صَفْوانَ وقْعَةَ بَدْرٍ في الحِجْرِ ومَن فَقَدُوا مِن صَنادِيدِهِمْ وأنَّهُ لَيْسَ في العَيْشِ بَعْدَهم خَيْرٌ، ثُمَّ تَمَنَّوْا رَجُلًا بِقِتالِ النَّبِيِّ ﷺ، فَقالَ عُمَيْرُ: لَوْلا فَقْرِي وبَناتٌ لِي وعِيالٌ أخْشى عَلَيْهِمُ الضَّيْعَةَ مِن بَعْدِي لَأتَيْتُهُ بَغْلَةَ أسِيرِي عِنْدَهم فَقَتَلْتُهُ، فاغْتَنَمَها صَفْوانُ فَعاهَدَهُ أنْ يَكْفِيَ عِيالَهُ إنْ ماتَ وأنْ يُواسِيَهُ إنْ عاشَ، فَقالَ: اكْتُمْ عَنِّي ثَلاثًا، ثُمَّ ذَهَبَ إلى النَّبِيِّ ﷺ فَهَداهُ اللَّهُ فَحَلَفَ صَفْوانُ أنْ لا يُكَلِّمَهُ أبَدًا، فَلَمّا فُتِحَتْ مَكَّةُ فَرَّ صَفْوانُ لِيَرْكَبَ البَحْرَ مِن جَدَّةَ، فاسْتَأْذَنَ عُمَيْرُ النَّبِيَّ ﷺ ثُمَّ ذَهَبَ إلَيْهِ فَلَحِقَهُ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتّى رَجَعَ ثُمَّ أسْلَمَ فَكانَ مِن خِيارِ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وأمّا ذُو النُّورِ فَحِينَ دَعاهُ النَّبِيُّ ﷺ ثُمَّ سَألَ آيَةً يُعِينُهُ اللَّهُ بِها عَلى قَوْمِهِ فَآتاهُ اللَّهُ نُورًا حِينَ أشْرَفَ عَلى الحَيِّ الَّذِي هو مِنهُ، ثُمَّ دَعا أباهُ وأُمَّهُ فَأسْلَما، ثُمَّ صاحَبَتْهُ فَكَذَلِكَ ثُمَّ قَوَّمَهُ، فَما تَخَلَّفَ مِنهم أحَدٌ، وأمّا غَيْرُ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم فَتَزْكِيَتُهُ لَهم بِآثارِهِ بِحَسَبِ القابِلِيّاتِ والأُمُورِ الَّتِي قَضى اللَّهُ أنْ يَكُونَ مُهَيَّأً، فَمَن كانَ لَهُ أعْشَقُ كانَ لِاتِّباعِهِ ألْزَمٌ، فَكانَ في كِتابِ اللَّهِ وسُنَّتِهِ أرْسَخُ مِن (p-٥١)سِيرَةٍ وغَيْرِها عِلْمًا وعَمَلًا فَكانَ أشَدَّ زُكاءً. ولَمّا كانُوا بَعْدَ التَّزْكِيَةِ الَّتِي هي تَخْلِيَةٌ عَنِ الرَّذائِلِ أحْوَجَ ما يَكُونُ إلى تَحْلِيَةٍ بِالفَضائِلِ قالَ: ﴿ويُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ﴾ أيِ المُنَزَّلِ عَلَيْهِ الجامِعِ لِكُلِّ خَيْرٍ دِينِيٍّ ودُنْيَوِيٍّ في الأُولى والأُخْرى ﴿والحِكْمَةَ﴾ وهي غايَةُ الكِتابِ في قُوَّةِ فَهْمِهِ والعَمَلِ بِهِ، فَهي العِلْمُ المُزَيَّنُ بِالعَمَلِ [والعَمَلُ] المُتْقَنُ بِالعِلْمِ مَعْقُولِهِ ومَنقُولِهِ لِيَضَعُوا كُلَّ شَيْءٍ مِنهُ في أحْكَمِ مَواضِعِهِ فَلا يَزِيغُوا عَنِ الكِتابِ كَما زاغَ بَنُو إسْرائِيلَ، فَيَكُونُ مَثَلُهم كَمَثَلِ الحِمارِ يَحْمِلُ أسْفارًا و[لَوْ] لَمْ يَكُنْ لَهُ ﷺ [مُعْجِزَةٌ] إلّا هَذِهِ لَكانَتْ غايَةً. ولَمّا كانَ الوَصْفُ بِالأُمِّيَّةِ مُفْهِمًا لِلضَّلالِ، وكانَ كَثِيرٌ مِنهم حالَ إنْزالِ هَذِهِ السُّورَةِ يَعْتَقِدُ أنَّهم عَلى دِينٍ مَتِينٍ وحالٍ جَلِيلٍ مُبَيَّنٍ، وكانُوا بَعْدَ هِدايَتِهِ لَهم بَعْدَ الأُمِّيَّةِ سَيَضِلُّونَ لِأنَّ الإرْسالَ مِن حَضْرَةِ غَيْبِ الغَيْبِ في العُلُومِ المُنافِيَةِ لِلْأُمِّيَّةِ إلى ما لَمْ تَصِلْ إلَيْهِ أُمَّةٌ مِنَ الأُمَمِ قَبْلَهُمْ، وكانَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِلتَّوَقُّفِ في كَوْنِهِمْ كانُوا أُمِّيِّينَ، أكَّدَ هَذا المَفْهُومَ بِقَوْلِهِ: (p-٥٢)﴿وإنْ﴾ أيْ والحالُ أنَّهم ﴿كانُوا﴾ أيْ كَوْنًا هو كالجِبِلَّةِ لَهم. ولَمّا كانَ كَوْنُهم ذَلِكَ في بَعْضِ الزَّمَنِ الماضِي، أدْخَلَ الجارَّ فَقالَ: ﴿مِن قَبْلُ﴾ أيْ قَبْلَ إرْسالِهِ إلَيْهِمْ مِن حِينِ غَيَّرُوا دِينَ أبِيهِمْ إسْماعِيلَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وعَبَدُوا الأصْنامَ ﴿لَفِي ضَلالٍ﴾ أيْ بُعْدٍ عَنِ المَقْصُودِ ﴿مُبِينٍ﴾ أيْ ظاهِرٍ في نَفْسِهِ مُنادٍ لِغَيْرِهِ أنَّهُ ضَلالٌ بِاعْتِقادِهِمُ الأباطِيلَ الظّاهِرَةَ وظَنِّهِمْ أنَّهم عَلى شَيْءٍ وعُمُومِ الجَهْلِ لَهم ورِضاهم بِهِ واخْتِيارُهم لَهُ وعَيْبُهم مَن يَمِيلُ إلى التَّعَلُّمِ ويَنْحُو نَحْوَ التَّبَصُّرِ كَما وقَعَ لَهم مَعَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ وغَيْرِهِ، فَوَصْفُهم بِهَذا غايَةً في نَفْيِ التَّعَلُّمِ مِن مَخْلُوقٍ عَنْ نَبِيِّهِمْ إعْظامًا لِما جاءَ بِهِ مِنَ الإعْجازِ وتَقْرِيرًا لِشِدَّةِ احْتِياجِهِمْ إلى نَبِيٍّ يُرْشِدُهم إلى الهُدى، ويُنْقِذُهم مِمّا كانُوا فِيهِ مِنَ العَمى والرَّدى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب