الباحث القرآني
(p-٤٤)سُورَةُ الجُمْعَةِ
مَقْصُودُها بَيانُ مُسَمّى الصَّفِّ بِدَلِيلٍ هو أوْضَحُ شَرائِعِ الدِّينِ وأوْثَقُ عُرى الإسْلامِ وهو الجُمْعَةُ الَّتِي اسْمُها مُبَيِّنٌ لِلْمُرادِ مِنها مِن فَرْضِيَّةِ الِاجْتِماعِ فِيها وإيجابِ الإقْبالِ عَلَيْها وهو التَّجَرُّدُ عَنْ غَيْرِها والِانْقِطاعُ لِما وقَعَ مِنَ التَّفَرُّقِ حالَ الخُطْبَةِ عَمَّنْ بَعَثَ لِلتَّزْكِيَةِ بِالِاجْتِماعِهِ عَلَيْهِ في الجِهادِ وغَيْرِهِ في العُسْرِ واليُسْرِ والمَنشَطِ والمَكْرَهِ، واسْمُها الجُمْعَةُ أنْسَبُ شَيْءٍ فِيها لِهَذا المَقْصِدِ بِتَدَبُّرِ آياتِهِ وتَأمُّلِ أوائِلِهِ وغاياتِهِ، الحاثَّةِ عَلى قُوَّةِ التَّواصُلِ والِاجْتِماعِ، والحامِلَةِ عَلى دَوامِ الإقْبالِ عَلى المُزَكِّي والحُبِّ لَهُ والِاتِّباعِ ”بِسْمِ اللَّهِ“ الَّذِي [أحاطَ] عِلْمُهُ بِكُلِّ مَعْلُومٍ فَتَمَّ بَيانُهُ ”الرَّحْمَنِ“ الَّذِي عَمَّتْ نِعْمَةُ بَيانِهِ بَعْدَ شُمُولِ كَرامَةِ إيجادِهِ فَهو العَظِيمُ شَأْنُهُ ”الرَّحِيمِ“ الَّذِي خَصَّ حِزْبَهُ بِالتَّوْفِيقِ لِما يَرْضاهُ فَثَبَتَ في سُوَيْداءَ كُلٍّ مِنهم حُبُّهُ لَهُ وإيمانُهُ بِهِ.
* * *
ولَمّا خُتِمَتِ الصَّفُّ بِالإقْبالِ بِبَعْضِ بَنِي إسْرائِيلَ عَلى جَنابِهِ الأقْدَسِ بَعْدَ أنْ زاغُوا فَأزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهم كُلَّهم أوِ الشّاذَّ مِنهم بِما أفْهَمَهُ إطْلاقُ الضَّمِيرِ عَلَيْهِمْ ثُمَّ تَأْيِيدُهم عَلى مَنِ اسْتَمَرَّ مِنهم عَلى الزَّيْغِ، فَثَبَتَ أنَّ لَهُ (p-٤٥)تَمامَ القُدْرَةِ المُسْتَلْزِمِ لِشُمُولِ العِلْمِ اللّازِمِ مِنهُ التَّنَزُّهُ عَنْ كُلِّ شائِبَةِ نَقْصٍ، وكانَ سُبْحانَهُ قَدْ ذَكَرَ التَّسْبِيحَ الَّذِي هو الأعْظَمُ الأشْهَرُ لِلتَّنْزِيهِ بِلَفْظِ الماضِي ثَلاثَ مَرّاتٍ في افْتِتاحِ ثَلاثِ سُوَرٍ، وذَلِكَ نِهايَةُ الإثْباتِ المُؤَكَّدِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّهُ وقَعَ تَنْزِيهُهُ مِن كُلِّ ناطِقٍ وصامِتٍ، أخْبَرَ أوَّلَ هَذِهِ السُّورَةِ أنَّ ذَلِكَ التَّنْزِيهَ عَلى وجْهِ التَّجْدِيدِ والِاسْتِمْرارِ بِالتَّعْبِيرِ بِالمُضارِعِ لِاسْتِمْرارِ مُلْكِهِ فَقالَ: ﴿يُسَبِّحُ﴾ أيْ يُوقِعُ التَّنْزِيهَ الأعْظَمَ الأبْهى الأكْمَلَ ﴿لِلَّهِ﴾ أيِ المَلِكِ المُحِيطِ بِكُلِّ شَيْءٍ قُدْرَةً وعِلْمًا، وأكَدَّ بِذَلِكَ لِما في التَّغابُنِ ولَمْ يَحْتَجْ بَعْدَ الإقْرارِ بِالوُقُوعِ عَلى هَذا الوَجْهِ إلى التَّأْكِيدِ بِأكْثَرِ مِن مَرَّةٍ وجَعَلَ بَيْنَ كُلِّ مِسْبَحَتَيْنِ سُورَةً خالِيَةً مِن ذَلِكَ لِيَكُونَ ذَلِكَ أدُلُّ عَلى قَصْدِ التَّأْكِيدِ مِن حَيْثُ شِدَّةُ الِاعْتِناءِ بِالذِّكْرِ، وإنَّ وقَعَ فَصْلٌ ويَكُونُ التَّأْكِيدُ أكْثَرَ تَنْبِيهًا وأعْظَمَ صَدْعًا وتَذْكِيرًا.
ولَمّا كانَ تَقْرِيعُ العاقِلِ النّاطِقِ بِطاعَةِ الصّامِتِ أعْظَمَ، قالَ: ﴿ما في السَّماواتِ﴾ وإنْ كانَ العاقِلُ يَدْخُلُ في ذَلِكَ ما عَلَيْهِ فَيَكُونُ تَسْبِيحُهُ تارَةً طَوْعًا مُوافَقَةً لِلْأمْرِ، وتارَةً كُرْهًا بِالِانْقِيادِ مَعَ الإرادَةِ، وتَسْبِيحُ الصّامِتِ طَوْعًا في كُلِّ حالٍ. ولَمّا كانَ الخِطابُ مَعَ الَّذِينَ آمَنُوا، دَعا ذَلِكَ إلى التَّأْكِيدِ لِاحْتِياجِهِمْ إلَيْهِ فَقالَ: ﴿وما في الأرْضِ﴾ كَذَلِكَ. (p-٤٦)ولَمّا ثَبَتَ بِالسُّوَرِ الثَّلاثِ الماضِيَةِ أنَّ المَوْجُوداتِ أوْقَعَتْ لَهُ التَّسْبِيحَ، وأخْبَرَتْ هَذِهِ بِاسْتِمْرارِ ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ التَّجْدِيدِ، دَلَّ ذَلِكَ مَعَ التَّنْزِيهِ عَنِ النَّقائِصِ عَلى إثْباتِ الكَمالِ الَّذِي لا يَكُونُ إلّا لِمَلِكٍ عَظِيمِ الشَّأْنِ مُطاعِ الأمْرِ، وكانَ الِاقْتِصارُ عَلى الصّامِتِ بِالتَّعْبِيرِ بِما هو ظاهِرٌ فِيهِ رُبَّما أوْهَمَ شَيْئًا، قالَ مُصَرِّحًا بِما أفْهَمَهُ السِّياقُ: ﴿المَلِكِ﴾ أيِ الَّذِي ثَبَتَتْ لَهُ جَمِيعُ الكَمالاتِ فَهو يَنْصُرُ مَن يَشاءُ مِن جُنْدِهِ ولَوْ كانَ ذَلِيلًا فَيُصْبِحُ ظاهِرًا ﴿القُدُّوسِ﴾ الَّذِي انْتَفَتْ عَنْهُ جَمِيعُ النَّقائِصِ، فَلا يَكُونُ شَيْءٌ إلّا بِإذْنِهِ وتَنَزَّهَ عَنْ إحاطَةِ أحَدٍ مِنَ الخَلْقِ بِعِلْمِهِ أوْ إدْراكِ كُنْهِ ذاتِهِ فَلَيْسَ في أيْدِي الخَلْقِ إلّا التَّرَدُّدُ في شُهُودِ أفْعالِهِ، والتَّدَبُّرِ لِمَفاهِيمِ نُعُوتِهِ وجَلالِهِ، وأحَقِّهِمْ بِالقُرْبِ والعِدادِ في حِزْبِهِ المُتَخَلِّقِ بِأوْصافِهِ عَلى قَدْرِ اجْتِهادِهِ، فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ التَّنَزُّهُ عَنْ أنْ يَقُولَ ما لا يَفْعَلُ أوْ يَبْنِي شَيْئًا مِن أُمُورِهِ عَلى غَيْرِ إحْكامٍ، وقَدْ مَضى شَرْحُ الِاسْمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ قَرِيبًا وذَكَرَ خُلاصَةَ [شَرْحِهِما] بِما هو خاصَّةُ المُلْكِ وآيَةُ الطَّهارَةِ لِلطّاهِرِ فَقالَ: ﴿العَزِيزِ﴾ أيِ الَّذِي يَغْلِبُ كُلَّ شَيْءٍ، لا يَغْلِبُهُ شَيْءٌ، فَلَوْ أرادَ لَجَعَلَ العُقَلاءَ كُلَّهم أيْضًا مَعَ تَسْبِيحِهِمْ بِالجَرْيِ تَحْتَ مُرادِهِ طَوْعًا وكُرْهًا مُسَبِّحِينَ بِالمُوافَقَةِ لِأمْرِهِ طَوْعًا ﴿الحَكِيمِ﴾ الَّذِي يُوقِعُ كُلَّ ما أرادَهُ في أحْكَمِ (p-٤٧)مَواقِعِهِ وأتِمِّها وأتْقَنِها.
وقالَ الإمامُ أبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ: لَمّا خُتِمَتْ سُورَةُ الصَّفِّ بِالثَّناءِ عَلى الحَوارِيِّينَ في حُسْنِ اسْتِجابَتِهِمْ وجَمِيلِ إيمانِهِمْ، وقَدْ أمَرَ المُؤْمِنِينَ بِالتَّشَبُّهِ بِهِمْ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَن أنْصارِي إلى اللَّهِ﴾ [الصف: ١٤] الآيَةُ، كانَ ذَلِكَ مِمّا يُوهِمُ فَضْلَ أتْباعِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ عَلى أتْباعِ مُحَمَّدٍ ﷺ فاتَّبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ هَذِهِ الأُمَّةِ، والثَّناءِ عَلَيْها، فافْتُتِحَتِ السُّورَةُ بِالتَّنْزِيهِ عَمّا أشارَ إلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿وكَفَرَتْ طائِفَةٌ﴾ [الصف: ١٤] فَإنَّهُمُ ارْتَكَبُوا العَظِيمَةَ وقالُوا بِالنُّبُوَّةِ، فَنَزَّهَ سُبْحانَهُ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ [ثُمَّ] قالَ: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ في الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِنهُمْ﴾ [الجمعة: ٢] إلى قَوْلِهِ: ﴿ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ﴾ [الجمعة: ٤] ثُمَّ أعْلَمُ تَعالى بِحالِ طائِفَةٍ لاحَ لَهم نُورُ الهُدى ووَضَحَ لَها سَبِيلُ الحَقِّ فَعَمِيَتْ عَنْ ذَلِكَ وارْتَبَكَتْ في ظُلُماتِ جَهْلِها ولَمْ تَزْدَدْ بِما حَمَلَتْ إلّا حِيرَةٌ وضَلالَةٌ فَقالَ تَعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الحِمارِ يَحْمِلُ أسْفارًا﴾ [الجمعة: ٥] الآياتُ وهي في مَعْرِضِ التَّنْبِيهِ لِمَن تَقَدَّمَ الثَّناءُ عَلَيْهِ ورَحِمَهُ اللَّهُ إيّاهُ لِئَلّا يَكُونُوا فِيما يَتْلُو عَلَيْهِمْ نَبِيُّهم مِنَ الآياتِ ويُعَلِّمُهم مِنَ الكِتابِ والحِكْمَةِ مِثْلَ أُولَئِكَ المُمْتَحِنِينَ، فَإنَّهم مُقِتُوا ولُعِنُوا بَعْدَ حَمْلِهِمُ التَّوْراةَ، وزَعَمُوا أنَّهُمُ التَزَمُوا حَمْلَهُ والوَفاءَ بِهِ فَوَعَظَ هَؤُلاءِ بِمِثالِهِمْ لُطْفًا مِنَ اللَّهِ (p-٤٨)لِهَذِهِ الأُمَّةِ، وما يَذْكُرُ إلّا أوَّلُو الألْباب انْتَهى.
{"ayah":"یُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِ ٱلۡمَلِكِ ٱلۡقُدُّوسِ ٱلۡعَزِیزِ ٱلۡحَكِیمِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق