الباحث القرآني

(p-٩)ولَمّا كانَ التَّخَلُّفُ عَنْ أمْرِ اللَّهِ تَعالى والغَفْلَةُ عَنْ شَيْءٍ يُؤَدِّي تَرْكُهُ إلى التَّهاوُنِ بِهِ والإخْلالِ بِأدَبٍ مِن آدابِهِ مُوجِبًا لِلْكَوْنِ في صَفِّ الشَّيْطانِ ومُفارَقَةِ حِزْبِ الرَّحْمَنِ، فَيَكُونُ أذى الرَّسُولِ ﷺ، فَيُوجِبُ ذَلِكَ الشَّقاءَ كُلَّهُ لِأنَّهُ جَدِيرٌ بِأنْ يَجُرَّ إلى أكْبَرِ مِنهُ إلى أنْ تُحِيطَ الخَطايا فَتُبِيحُ الرَّزايا، وكانَ لِلتَّذْكِيرِ بِالمُشاهَداتِ والأُمُورِ الواقِعاتِ ما لَيْسَ لِغَيْرِهِ في التَّأْدِيبِ ومَرْجِعِ التَّرْهِيبِ، ذَكَرَ بِما كانَ لِبَنِي إسْرائِيلَ تَرْهِيبًا مِن مِثْلِ حالِهِمْ، لِئَلّا يُوقِعَ في نَكالِهِمْ، حِينَ تَقاعَسُوا عَمّا أمَرُوا بِهِ مِن فَتْحِ بَيْتِ المَقْدِسِ مِنَ اللَّهِ تَعالى غَضِبَ مِن فِعْلِهِمْ ذَلِكَ فَسَمّاهم فاسِقِينَ وضَرَبَهم بِالتِّيهِ أرْبَعِينَ سَنَةً، وأماتَ في تِلْكَ الأرْبَعِينَ كُلَّ مَن تَوانى مِنهم في ذَلِكَ، فَلَمْ يَدْخُلْ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ مِنهم أحَدٌ، فَحَرَّمُوا البِلادَ الَّتِي تَقاعَدُوا عَنْ فَتْحِها، وهي بَعْدُ مَكَّةُ والمَدِينَةُ خَيْرُ بِلادِ اللَّهِ تَعالى ومُهاجِرُ أبِيهِمْ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ومَواطِنُ أبَوَيْهِما إسْحاقُ ويَعْقُوبُ عَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ وأنْزَهُ الأرْضِ، وأكْثَرُها خَيْرًا وأبْرَكُها، مَعَ ما كانُوا فِيهِ مِنَ الضِّيقِ والنَّكَدِ مِنَ التِّيهِ الَّذِي هو طَرْدٌ عَنْ جَنابِ اللَّهِ بِما أرادَ - بِما أشارَ إلَيْهِ التَّعْبِيرُ عَنْ زَمَنِهِ بِالسِّنِينَ - إلى ما أبْقَوْا بُعْدَهم مِن سُوءِ الذِّكْرِ وشَناعَةِ القالَةِ إلى آخِرِ الدَّهْرِ فَقالَ تَعالى: ﴿وإذْ﴾ عَطْفًا عَلى ما تَقْدِيرُهُ: اذْكُرُوا ما فَعَلَ بَعْضُكم - بِما أشَرْتُ إلَيْهِ أوَّلَ هَذِهِ الآياتِ (p-١٠)مِنَ الآدابِ مِن تَنْبِيهِ الكَفّارِ بِما قَدْ يَمْنَعُ مِنَ الفَتْحِ أوْ يَكُونُ سَبَبًا في عُسْرِهِ أوْ [فِي] إهْلاكِ خَلْقٍ [كَثِيرٍ] مِن عِبادِيَ الَّذِينَ خَلَقْتُهم في أحْسَنِ تَقْوِيمٍ مِنَ المُؤْمِنِينَ وغَيْرِهِمْ، أوْ مِنَ الفِرارِ مِنَ الكُفّارِ عِنْدَ المُقارَعَةِ، أوِ التَّقاعُسِ عَنِ اللِّقاءِ عِنْدَ البَعْثِ عَلَيْهِ، فَآذى ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ الَّذِي أذاهُ مِن أذى اللَّهَ فَحَلَمَ عَنْكُمْ، وقَبِلَ بِما لَهُ مِن بَلِيغِ الرَّحْمَةِ بِكم والشَّفَقَةِ عَلَيْكم مِنكُمْ، وكانَ أنْهى ما عاتَبَكم بِهِ مُرْسِلُهُ سُبْحانَهُ النِّداءَ بِما هو أدْنى الأسْنانِ في الإيمانِ في نَظِيرِ إطْلاقِهِ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ الفِسْقَ بِالوَصْفِ المُؤْذِنَ بِالرُّسُوخِ: واذْكُرُوا حِينَ ﴿قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ﴾ وهم - مَعَ كَوْنِهِ مِنهم - مِمَّنْ لَهُ قُوَّةٌ عَلى ما يُحاوِلُونَهُ: ﴿يا قَوْمِ﴾ اسْتِعْطافًا لَهم واسْتِنْهاضًا إلى رِضى رَبِّهِمْ ﴿لِمَ تُؤْذُونَنِي﴾ أيْ تُجَدِّدُونَ إذائِي مَعَ الِاسْتِمْرارِ بِالتَّوانِي في أمْرِ اللَّهِ والتَّقاعُدِ عَنْ فَتْحِ بَيْتِ المَقْدِسِ مَعَ قَوْلِي عَنِ اللَّهِ أنَّكم فاتِحُوها إنْ أطْعَمْتُمُوهُ وأنَّ اللَّهَ أقْسَمَ لِآبائِكم أنَّهُ ما نَحَكُمُوها لا مَحالَةَ. ولَمّا كانَ هَذا الِاسْتِفْهامُ الإنْكارِيُّ مُوجِبًا لِتَوَقُّعٍ ما يَأْتِي بَعْدَهُ مِن مُوجَبِ التَّعْظِيمِ بَدَلُ الأذى، والتَّبْجِيلُ والِانْقِيادُ مَوْضِعُ التَّوَقُّفِ والإباءِ، قالَ مُحَقِّقًا بِحَرْفِ التَّحْقِيقِ مَضْمُونُ الكَلامِ: ﴿وقَدْ﴾ أيْ والحالُ أنَّكم ﴿تَعْلَمُونَ﴾ أيْ عَلِمْتُمْ قَطْعِيًّا مَعَ تَجَدُّدِهِ لَكم في كُلِّ وقْتٍ بِتَجَدُّدِ أسْبابِهِ بِما آتَيْتُكم بِهِ مِنَ المُعْجِزاتِ وبِالكِتابِ الحافِظِ لَكم مِنَ الزَّيْغِ (p-١١)﴿أنِّي رَسُولُ اللَّهِ﴾ أيِ المَلِكِ الأعْظَمِ الَّذِي لا كُفُوءَ لَهُ ورَسُولُهُ أيْضًا يُعَظَّمُ ويُحْتَرَمُ لا أنَّهُ تُنْتَهَكُ جَلالَتُهُ وتُخْتَرَمُ ﴿إلَيْكُمْ﴾ لا أقُولُ لَكم شَيْئًا إلّا عَنْهُ، ولا أنْطِقُ عَنِ الهَوى، فَعِصْيانِي عِصْيانُهُ مَعَ أنِّي ما قُلْتُ لَكم شَيْئًا إلّا تَمَّ، وإنْ كُنْتُمْ قاطِعِينَ بِخِلافِهِ فَهي مَعْصِيَتُهُ لا حامِلَ عَلَيْها أصْلًا إلّا رَداءَةُ الجِبِلّاتِ. ولَمّا تَحَنَّنَ إلَيْهِمْ واسْتَعْطَفَهم وذَكَّرَهم ما يَعْلَمُونَ مِن رُسُلِيَّتِهِ وصِلَتِهِ بِاللَّهِ بِما شاهَدُوا مِنَ الآياتِ الَّتِي هي أعْظَمُ الإحْسانِ إلَيْهِمْ، أعْلَمُ أنَّهم أوْشَكُوا العِصْيانَ، فَقالَ مُعَبِّرًا عَنْ ذَلِكَ بِالفاءِ تَسْبِيبًا عَنْ هَذا القَوْلِ الَّذِي هو أهْلٌ لِأنْ يُسَبِّبَ الثَّباتَ وتَعْقِيبًا وتَقْرِيبًا: ﴿فَلَمّا زاغُوا﴾ أيْ تَحَقَّقَ زَيْغُهم عَنْ قُرْبٍ عَنْ أوامِرِ اللَّهِ في الكِتابِ الآتِي إلَيْهِمْ بِما أبَوْا مِن قَبُولِ أمْرِهِ في الإقْدامِ عَلى الفَتْحِ ﴿أزاغَ اللَّهُ﴾ أيِ الَّذِي لَهُ الأمْرُ كُلُّهُ ﴿قُلُوبَهُمْ﴾ مِنَ الِاسْتِواءِ، وجَمْعُ الكَثْرَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ مِنهم إلّا القَلِيلُ فَهَزَمَهم بَيْنَ يَدَيْ أعْدائِهِمْ وضَرَبَهم بِالتِّيهِ لِأنَّهم فَسَقُوا عَنْ أمْرِ اللَّهِ [فاللَّه] - لا يَهْدِيهِمْ، فَأسْنَدَ الذَّنْبَ إلَيْهِمْ والعُقُوبَةَ إلَيْهِ وإنْ كانَ الكُلُّ فَعَلَهُ تَعْلِيمًا لِعِبادِهِ الأدَبَ وإعْلامًا بِأنَّ أفْعالَهُمُ الِاخْتِيارِيَّةَ يُنْسَبُ إلَيْهِمْ كَسْبُها ويَقُومُ بِهِ الحُجَّةُ عَلَيْهِمْ لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِالعاقِبَةِ ﴿واللَّهُ﴾ أيِ المَلِكُ الأعْظَمُ الَّذِي لَهُ الحِكْمَةُ البالِغَةُ لِأنَّهُ المُسْتَجْمِعُ لِصِفاتِ الكَمالِ (p-١٢)﴿لا يَهْدِي﴾ أيْ بِالتَّوْفِيقِ بَعْدَ هِدايَةِ البَيانِ ﴿القَوْمَ الفاسِقِينَ﴾ أيِ العَرِيقَيْنِ في الفِسْقِ الَّذِينَ لَهم قُوَّةُ المُحاوَلَةِ فَلَمْ يَحْمِلْهم عَلى الفِسْقِ ضَعْفٌ، فاحْذَرُوا أنْ تَكُونُوا مِثْلَهم في العَزائِمِ فَتُساوُوهم في عُقُوباتِ الجَرائِمِ - انْتَهى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب