الباحث القرآني

ولَمّا تَقَدَّمَتْ في المُمْتَحِنَةِ قِصَّةُ الفَتْحِ الأعْظَمِ في شَأْنِ حاطِبِ بْنِ أبِي بَلْتَعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وجُلَّ مُنابَذَةَ الكَفّارِ بِكُلِّ اعْتِبارٍ عِلْمًا عَلى صِحَّةِ الهِجْرَةِ وادَّعى التَّجَرُّدَ لِجِهادِ أعْداءِ اللَّهِ، وقِصَّةُ الفَتْحِ السَّبَبِيِّ مِن تَحْرِيمِ المُؤْمِناتِ عَلى المُشْرِكِينَ وتَحْرِيمِ المُشْرِكِينَ عَلى المُؤْمِناتِ في غَزْوَةِ الحُدَيْبِيَةِ، وأبْدى سُبْحانَهُ في ذَلِكَ مِنَ الصَّنائِعِ الَّتِي تَعْجَزُ قُوى الخَلْقِ عَنْها أنَّ رُتَبَ ما في الفَتْحِ السَّبَبِيِّ عَلى ما في الفَتْحِ الفِعْلِيِّ الحَقِيقِيِّ، فَجَعَلَ الأوَّلَ في الزَّمانِ آخِرَ في الرُّتْبَةِ والآخَرَ في الزَّمانِ أوَّلًا في الرُّتْبَةِ مَعَ شِدَّةِ الإحْكامِ في تَرْصِيفِ النِّظامِ والبُلُوغِ في الرَّشاقَةِ والِانْسِجامِ إلى حَدٍّ لا يُطِيقُهُ نَوافِذُ الأفْهامِ مَعَ بَداعَةِ المَعانِي ومَتانَةِ المَبانِي، وكانَ فِعْلُ مَن ناصَحَ الكُفّارَ مِمَّنْ أمِنَ بِلِسانِهِ وأذْعَنَ بِجَنانِهِ وهاجَرَ بِأرْكانِهِ نَوْعُ مُناصَحَةِ (p-٥)فِعْلِ مِن يَقُولُ ما لا يَفْعَلُ [فِي مُنابَذَتِهِمْ والتَّجَرُّدِ بِعَداوَتِهِمْ، فَذَكَرَ أوَّلَ هَذِهِ السُّورَةِ مِن تَنْزِيهِهِ بِألْسِنَةِ أحْوالِ ما لا يَعْقِلُ] ما يَخْجَلُ المُسْلِمُ بِشَيْءٍ مِن ذَلِكَ تَأْدِيبًا لِأمْثالِهِ، وتَدْرِيبًا لِمَن يُلِمُّ بِشَيْءٍ مِنَ المُخالَفَةِ بِبالِهِ، وكانَ العاقِلُ أوْلى مَن غَيْرِهِ بِتَنْزِيهِ جَنابِ القُدْسِ بِالطّاعَةِ، فَكَيْفَ [إذا] كانَ مِمَّنْ أقَرَّ بِالإيمانِ وتَقَلَّدَ عُهْدَةَ الإذْعانِ، وكانَ مَن عَصى مِنهم مُنادِيًا عَلى نَفْسِهِ بِمُخالَفَةِ قَوْلِهِ لِفِعْلِهِ، ومَن نَزَّهَهُ حَقَّ تَنْزِيهِهِ لَمْ يُقَصِّرْ في حَقٍّ مِن حُقُوقِهِ بِتَضْيِيعِ شَيْءٍ مِن أوامِرِهِ كَما أنَّ تَنْزِيهَ ما لا يَعْقِلُ بِأنْ لا يُخالِفُ شَيْئًا مِن مُرادِهِ، قالَ مُرْهِبًا بِنِداءِ البُعْدِ والتَّوْبِيخِ الَّذِي مِن مَبادِئِ الغَضَبِ والإنْكارِ بِالِاسْتِفْهامِ والتَّعْبِيرِ بِما يَفْهَمُ أدْنى مَراتِبِ الإيمانِ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أيِ ادَّعَوُا الإيمانَ ﴿لِمَ﴾ قالَ في الكَشّافِ: هي لامُ الإضافَةِ داخِلَةٌ عَلى ”ما“ الِاسْتِفْهامِيَّةِ كَما دَخَلَ عَلَيْها غَيْرُها مِن حُرُوفِ الجَرِّ في بِمَ وفِيمَ ومِمَّ وعَمَّ وإلامَ وعَلامَ، وإنَّما حُذِفَتِ الألِفُ لِأنَّ ”ما“ والحَرْفُ كَشَيْءٍ واحِدٍ، ووَقَعَ اسْتِعْمالُها بِزِيادَةِ هاءِ السَّكْتِ أوِ الإسْكانِ، ومَن أسْكَنَ في الوَصْلِ فَلِإجْرائِهِ مَجْرى الوَقْفِ كَما سُمِعَ ثَلاثَهْ أرْبَعَهْ بِالهاءِ وإلْقاءِ حَرَكَةِ الهَمْزَةِ عَلَيْها مَحْذُوفَةً، وقالَ الرَّضِيُّ في المَوْصُولِ: إنَّها حُذِفَتْ لِأنَّ لَها صَدْرَ الكَلامِ ولَمْ يُمْكِنْ تَأْخِيرُ الجارِّ عَنْها فَقَدَّمَ ورَكَّبَ (p-٦)مَعَها [حَتّى] يَصِيرَ المَجْمُوعُ مَوْضُوعَةً لِلِاسْتِفْهامِ، فَلا يَسْقُطُ الِاسْتِفْهامُ عَنْ مَرْتَبَةِ الصَّدْرِ، وجَعَلَ حَذْفَ الألِفِ دَلِيلَ التَّرْكِيبِ ﴿تَقُولُونَ﴾ أيْ مِن دَعْوى الإيمانِ الَّتِي مُقْتَضاها إلْزامُ الإخْلاصِ في جَمِيعِ الأحْوالِ ﴿ما لا تَفْعَلُونَ﴾ أيْ ما لا تُصَدِّقُونَهُ بِالفِعْلِ الَّذِي يَكُونُ بِغايَةِ الرَّغْبَةِ والقُوَّةِ فَتَتَّخِذُوا العَدُوَّ ولِيًّا بِالإقْبالِ عَلَيْهِ وإرْسالِ التَّنَصُّحِ إلَيْهِ وقَدْ تَلَفَّظْتُمْ بِالإيمانِ الَّذِي يَسْتَلْزِمُ المُعاداةَ لِكُلِّ مَن كَفَرَ، وخَلَفَ الوَعْدَ في نَفْسِهِ [قَبِيحٌ] ومَعَ الخالِقِ أقْبَحُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب