الباحث القرآني

(p-١)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الصَّفِّ وتُسَمّى الحَوارِيِّينَ. مَقْصُودُها الحَثُّ عَلى الِاجْتِهادِ التّامِّ في الِاجْتِماعِ عَلى قَلْبٍ واحِدٍ في جِهادِ مَن دَعَتِ المُمْتَحِنَةُ إلى البَراءَةِ مِنهُمْ، بِحَمْلِهِمْ عَلى الدِّينِ الحَقِّ، أوْ مُحَقُّهم عَنْ جَدِيدِ الأرْضِ أقْصى المُحِقِّ، تَنْزِيهًا لِلْمَلِكِ الأعْلى عَنِ الشِّرْكِ، وصِيانَةً لِجَنابِهِ الأقْدَسِ عَنِ الإفْكِ، ودَلالَةً عَلى الصِّدْقِ في البَراءَةِ مِنهم والعَداوَةِ لَهُمْ، فَهي نَتِيجَةُ سُورَةِ التَّوْبَةِ، وأدَلُّ عَمّا فِيها عَلى هَذا المَقْصِدِ الصَّفِّ بِتَأمُّلِ آيَتِهِ، وتَدَبُّرِ ما لَهُ مِن جَلِيلِ النَّفْعِ في أوَّلِهِ وأثْنائِهِ [وغايَتِهِ]، وكَذا الحَوارِيُّونَ ”بِسْمِ اللَّهِ“ المَلِكِ الأعْظَمِ الَّذِي لَهُ الأمْرُ كُلُّهُ لِأنَّهُ لا كُفْءَ لَهُ ”الرَّحْمَنُ“ الَّذِي عَمَّ بِنِعْمَةِ البَيانِ عَمّا يُرْضِيهِ مِمَّنْ شاقَّهُ، فَقَدْ شَرَّعَ لِكُلِّ أحَدٍ أنْ يَرُدَّهُ أوْ يَقْبَلَهُ ”الرَّحِيمِ“ الَّذِي خَصَّ بِإتْمامِ الإنْعامِ المُوصِلِ إلى دارِ السَّلامِ مَن شاءَ مِن عِبادِهِ فَهَيَّأهُ لِذَلِكَ وأهَّلَهُ. * * * (p-٢)لَمّا خُتِمَتِ المُمْتَحِنَةُ بِالأمْرِ بِتَنْزِيهِهِ سُبْحانَهُ عَنْ تَوَلِّي مَن يُخالِفُ أمْرَهُ بِالتَّوَلِّي عَنْهم والبَراءَةِ مِنهُمُ اتِّبِاعًا لِأهْلِ الصّافّاتِ المُتَجَرِّدِينَ عَنْ كُلِّ ما سِوى اللَّهِ لا سِيَّما عَمَّنْ كانُوا إذا قِيلَ لَهم لا إلَهَ إلّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ، افْتُتِحَتِ الصَّفُّ بِما هو كالعِلَّةِ لِذَلِكَ فَقالَ: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ﴾ أيْ: أوْقَعَ التَّنْزِيهَ الأعْظَمَ لِلْمَلِكِ الأعْظَمِ الَّذِي لَهُ ﴿ما في السَّماواتِ﴾ مِن جَمِيعِ الأشْياءِ الَّتِي لا يَغْفَلُ مِن أفْلاكِها ونُجُومِها وغَيْرِ ذَلِكَ مِن جَواهِرِها وأعْراضِها في طُلُوعِها وأُفُولِها وسَيْرِها في ذَهابِها ورُجُوعِها وإنْشاءِ السَّحابِ وإنْزالِ المِياهِ وغَيْرِ ذَلِكَ. ولَمّا كانَ الخِطابُ مَعَ غَيْرِ الخُلَّصِ أكَّدَهُ فَقالَ: ﴿وما في الأرْضِ﴾ أيْ بِامْتِثالِ جَمِيعِ ما يُرادُ مِنهُ مِمّا هو كالمَأْمُورِ بِالنِّسْبَةِ إلى أفْعالِ العُقَلاءِ مِن نُزُولِ المِياهِ وإخْراجِ النَّباتِ مِنَ النَّجْمِ والشَّجَرِ وإنْضاجِ الحُبُوبِ والثِّمارِ - وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأُمُورِ الصِّغارِ والكِبارِ. ولَمّا كانَ امْتِثالُ غَيْرِ العاقِلِ وعِصْيانُ العاقِلِ رُبَّما أوْهَمَ نَقْصًا قالَ: ﴿وهُوَ﴾ أيْ وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ ﴿العَزِيزُ﴾ أيِ العَظِيمِ النَّفْعِ الَّذِي يَغْلِبُ كُلَّ شَيْءٍ ولا يَغْلِبُهُ شَيْءٌ، ويَعْسُرُ الوُصُولُ [إلَيْهِ] ﴿الحَكِيمُ﴾ أيِ الَّذِي يَضَعُ الأشْياءَ في أتْقَنِ مَواضِعِها، فَما مَكَّنَ العاقِلُ مِنَ المَعْصِيَةِ إلّا لِإظْهارِ صِفاتِ الكَمالِ مِنَ العِلْمِ والقُدْرَةِ والحُلْمِ والكَرَمِ والرَّحْمَةِ (p-٣)والغَضَبِ وغَيْرِ ذَلِكَ، وقَدْ عَلِمَ بِهَذا التَّنْزِيهِ وخَتَمَ آيَتَهُ بِهاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ أنَّهُ تَعالى مُنَزَّهٌ عَمّا تَضَمَّنَهُ يَأْسُ الكُفّارِ المَذْكُورِ [مِن] أنَّهُ لا بَعْثَ وعَنْ أنْ يَجْعَلَ سُبْحانَهُ لَهم حَظًّا في الآخِرَةِ لِأنَّ كُلًّا مِن عَدَمِ البَعْثِ والتَّسْوِيَةِ بَيْنَ المُسِيءِ والمُحْسِنِ نَقْصٌ. وقالَ الإمامُ أبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ: افْتُتِحَتْ بِالتَّسْبِيحِ لِما خُتِمَتْ بِهِ سُورَةُ المُمْتَحِنَةِ مِن قَوْلِهِ ﴿لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ [الممتحنة: ١٣] وهُمُ اليَهُودُ، وقَدْ تَقَدَّمَ الإيماءُ إلى ما اسْتَوْجَبُوا بِهِ هَذا فَأتْبَعَ بِالتَّنْزِيهِ لِما تَقَدَّمَ بَيانُهُ فَإنَّهُ مِمّا تَعَقَّبَ بِهِ ذِكْرَ جَرائِمِ المُرْتَكَباتِ ولا يَرِدُ في غَيْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ أتْبَعَ ذَلِكَ بِأمْرِ العِبادِ بِالوَفاءِ وهو الَّذِي حَدَّ لَهم في المُمْتَحِنَةِ لِيَتَنَزَّهُوا عَنْ حالِ مُسْتَوْجِبِي الغَضَبِ بِنَقِيضِ الوَفاءِ والمُخالَفَةِ بِالقُلُوبِ [والألْسِنَةِ] ﴿يَقُولُونَ بِألْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ في قُلُوبِهِمْ﴾ [الفتح: ١١] ﴿لَيًّا بِألْسِنَتِهِمْ وطَعْنًا في الدِّينِ﴾ [النساء: ٤٦] ﴿مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنّا بِأفْواهِهِمْ ولَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ﴾ [المائدة: ٤١] ﴿ويَقُولُونَ آمَنّا بِاللَّهِ وبِالرَّسُولِ وأطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلّى فَرِيقٌ مِنهُمْ﴾ [النور: ٤٧] وبِمَجْمُوعِ هَذا اسْتَجْمَعُوا اللَّعْنَةَ والغَضَبَ فَقِيلَ لِلْمُؤْمِنِينَ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: ٢] احْذَرُوا أنْ تُشْبِهَ أحْوالُكم حالَ مَنِ اسْتَحَقَّ المَقْتَ واللَّعْنَةَ والغَضَبَ، ثُمَّ أتْبَعَ بِحُسْنِ الجَزاءِ لِمَن وفّى قَوْلًا وعَقْدًا ولِسانًا وضَمِيرًا، وثَبَتَ عَلى [ما] أمَرَ بِهِ فَقالَ: ﴿إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ في سَبِيلِهِ (p-٤)صَفًّا﴾ [الصف: ٤] الآيَةُ ثُمَّ تَناسَجَ ما بَعْدُ. ولَمّا كانَ الوارِدُ مِن هَذا الغَرَضِ في سُورَةِ المُمْتَحِنَةِ قَدْ جاءَ عَلى طَرِيقِ الوَصِيَّةِ وسَبِيلِ النُّصْحِ والإشْفاقِ، أتْبَعَ في سُورَةِ الصَّفِّ بِصَرِيحِ العَتَبِ في ذَلِكَ والإنْكارِ لِيَكُونَ بَعْدَ [ما] تُمَهِّدُ في السُّورَةِ قَبْلَ أوْقَعُ في الزَّجْرِ، وتَأمَّلْ كَمْ بَيْنَ قَوْلِهِ سُبْحانَهُ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعَدُوَّكم أوْلِياءَ﴾ [الممتحنة: ١] وما تَضَمَّنَتْهُ مِنَ اللُّطْفِ وبَيْنَ قَوْلِهِ ﴿لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: ٢] ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: ٣] - انْتَهى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب