الباحث القرآني

ولَمّا خاطَبَ سُبْحانَهُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَهم مَوْضِعُ الذَّبِّ والحِمايَةِ والنُّصْرَةِ بِما وطَّنَ بِهِ المُؤْمِناتِ في دارِ الهِجْرَةِ فَوَقَعَ الِامْتِحانُ وعُرِفَ الإيمانُ، أمَرَ النَّبِيَّ ﷺ بَعْدَ الحُكْمِ بِإيمانِهِنَّ بِمُبايَعَتِهِنَّ فَقالَ ﴿يا أيُّها النَّبِيُّ﴾ مُخاطِبًا لَهُ بِالوَصْفِ المُقْتَضِي لِلْعِلْمِ، ودَلَّ عَلى تَحَقُّقِ كَوْنِ ما يُخْبِرُ بِهِ مِن مَجِيئِهِنَّ بِأداةِ التَّحْقِيقِ عَلَمًا مِن أعْلامِ النُّبُوَّةِ فَقالَ: ﴿إذا جاءَكَ المُؤْمِناتُ﴾ جَعَلَ إقْبالَهُنَّ عَلَيْهِ ﷺ لا سِيَّما مَعَ الهِجْرَةِ مُصَحِّحًا لِإطْلاقِ الوَصْفِ عَلَيْهِنَّ ﴿يُبايِعْنَكَ﴾ أيْ كُلُّ واحِدَةٍ مِنهُنَّ تُبايِعُ ﴿عَلى أنْ لا يُشْرِكْنَ﴾ أيْ يُوقِعْنَ الإشْراكَ لِأحَدٍ مِنَ المَوْجُوداتِ في وقْتٍ مِنَ الأوْقاتِ ﴿بِاللَّهِ﴾ أيِ المَلِكِ الَّذِي لا كُفْؤَ لَهُ ﴿شَيْئًا﴾ أيْ مِن إشْراكٍ عَلى الإطْلاقِ. ولَمّا كانَ الشِّرْكُ بَذْلَ حَقِّ المَلِكِ لِمَن لا يَسْتَحِقُّهُ، أتْبَعَهُ أخْذَ مالِ المالِكِ بِغَيْرِ حَقٍّ لِاقْتِضاءِ الحالِ لِذَلِكَ بِتَمَكُّنِ المَرْأةِ مِنَ اخْتِلاسِ مالِ الزَّوْجِ وعُسْرِ تَحَفُّظِهِ مِنها فَقالَ: ﴿ولا يَسْرِقْنَ﴾ أيْ يَأْخُذْنَ مالَ الغَيْرِ بِغَيْرِ اسْتِحْقاقٍ في خُفْيَةٍ، وأتْبَعَ ذَلِكَ بَذْلَ حَقِّ الغَيْرِ لِغَيْرِ أهْلِهِ فَقالَ: ﴿ولا يَزْنِينَ﴾ أيْ يُمَكِنَّ أحَدًا مِن وطْئِهِنَّ بِغَيْرِ عَقْدٍ صَحِيحٍ. ولَمّا كانَ الزِّنى قَدْ يَكُونُ سَبَبًا في إيجادِ أوْ إعْدامِ نَسَمَةٍ بِغَيْرِ حَقِّها، أتْبَعَهُ إعْدامَ (p-٥٢٣)نَسَمَةٍ بِغَيْرِ حَقِّهِ فَقالَ: ﴿ولا يَقْتُلْنَ أوْلادَهُنَّ﴾ أيْ بِالوَأْدِ كَما تَقَدَّمَ في النَّحْلِ وسَواءٌ في ذَلِكَ كَوْنُهُ مِن زِنًى أوْ لا. ولَمّا ذَكَرَ إعْدامَ نَسَمَةٍ بِغَيْرِ حَقٍّ ولا وجْهٍ شَرْعِيٍّ أتْبَعَهُ ما يَشْمَلُ إيجادَ نَسَمَةٍ بِغَيْرِ حِلٍّ، فَقالَ مُقَبِّحًا لَهُ عَلى سَبِيلِ الكِنايَةِ عَنْهُ بِالبُهْتانِ وما مَعَهُ بِالتَّصْوِيرِ لَهُ بِلَوازِمِهِ وآثارِهِ لِأنَّ اسْتِحْضارَ القَبِيحِ وتَصْوِيرَ صُورَتِهِ أزْجَرُ عَنْهُ فَقالَ: ﴿ولا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ﴾ أيْ ولَدٍ مِن غَيْرِ الزَّوْجِ يَبْهَتُ مِن إلْحاقِهِ بِهِ حَيْرَةً في نَفْيِهِ عَنْهُ ﴿يَفْتَرِينَهُ﴾ أيْ يَتَعَمَّدْنَ كَذِبَهُ، وحَقَّقَ المُرادَ بِهِ وصَوَّرَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿بَيْنَ أيْدِيهِنَّ﴾ أيْ بِالحَمْلِ في البُطُونِ ﴿وأرْجُلِهِنَّ﴾ أيْ بِالوَضْعِ مِنَ الفُرُوجِ ولِأنَّ عادَةَ الوَلَدِ مَعَ أنَّهُ يَسْقُطُ بَيْنَ أيْدِي أُمِّهِ ورِجْلَيْها أنَّهُ يَمْشِي أمامَها، وهَذا شامِلٌ لِما كانَ مِن شُبْهَةٍ أوْ لُقْطَةٍ. ولَمّا حَقَّقَ هَذِهِ الكَبائِرَ العَظِيمَةَ تَعْظِيمًا لِأمْرِها لِعُسْرِ الِاحْتِرازِ مِنها، وأكَّدَ النَّهْيَ عَنِ الزِّنى مُطابَقَةً وإلْزامًا لِما يَجُرُّ إلَيْهِ مِنَ الشُّرُورِ القَتْلُ فَما دُونَهُ، وغَلَّظَ أمْرَ النَّسَبِ لِما يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ مِن إيقاعِ الشُّبُهاتِ (p-٥٢٤)وانْتِهاكِ الحُرُماتِ، عَمَّ في النَّهْيِ فَقالَ: ﴿ولا يَعْصِينَكَ﴾ أيْ عَلى حالٍ مِنَ الأحْوالِ ﴿فِي مَعْرُوفٍ﴾ أيَّ فَرْدٍ كانَ مِنهُ صَغِيرًا كانَ أوْ كَبِيرًا، وفي ذِكْرِهِ مَعَ العِلْمِ بِأنَّهُ ﷺ لا يَأْمُرُ إلّا بِهِ إشْعارٌ بِأنَّهُ لا طاعَةَ لِمَخْلُوقٍ في مَعْصِيَةِ الخالِقِ، وقَدَّمَ المَنهِيّاتِ عَلى المَأْمُوراتِ المُسْتَفادَةِ مِنَ المَعْرُوفِ لِأنَّ التَّخَلِّيَ عَنِ الرَّذائِلِ مُقَدَّمٌ عَلى التَّحَلِّي بِالفَضائِلِ لِأنَّ دَرْءَ المَفاسِدِ أوْلى مِن جَلْبِ المَصالِحِ: ﴿فَبايِعْهُنَّ﴾ أيِ التَزِمْ لَهُنَّ بِما وعَدْتَ عَلى ذَلِكَ مِن إعْطاءِ الثَّوابِ لِمَن وفَتْ مِنهُنَّ في نَظِيرِ ما ألْزَمْنَ أنْفُسَهُنَّ مِنَ الطّاعَةِ. ولَمّا كانَ الإنْسانُ مَحَلَّ النُّقْصانِ لا سِيَّما النِّسْوانُ رَجّاهُنَّ سُبْحانَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿واسْتَغْفِرْ﴾ أيِ اسْألْ ﴿لَهُنَّ اللَّهَ﴾ أيِ المَلِكَ الأعْظَمَ ذا الجَلالِ والإكْرامِ في الغُفْرانِ إنْ وقَعَ مِنهُنَّ تَقْصِيرٌ وهو واقِعٌ لِأنَّهُ لا يَقْدِرُ أحَدٌ أنْ يَقْدُرَ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ. ولَمّا كانَتْ عَظَمَتُهُ سُبْحانَهُ مانِعَةً لِعَظِيمِ الهَيْبَةِ مِن سُؤالِهِ ما طَمَّعَ بِهِ، عَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ مُعِيدًا الِاسْمَ الأعْظَمَ لِئَلّا يُظَنَّ بِإضْمارِهِ وتَقَيُّدِهِ بِحَيْثِيَّةِ الهِجْرَةِ مِنَ النِّساءِ ونَحْوِ ذَلِكَ مُؤَكِّدًا لِما طُبِعَ الآدَمِيُّ عَلَيْهِ مِن أنَّهُ لا يَكادُ يَتْرُكُ المُسِيءَ مِن عِقابٍ أوْ عِتابٍ فَضْلًا عَنِ التَّفْضِيلِ بِزِيادَةِ الإكْرامِ: ﴿إنَّ اللَّهَ﴾ أيِ الَّذِي لَهُ صِفاتُ الجَلالِ والإكْرامِ فَلَوْ أنَّ النّاسَ لا يُذْنِبُونَ (p-٥٢٥)لَجاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ فَيَغْفِرُ لَهم لِتَظْهَرَ صِفَةُ إكْرامِهِ ﴿غَفُورٌ﴾ أيْ بالِغُ السَّتْرِ لِلذُّنُوبِ عَيْنًا وأثَرًا ﴿رَحِيمٌ﴾ أيْ بالِغُ الإكْرامِ بَعْدَ الغُفْرانِ فَضْلًا مِنهُ وإحْسانًا، وقَدْ حَقَّقَ سُبْحانَهُ ذَلِكَ وصَدَقَ، ومَن أصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا، «فَأقْبَلَ النِّساءُ لِلْبَيْعَةِ عامَّةً ثانِيَ يَوْمِ الفَتْحِ عَلى الصَّفا بَعْدَ فَراغِهِ ﷺ مِن بَيْعَةِ الرِّجالِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ وهو عَلى الصَّفا فَقامَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ أسْفَلَ مِنهُ يُبايِعُهُنَّ بِأمْرِهِ ويُبْلِغُهُنَّ عَنْهُ وهِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ مُنْتَقِبَةٌ مُتَنَكِّرَةٌ مَعَ النِّساءِ خَوْفًا مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنْ يَعْرِفَها، فَلَمّا ذَكَرَ الشِّرْكَ قالَتْ: واللَّهِ إنَّكَ لَتَأْخُذُ عَلَيْنا أمْرًا ما رَأيْناكَ أخَذْتَهُ عَلى الرِّجالِ، وبايَعَ الرِّجالُ يَوْمَئِذٍ عَلى الإسْلامِ والجِهادِ، فَقالَ ﴿ولا يَسْرِقْنَ﴾ فَقالَتْ: إنَّ أبا سُفْيانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وإنِّي أُصِيبُ مِن مالِهِ هَناتٍ فَلا أدْرِي أيَحِلُّ لِي أمْ لا؟ فَقالَ أبُو سُفْيانَ: ما أصَبْتِ مِن شَيْءٍ فِيما مَضى وفِيما غَيْرُ فَهو لَكِ حَلالٌ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وعَرَفَها فَقالَ: وإنَّكِ لَهِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ، قالَتْ: نَعَمْ، فاعْفُ عَنِّي ما سَلَفَ عَفا اللَّهُ عَنْكَ، فَقالَ: ﴿ولا يَزْنِينَ﴾ فَقالَتْ: أوَ تَزْنِي الحُرَّةُ، فَقالَ ﴿ولا يَقْتُلْنَ أوْلادَهُنَّ﴾ فَقالَتْ: رَبَّيْناهم صِغارًا وقَتَلْتُمُوهم كِبارًا وأنْتُمْ وهم أعْلَمُ، وكانَ ابْنُها حَنْظَلَةُ بْنُ أبِي سُفْيانَ (p-٥٢٦)قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ فَضَحِكَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتّى اسْتَلْقى وتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وذَكَرَ البُهْتانَ وهو أنْ تَقْذِفَ ولَدًا عَلى زَوْجِها لَيْسَ مِنهُ، قالَتْ هِنْدٌ: واللَّهِ إنَّ البُهْتانَ لَقَبِيحٌ وما تَدْعُونا إلّا إلى الرُّشْدِ ومَكارِمِ الأخْلاقِ، فَقالَ ﴿ولا يَعْصِينَكَ في مَعْرُوفٍ﴾ فَقالَتْ: ما جَلَسْنا مَجْلِسَنا هَذا وفي أنْفُسِنا أنْ نَعْصِيَكَ في شَيْءٍ، وما مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَدَ امْرَأةٍ لا تَحِلُّ لَهُ، وكانَتْ أسْماءُ بِنْتُ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ في المُبايِعاتِ فَقالَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ابْسُطْ يَدَكَ نُبايِعْكَ، فَقالَ: إنِّي لا أُصافِحُ النِّساءَ لَكِنْ آخُذُ عَلَيْهِنَّ»، وعَنِ الشَّعْبِيِّ «أنَّهُ ﷺ دَعا بِقَدَحٍ مِن ماءٍ فَغَمَسَ يَدَهُ فِيهِ ثُمَّ غَمَسْنَ أيْدِيَهُنَّ فِيهِ، وعَنْهُ أنَّهُ ﷺ لَقَّنَهُنَّ في المُبايَعَةِ”فِيما اسْتَطَعْتُنَّ وأطَقْتُنَّ“فَقالَتِ: اللَّهُ ورَسُولُهُ أرْحَمُ بِنا مِن أنْفُسِنا» .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب