الباحث القرآني

ولَمّا ذَكَرَ - سُبْحانَهُ - بَعْضَ هَذا المَلَكُوتِ الأرْضِيِّ والسَّماوِيِّ، أتْبَعَهُ - كَما مَضى في أوَّلِ السُّورَةِ - الخَلْقَ المُفْرَدَ الجامِعَ لِجَمِيعِ المَلَكُوتِ، وهو الإنْسانُ، دالًّا عَلى كَمالِ القُدْرَةِ عَلى كُلِّ ما يُرِيدُ، مُبْطِلًا بِمُفاوَتَةِ أوَّلِ الإبْداعِ وآخِرِ الآجالِ ما اعْتَقَدُوا في النُّورِ والظُّلْمَةِ والشَّمْسِ والقَمَرِ وغَيْرِهِما؛ لِأنَّ واحِدًا مِنها لا اخْتِيارَ لَهُ في شَيْءٍ يَصْدُرُ عَنْهُ، بَلْ هو مُسَخَّرٌ ومَقْهُورٌ كَما هو مَحْسُوسٌ ومَشْهُورٌ، فَقالَ: ﴿وهُوَ﴾ أيْ: لا غَيْرُهُ ﴿الَّذِي أنْشَأكُمْ﴾ أيْ: وأنْتُمْ في غايَةِ التَّفاوُتِ في الطُّولِ والقَدِّ واللَّوْنِ والشَّكْلِ وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأعْراضِ الَّتِي دَبَّرَها - سُبْحانَهُ - عَلى ما اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ ﴿مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ﴾ ثُمَّ اقْتَطَعَ مِنها زَوْجَها ثُمَّ فَرَّعَكم مِنهُما. ولَمّا كانَ أغْلَبُ النّاسِ في الحَياةِ [الدُّنْيا] يَعْمَلُ عَمَلَ مَن لا يَحُولُ ولا يَزُولُ، لا يَكُونُ عَلى شَرَفِ الزَّوالِ ما دامَتْ فِيهِ بَقِيَّةٌ (p-٢٠٧)[مِن] حَياةٍ، [قالَ]: ﴿فَمُسْتَقَرٌّ﴾ أيْ: فَسَبَّبَ عَنْ ذَلِكَ أنَّهُ مِنكم مُسْتَقِرٌّ عَلى الأرْضِ - هَذا عَلى قِراءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ وابْنِ عُمَرَ وبِكَسْرِ القافِ اسْمُ فاعِلٍ، والمَعْنى في قِراءَةِ الباقِينَ بِفَتْحِهِ اسْمُ مَكانٍ ﴿ولَكم في الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ ومَتاعٌ إلى حِينٍ﴾ [الأعراف: ٢٤] ولَمّا كانَ مَن في البَرْزَخِ قَدْ كُشِفَ عَنْهم الغِطاءُ فَهم مُوقِنُونَ بِالسّاعَةِ غَيْرُ عامِلِينَ عَلى ضِدِّ ذَلِكَ، وكَذا مَن في الصُّلْبِ والرَّحِمِ - عَبَّرَ بِما يَدُلُّ عَلى عَدَمِ الِاسْتِقْرارِ، فَقالَ: ﴿ومُسْتَوْدَعٌ﴾ أيْ: في الأصْلابِ أوْ الأرْحامِ أوْ في بَطْنِ الأرْضِ، [فَدَلَّتْ المُفاوَتَةُ مِن كُلٍّ مِنهُما - مَعَ أنَّ الكُلَّ مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ - عَلى القادِرِ المُخْتارِ]، لا يَقْدِرُ غَيْرُهُ أنْ يَعْكِسَ شَيْئًا مِن ذَلِكَ، وكُلُّ ذَلِكَ مَضْمُونُ الآيَتَيْنِ في أوَّلِ السُّورَةِ، وقَدَّمَ الإصْباحَ واللَّيْلَ ومُتَعَلِّقَهُما لِتَقَدُّمِهِما في الخَلْقِ، ثُمَّ تَلاهُ بِخَلْقِ الإنْسانِ عَلى حَسَبِ ما مَرَّ أوَّلَ السُّورَةِ، وذَكَرَ [هُنا أنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ الطِّينَ نَفْسًا واحِدَةً فَرَّعَ الإنْسَ كُلَّهم مِنها مَعَ تَفاوُتِهِمْ فِيما] هُناكَ وُفِيَ غَيْرِهِ. ولَمّا ذَكَرَ هَذا المُفْرَدَ الجامِعَ، وفَصَّلَهُ عَلى هَذِهِ الوُجُوهِ المُعْجِبَةِ، كانَ مَحَلًّا لِتَوَقُّعِ التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ، فَقالَ: ﴿قَدْ فَصَّلْنا﴾ [الأنعام: ٩٧] أيْ: بِعَظَمَتِنا ﴿الآياتِ﴾ [الأنعام: ٩٧] أيْ: أكْثَرْنا بَيانَها في هَذا المُفْرَدِ الجامِعِ في أطْوارِ الخِلْقَةِ وأدْوارِ الصَّنْعَةِ، تارَةً بِأنْ يَكُونَ مِنَ التُّرابِ بَشَرٌ، وأُخْرى بِأنْ يُخْرِجَ الأُنْثى مِنَ الذَّكَرِ، (p-٢٠٨)وتارَةً بِأنْ يُفَرِّعَ مِنَ الذَّكَرِ والأُنْثى ما لا يُحِيطُ بِهِ العَدُّ ولا يَجْمَعُهُ الخَبَرُ مِنَ النُّطْفَةِ إلى الوِلادَةِ إلى الكِبَرِ. ولَمّا كانَ إنْشاءُ النّاسِ مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ وتَصْرِيفَهم عَلى تِلْكَ الوُجُوهِ المُخْتَلِفَةِ جِدًّا ألْطَفَ وأدَقَّ صَنْعَةٍ، فَكانَ ذَلِكَ مُحْتاجًا إلى تَدَبُّرٍ واسْتِعْمالِ فِطْنَةٍ وتَدْقِيقِ نَظَرٍ، قالَ: ﴿لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ﴾ أيْ: لَهم أهْلِيَّةُ الفِقْهِ والفِطْنَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب