الباحث القرآني

ولَمّا تَقَرَّرَ أنَّ غَيْرَ اللَّهِ لا يَمْنَعُ مِنَ اللَّهِ بِنَوْعٍ، لا آلِهَتُهم الَّتِي زَعَمُوا أنَّها شُفَعاؤُهم ولا غَيْرُها - ثَبَتَ أنَّهم عَلى غايَةِ البَيِّنَةِ مِن أنَّ كُلَّ ما سِواهُ لا يَنْفَعُ شَيْئًا ولا يَضُرُّ، فَكانَ في غايَةِ التَّبْكِيتِ لَهم قَوْلُهُ: ﴿قُلْ﴾ أيْ: بَعْدَ ما أقَمْتَ مِنَ الأدِلَّةِ عَلى أنَّهُ لَيْسَ لِأحَدٍ مَعَ اللَّهِ أمْرٌ، مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ مُوَبِّخًا لَهم ﴿أنَدْعُو﴾ أيْ: دُعاءِ عِبادَةٍ، وبَيَّنَ حَقارَةَ مَعْبُوداتِهِمْ فَقالَ: ﴿مِن دُونِ اللَّهِ﴾ أيْ: المُنْفَرِدِ بِجَمِيعِ الأمْرِ. ولَمّا كانَ السِّياقُ لِتَعْدادِ النِّعَمِ ﴿الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ﴾ [الأنعام: ١] ﴿خَلَقَكم مِن طِينٍ﴾ [الأنعام: ٢] ﴿يُطْعِمُ ولا يُطْعَمُ﴾ [الأنعام: ١٤] ﴿ويُرْسِلُ عَلَيْكم حَفَظَةً﴾ [الأنعام: ٦١] ﴿مَن يُنَجِّيكم مِن ظُلُماتِ البَرِّ والبَحْرِ﴾ [الأنعام: ٦٣] ﴿اللَّهُ يُنَجِّيكم مِنها ومِن كُلِّ كَرْبٍ﴾ [الأنعام: ٦٤] - قَدَّمَ النَّفْعَ في قَوْلِهِ: ﴿ما لا يَنْفَعُنا ولا يَضُرُّنا﴾ أيْ: لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ مِن ذَلِكَ، لِيَكُونُوا عَلى غايَةِ اليَأْسِ مِن اتِّباعِ حِزْبِ اللَّهِ لَهم، وهَذا كالتَّعْلِيلِ لِقَوْلِهِ ﴿إنِّي نُهِيتُ أنْ أعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ [الأنعام: ٥٦] ولَمّا ذَكَرَ عَدَمَ المَنفَعَةِ في دُعائِهِمْ - أشارَ إلى وُجُودِ الخَسارَةِ في (p-١٥١)رَجائِهِمْ - فَقالَ: ﴿ونُرَدُّ﴾ أيْ: بِرُجُوعِنا إلى الشِّرْكِ، وبَناهُ لِلْمَفْعُولِ لِأنَّ المُنْكَرَ الرَّدُّ نَفْسُهُ مِن أيِّ رادٍّ كانَ ﴿عَلى أعْقابِنا﴾ أيْ: فَنَأْخُذُ في الوَجْهِ المُخالِفِ لِقَصْدِنا فَنَصِيرُ كُلَّ وقْتٍ في خَسارَةٍ بِالبُعْدِ عَنِ المَقْصُودِ ﴿بَعْدَ إذْ هَدانا اللَّهُ﴾ أيْ: الَّذِي لا خَيْرَ إلّا وهو عِنْدُهُ ولا ضُرَّ إلّا وهو قادِرٌ عَلَيْهِ، إلى التَّوَجُّهِ نَحْوَ المَقْصِدِ، ووَفَّقَنا لَهُ وأنْقَذَنا مِنَ الشِّرْكِ. ولَمّا صَوَّرَ حالَهم، مَثَّلَهُ فَقالَ: ﴿كالَّذِي﴾ أيْ: نُرَدُّ مِن عُلُوِّ القُرْبِ إلى المَقْصُودِ إلى سُفُولِ البُعْدِ عَنْهُ رَدًّا كَرَدِّ الَّذِي ﴿اسْتَهْوَتْهُ﴾ أيْ: طَلَبَتْ نُزُولَهُ عَنْ دَرَجَتِهِ ﴿الشَّياطِينُ﴾ فَأنْزَلَتْهُ عَنْ أُفُقِ مَقْصِدِهِ إلى حَضِيضِ مَعْطَبِهِ، شَبَّهَ حالَهُ بِحالِ مَن سَقَطَ مِن عالٍ في مَهْواةٍ مُظْلِمَةٍ فَهو في حالِ هُوِيِّهِ في غايَةِ الِاضْطِرابِ وتَحَقُّقِ التَّلَفِ والعَمى عَنِ الخَلاصِ ﴿فِي الأرْضِ﴾ حالَ كَوْنِهِ ﴿حَيْرانَ﴾ تائِهًا ضالًّا لا يَهْتَدِي لِوَجْهِهِ ولا يَدْرِي كَيْفَ يَسْلُكُ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ قَوْلَهُ: ﴿لَهُ﴾ أيْ: هَذا الَّذِي هَوى ﴿أصْحابٌ﴾ أيْ: عِدَّةٌ، ولَكِنَّهُ لِتَمَكُّنِ الحَيْرَةِ مِنهُ لا يَقْبَلُ ﴿يَدْعُونَهُ إلى الهُدى﴾ وبَيَّنَ دُعاءَهم بِقَوْلِهِ: ﴿ائْتِنا﴾ وهو قَدْ اعْتَسَفَ المُهِمَّةَ تابِعًا لِلشَّياطِينِ، لا يُجِيبُهم ولا يَأْتِيهِمْ لِأنَّهُ قَدْ غُلِبَ عَلى نَفْسِهِ، وحِيلَ بَيْنَهُ وبَيْنَ العِبَرِ والنَّزَوانِ. (p-١٥٢)ولَمّا كانَ هَذا مِمّا يَعْرِفُونَهُ وشاهَدُوهُ مِرارًا، وكانُوا عالِمِينَ بِأنَّ دُعاءَ أصْحابِهِ لَهُ في غايَةِ النَّصِيحَةِ والخَيْرِ، وأنَّهُ إنْ تَبِعَهم نَجا، وإلّا هَلَكَ هَلاكًا لا تَدارُكَ لَهُ، فَكانَ جَوابُهم: إنَّ دُعاءَ أصْحابِهِ بِهِ لَهُدًى، بَيَّنَ أنَّهُ مُضْمَحِلٌّ تافِهٌ جِدًّا بِحَيْثُ إنَّهُ يَجُوزُ أنْ يُقالَ: لَيْسَ هُدًى بِالنِّسْبَةِ إلى هَذا الَّذِي يَدْعُوهم إلَيْهِ، بِقَوْلِهِ: ﴿قُلْ إنَّ هُدى اللَّهِ﴾ أيْ: المُسْتَجْمِعُ لِصِفاتِ الكَمالِ ﴿هُوَ﴾ أيْ: خاصَّةً ﴿الهُدى﴾ أيْ: لا غَيْرُهُ كَدُعاءِ أصْحابِ المُسْتَهْوِي، بَلْ ذاكَ الهُدى مَعَ إنْقاذِهِ مِنَ الهَلاكِ إلى جَنْبِ هَذا الهُدى كَلا شَيْءٍ؛ لِأنَّ الشَّيْءَ هو المُوصِلُ إلى سَعادَةِ الأبَدِ. ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ: فَقَدْ أمَرْنا أنْ نَلْزَمَهُ ونَتْرُكَ كُلَّ ما عَداهُ، عَطَفَ عَلَيْهِ أمْرًا عامًّا فَقالَ: ﴿وأُمِرْنا لِنُسْلِمَ﴾ أيْ: ورُدَّ عَلَيْنا الأمْرُ مِمَّنْ لا أمْرَ لِغَيْرِهِ بِكُلِّ ما يُرْضِيهِ لِأنْ نُسْلِمَ، بِأنْ نُوقِعَ الإسْلامَ وهو الِانْقِيادُ التّامُّ فَنَتَخَلّى عَنْ كُلِّ هَوًى، وأنْ نُقِيمَ الصَّلاةَ بِأنْ نُوقِعَها بِجَمِيعِ حُدُودِها الظّاهِرَةِ والباطِنَةِ فَنَتَحَلّى بِفِعْلِها أشْرَفَ حِلًى ﴿لِرَبِّ العالَمِينَ﴾ أيْ: لِإحْسانِهِ إلى كُلِّ أحَدٍ بِكُلِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ؛
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب