الباحث القرآني

ولَمّا كانَتْ هَذِهِ الآياتُ مُثْبِتَةً لِجُزْئِيّاتٍ مِن عِلْمِهِ تَعالى وقُدْرَتِهِ، وكانَ خِتامُها العِلْمَ بِالظّالِمِ وغَيْرِهِ - أتْبَعَها الِاخْتِصاصَ بِما هو أعَمُّ مِن ذَلِكَ، وهو عِلْمُ مَفاتِحِ الغَيْبِ الَّذِي لا يَصِلُ إلَيْهِ إلّا مَن حازَها، إذْ لا يَطَّلِعُ عَلى الخَزائِنِ إلّا مَن فَتَحَها، ولا يَفْتَحُها إلّا مِن حازَ مَفاتِيحَها وعَلِمَ كَيْفَ يَفْتَحُ بِها، فَإثْباتُ ذَلِكَ في هَذا الأُسْلُوبِ مِن بابِ التَّرْقِيَةِ في مَراقِي الِاعْتِقادِ مِن دَرَجَةٍ كامِلَةٍ إلى أكْمَلَ مِنها، فَقالَ عاطِفًا عَلى مَعْنى ما سَبَقَ، وهو: فَعِنْدَهُ خاصَّةً جَمِيعُ ذَلِكَ: ﴿وعِنْدَهُ﴾ أيْ: وحْدَهُ ﴿مَفاتِحُ الغَيْبِ﴾ أيْ: الَّتِي لا يُدْرِكُ الغَيْبَ إلّا مَن عَلِمَها. ولَمّا كانَ مَعْنى ذَلِكَ الِاخْتِصاصُ - صَرَّحَ بِهِ في قَوْلِهِ: ﴿لا يَعْلَمُها إلا هُوَ﴾ وتَخْصِيصُها بِالنَّفْيِ دُونَ الخَزائِنِ دالٌّ عَلى ما فَهِمْتُهُ مِن أنَّ التَّقْيِيدَ [فِيها] بِـ ( لَكم ) يُفْهِمُ أنَّهُ يَجُوزُ أنْ نَقُولَ ذَلِكَ لِلْمُؤْمِنِينَ. ولَمّا ذَكَرَ عِلْمَ الغَيْبِ، أتْبَعَهُ عِلْمَ الشَّهادَةِ؛ لِأنَّ القَضايا العَقْلِيَّةَ المَحْضَةَ يَصْعُبُ تَحْصِيلُ العِلْمِ بِها عَلى سَبِيلِ التَّمامِ إلّا لِلْكُمَّلِ مِنَ الأنامِ (p-١٣٦)الَّذِينَ تَجَرَّدُوا فَتَعَوَّدُوا اسْتِحْضارَ المَعْقُولاتِ المُجَرَّدَةِ، والقُرْآنُ إنَّما أُنْزِلَ لِنَفْعِ جَمِيعِ الخَلْقِ: الذَّكِيُّ مِنهم والغَبِيُّ، فَكانَ ذِكْرُ المَحْسُوساتِ الدّاخِلَةِ تَحْتَ القَضِيَّةِ العَقْلِيَّةِ الكُلِّيَّةِ مُعِينًا عَلى تَصَوُّرِ ذَلِكَ المَعْقُولِ ورُسُوخِهِ في القَلْبِ، فَقالَ مُؤَكِّدًا لِهَذا المَعْقُولِ الكُلِّيِّ المُجَرَّدِ بِمِثالٍ داخِلٍ تَحْتَهُ يَجْرِي مَجْرى المَحْسُوسِ، وعَطَفَهُ بِالواوِ عَطْفَ الخاصِّ عَلى العامِّ إشارَةً إلى تَعْظِيمِهِ، فَقالَ: ﴿ويَعْلَمُ ما في البَرِّ﴾ وقَدَّمَهُ لِأنَّ الإنْسانَ أكْثَرُ مُلابَسَةً لَهُ بِما فِيهِ مِنَ القُرى والمُدُنِ والمَفاوِزِ والجِبالِ والتِّلالِ وكَثْرَةِ ما بِها مِنَ الحَيَوانِ والنَّباتِ النَّجْمِ وذِي السّاقِ والمَعادِنِ ﴿والبَحْرِ﴾ وأخَّرَهُ لِأنَّ إحاطَةَ العَقْلِ بِأحْوالِهِ أقَلُّ وإنْ كانَ الحِسُّ يَدُلُّ عَلى أنَّ عَجائِبَها أكْثَرُ، وطُولَها وعَرْضَها أعْظَمُ، وما فِيها مِنَ الحَيَواناتِ وأجْناسِ المَخْلُوقاتِ أعْجَبُ، فَكانَ هَذا الأمْرُ المَحْسُوسُ مُقَوِّيًا لِعَظَمَةِ ذَلِكَ الأمْرِ المَعْقُولِ. ولَمّا ذَكَرَ ما يَعُمُّ الثّابِتَ والمُنْتَقِلَ: خَصَّ المُنْتَقِلَ تَنْصِيصًا عَلى الجُزْئِيّاتِ وتَعْظِيمًا لِلْعِلْمِ بِتَعْظِيمِ المَعْلُوماتِ، فَقالَ: ﴿وما تَسْقُطُ﴾ وأغْرَقَ في النَّفْيِ بِقَوْلِهِ: ﴿مِن ورَقَةٍ﴾ ونَكَّرَها إتْمامًا لِلتَّعْمِيمِ ﴿إلا يَعْلَمُها﴾ ولَمّا كانَ هَذا مَعَ عِظَمِهِ ظاهِرًا، ذَكَرَ ما هو أدَقُّ مِنهُ، فَقالَ: ﴿ولا﴾ أيْ: (p-١٣٧)وما مِن ﴿حَبَّةٍ﴾ ودَلَّ عَلى أنَّ الأرْضَ لَيْسَ لَها مِن نَفْسِها نُورٌ تَنْبِيهًا عَلى ما أُودِعَ هَذا الآدَمِيُّ المُكَوَّنُ مِنها مِنَ الغَرائِبِ بِقَوْلِهِ: ﴿فِي ظُلُماتِ الأرْضِ﴾ أيْ: ولَوْ كانَ في أقْصى بَطْنِها، فَكَيْفَ بِما هو في النُّورِ وهو أكْبَرُ مِنَ الحَبَّةِ. ولَمّا خَصَّ، رَجَعَ إلى التَّعْمِيمِ رَدًّا لِلْآخِرِ عَلى الأوَّلِ فَقالَ: ﴿ولا رَطْبٍ ولا يابِسٍ﴾ أيْ: وُجِدَ أوْ لَمْ يُوجَدْ أوْ سَيُوجَدُ ﴿إلا في كِتابٍ مُبِينٍ﴾ أيْ: مُوَضِّحٍ لِأحْوالِهِ وأعْيانِهِ وكُلِّ أُمُورِهِ وأحْيانِهِ، فَثَبَتَ أنَّهُ فاعِلٌ لِجَمِيعِ العالَمِ بِجَواهِرِهِ وأعْراضِهِ عَلى سَبِيلِ الإحْكامِ والإتْقانِ؛ لِأنَّهُ وحْدَهُ عالِمٌ بِجَمِيعِ المَعْلُوماتِ، ومَن اخْتَصَّ بِعِلْمِ جَمِيعِ المَعْلُوماتِ كانَ مُخْتَصًّا بِصُنْعِ جَمِيعِ المَصْنُوعاتِ قادِرًا عَلى جَمِيعِ المَقْدُوراتِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب