الباحث القرآني
ولَمّا بَيَّنَ وظِيفَةَ الرُّسُلِ، وقَسَّمَ المُرْسَلَ إلَيْهِمْ، أمَرَهُ بِنَفْيِ ما يَتَسَبَّبُ عَنْهُ قَوْلُهم مِن أنَّ البَشَرَ لا يَكُونُ رَسُولًا، واقْتِراحُهم عَلَيْهِ الآياتِ مِن ظَنِّ قُدْرَتِهِ عَلى ما يُرِيدُ، أوْ أنَّ كُلَّ ما يَقْدِرُ عَلَيْهِ يُبْدِيهِ لَهم، أوْ إلْزامُهُ بِذَلِكَ، مِنها لَهم عَلى وجْهِ ظُلْمِهِمْ بِغِلْظِهِمْ أوْ عِنادِهِمْ، فَقالَ: ﴿قُلْ﴾ أيْ: في جَوابِ قَوْلِهِمْ
”﴿لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ﴾ [يونس: ٢٠]“ ونَحْوُهُ.
ولَمّا [لَمْ] يَكُنْ لَهم عَهْدٌ بِأنَّ بَشَرًا يَكُونُ عِنْدَهُ الخَزائِنُ، يَتَصَرَّفُ فِيها بِما يُرِيدُ، وكانَ يَأْتِيهِمْ مِنَ الآياتِ مِن انْشِقاقِ القَمَرِ (p-١٢٢)ومَشْيِ الشَّجَرِ وكَلامِ الضَّبِّ والحَجَرِ ونَبْعِ الماءِ والحِراسَةِ بِشُواظِ النّارِ وفَحْلِ الجِمالِ ونَحْوِ ذَلِكَ مِمّا هو مَعْلُومٌ في دَلائِلَ النُّبُوَّةِ بِما رُبَّما أوْقَعَ في ظَنِّهِمْ أنَّ لازِمَهُ دَعْواهُ لِأنَّهُ يَمْلِكُ الخَزائِنَ، فَكانُوا يَقْتَرِحُونَ عَلَيْهِ الآياتِ الدّالَّةَ [إلْزامًا لَهُ] بِذَلِكَ لِقَصْدِ التَّكْذِيبِ - نَفى ما ظَنُّوا أنَّهُ يَلْزَمُهُ دَعْواهُ فَقالَ: ﴿لا أقُولُ لَكُمْ﴾ أيْ: الآنَ ولا فِيما يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمانِ، ولَمّا كانَ تَعالى قَدْ أعْطاهُ مَفاتِيحَ خَزائِنِ الأرْضِ، فَأباها تَواضُعًا لِلَّهِ - سُبْحانَهُ - قُيِّدَ بِقَوْلِهِ ( لَكم ) إفْهامًا لِما يُخْبِرُ بِهِ المُؤْمِنِينَ مِن ذَلِكَ لِيَزْدادُوا إيمانًا مَعَ إيمانِهِمْ، وأمّا الكَفَرَةُ فَإنَّ إخْبارَهم بِذَلِكَ مِمّا يُغْرِيهِمْ عَلى الِاقْتِراحاتِ اسْتِهْزاءً فَلا فائِدَةَ لَهُ ﴿عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ﴾ أيْ: المُلْكُ الأعْظَمُ الَّذِي لَهُ الغِنى المُطْلَقُ والعِزَّةُ البالِغَةُ، فَلا كُفُؤَ لَهُ أيْ: فَآتِيكم ما تَقْتَرِحُونَ مِنَ الآياتِ وما تَشْتَهُونَهُ مِنَ الكُنُوزِ وما تَسْتَهْزِئُونَ بِهِ مِنَ العَذابِ، وإنَّما الخَزائِنُ بِيَدِهِ، يَفْعَلُ فِيها ما يَشاءُ.
ولَمّا كانُوا يَعْهَدُونَ أنَّ بَعْضَ البَشَرِ مِنَ الكُهّانِ يُخْبِرُونَ بِشَيْءٍ مِنَ المُغَيَّباتِ، وكانَ الكُهّانُ يَخْلِطُونَ الصِّدْقَ بِالكَذِبِ، وكانَ النَّبِيُّ ﷺ يُخْبِرُهم بِمُغَيَّباتٍ كَثِيرَةٍ فَيَكُونُ كَما قالَ دائِمًا لا خُلْفَ في شَيْءٍ مِنها ولا زِيادَةَ ولا نَقْصَ، فَصارُوا يَظُنُّونَ أنَّهُ يَعْلَمُ الغَيْبَ، ولَكِنَّهم (p-١٢٣)يَظُنُّونَهُ مِن آياتِ الكُهّانِ حَتّى أطْلَقُوا عَلَيْهِ أنَّهُ كاهِنٌ، فَكانُوا يَسْألُونَهُ عَنْ وقْتِ العَذابِ الَّذِي يَتَوَعَّدُهم بِهِ وعَنْ غَيْرِهِ، لَعَلَّهم يَظْفَرُونَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِمّا يَقُولُهُ الكُهّانُ ولا يَكُونُ، فَيَعُدُّونَهُ عَلَيْهِ - نَفى ما ظَنُّوهُ غَيْرَهُ عَلى هَذا المَقامِ أنْ يُنْسَبَ إلى غَيْرِ مالِكِهِ الَّذِي لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ، فَقالَ نافِيًا لَهُ مِن أصْلِهِ، لا لِلْقَوْلِ فَقَطْ كَما في سابِقِهِ ولاحِقِهِ، عاطِفًا عَلى: ﴿لا أقُولُ﴾ لا عَلى ﴿عِنْدِي﴾ ﴿ولا أعْلَمُ الغَيْبَ﴾ أيْ: فَأُخْبِرُكم بِوَقْتِ الفَصْلِ بَيْنِي وبَيْنَكم مِن مُطْلَقِ العَذابِ أوْ قِيامِ السّاعَةِ، فَإنَّ هاتَيْنِ الحالَتَيْنِ - مِلْكَ الخَزائِنِ وعِلْمَ الغَيْبِ - لَيْسَتا إلّا لِمَرْتَبَةِ الأُلُوهِيَّةِ، وإنَّما لَمْ أدَّعِ الأوَّلَ كَما ألْزَمْتُمُونِي بِهِ، ولا اتَّصَفْتُ بِالثّانِي بِما ظَنَنْتُمْ.
ولَمّا كانُوا يَظُنُّونَ أنَّ الرَّسُولَ لا يَكُونُ إلّا مَلَكًا، فَكانُوا يُلْزِمُونَهُ بِدَعْواهُ الرِّسالَةَ دَعْوى المَلائِكَةِ لِيُلْزِمُوهُ بِذَلِكَ ادِّعاءَ ما هو ظاهِرُ البُطْلانِ، قالَ: ﴿ولا أقُولُ﴾ أيْ: بِدَعْوى الرِّسالَةِ؛ ولَمّا كانَ ﷺ أعْلى الأنْبِياءِ صَفاءً وأنْوَرَهم قَلْبًا وأشَدَّهم في كُلِّ هُدًى إضاءَةً وأنْقاهم مِن نَقائِصِ البَشَرِ، وكانَ هَذا أمْرًا مِنَ اللَّهِ لَهُ - قُيِّدَ بِقَوْلِهِ: ﴿لَكُمْ﴾ إفْهامًا لِأنَّهُ لا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ أنْ يَقُولَ ذَلِكَ، بَلْ لَوْ قالَهُ كانَ صادِقًا، (p-١٢٤)ومِثْلُهُ كَثِيرٌ في مُجازاتِهِمْ ومَجارِي عاداتِهِمْ [فِي مُحاوَراتِهِمْ]، وأمّا إسْقاطُ ( لَكم ) في قِصَّةِ نُوحٍ مِن سُورَةِ هُودٍ - عَلَيْهِما السَّلامُ - فَتَواضُعًا مِنهُ؛ لِكَوْنِهِ مِن قَوْلِهِ، مِن غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِإسْنادِ الأمْرِ فِيهِ إلى اللَّهِ تَعالى: ﴿إنِّي مَلَكٌ﴾ فَأقْوى عَلى الأفْعالِ الَّتِي تَقْوى عَلَيْها المَلائِكَةُ مِنَ التَّحَرُّزِ عَنِ المَأْكَلِ والمَشْرَبِ وغَيْرِهِما مِن أفْعالِ المَلائِكَةِ.
فَلَمّا انْتَفى عَنْهُ ما ألْزَمُوهُ بِهِ و[ما] ظَنُّوهُ فِيهِ مِن كَوْنِهِ إلَهًا أوْ مَلَكًا - انْحَصَرَ الأمْرُ في أنَّهُ رَسُولٌ واقِفٌ عِنْدَ ما حَدَّهُ لَهُ مُرْسِلُهُ، فَقالَ عَلى وجْهِ النَّتِيجَةِ: ﴿إنْ﴾ أيْ: ما ﴿أتَّبِعُ﴾ أيْ: بِغايَةِ جَهْدِي ﴿إلا ما يُوحى إلَيَّ﴾ أيْ: ما رُتْبَتِي إلّا امْتِثالُ ما يَأْمُرُنِي بِهِ رَبِّي في هَذا القُرْآنِ الَّذِي هو - بِعَجْزِكم عَنْ مُعارَضَتِهِ - أعْظَمُ شاهِدٍ لِي، ولَمْ يُوحَ إلَيَّ فِيهِ أنْ أقُولَ شَيْئًا مِمّا تَقَدَّمَ نَفْيُهُ، وأوْحى إلَيَّ لِأُنْذِرَكم بِهِ خُصُوصًا، وأُنْذِرَ بِهِ كُلَّ مَن بَلَغَهُ عُمُومًا، وذَلِكَ غَيْرُ مُنْكَرٍ في العَقْلِ ولا مُسْتَبْعَدٍ بَلْ قَدْ وقَعَ الإرْسالُ لِكَثِيرٍ مِنَ البَشَرِ، وقَدْ قامَ عَلى ثُبُوتِهِ لِي واضِحُ الدَّلائِلِ وثابِتُ الحُجَجِ وقاطِعُ البَراهِينِ، فَإنْ كانَ فِيهِ الإذْنُ لِي بِإبْرازِ خارِقٍ أبْرَزْتُهُ، وإنْ كانَ فِيهِ الإعْلامُ بِمُغَيَّبٍ أبْدَيْتُهُ، وإلّا اقْتَصَرْتُ عَلى الإبْلاغِ (p-١٢٥)مَعَ التَّحَدِّي، وهو مُخْبِرٌ بِأنَّ اللَّهَ - الَّذِي ثَبَتَ بِعَجْزِكم عَنْ مُعارَضَتِهِ أنَّهُ قَوْلُهُ - شاهِدٌ لِي بِصِحَّةِ الرِّسالَةِ وصِدْقِ المَقالَةِ.
ولَمّا ثَبَتَ بِهَذا أنَّهم عُمْيُ الأبْصارِ والبَصائِرِ، لا يَهْتَدُونَ إلى ما يَنْفَعُهم، ولا يَقْدِرُونَ عَلى إفْحامِ خَصْمٍ ولا التَّفَصِّي عَنْ وهْمٍ ولا وصْمٍ، بَلْ هم كالسّالِكِ بَيْنَ المَهالِكِ، يَتَبَيَّنُ بادِئَ بَدْئِهِ في دَعْواهُ الحِكْمَةَ زُورُهُ وكَذِبُهُ وفُجُورُهُ لِأتْباعِ الهَوى الَّذِي هو أدْوَأُ [أدْواءٍ]، وأنَّهُ ﷺ أبْصَرُ البُصَراءِ وأحْكَمُ الحُكَماءِ لِأتْباعِهِ عَلّامُ الغُيُوبِ، وكانَ مَوْضِعَ أنْ يُقالَ: ما يُوحى إلَيْكَ في هَذا المَقامِ ؟ قالَ عَلى وجْهِ التَّبْكِيتِ لَهم: ﴿قُلْ﴾ أيْ: لِكُلِّ مَن يَسْمَعُ قَوْلَكَ بَعْدَ هَذا البَيانِ الفائِتِ لِقُوى الإنْسانِ ﴿هَلْ يَسْتَوِي﴾ أيْ: يَكُونُ سَواءً مِن غَيْرِ مِرْيَةٍ ﴿الأعْمى والبَصِيرُ﴾ فَإنْ قالُوا: نَعَمْ، كابَرُوا الحِسَّ، وإنْ قالُوا: لا، قِيلَ: فَمَن تَبِعَ هَذِهِ الآياتِ الجَلِيّاتِ فَهو البَصِيرُ، ومَن أعْرَضَ عَنْها فَهو العَمى، ومَن سَوّى بَيْنَ الخالِقِ وبَيْنَ شَيْءٍ مِن خَلْقِهِ فَهو أعْمى العَمى؛ ثُمَّ أمَرَهُ بَعْدَ الإنْكارِ لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُما بِأنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِمْ فَسادَ نَظَرِهِمْ وعَمى فِكْرِهِمْ، بِقَوْلِهِ: ﴿أفَلا تَتَفَكَّرُونَ﴾ أيْ: فَيَرُدُّكم فِكْرُكم عَنْ هَذِهِ الضَّلالاتِ.
{"ayah":"قُل لَّاۤ أَقُولُ لَكُمۡ عِندِی خَزَاۤىِٕنُ ٱللَّهِ وَلَاۤ أَعۡلَمُ ٱلۡغَیۡبَ وَلَاۤ أَقُولُ لَكُمۡ إِنِّی مَلَكٌۖ إِنۡ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا یُوحَىٰۤ إِلَیَّۚ قُلۡ هَلۡ یَسۡتَوِی ٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡبَصِیرُۚ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











