الباحث القرآني

وقَوْلُهُ: ﴿ولَوْ تَرى﴾ مُتَّصِلٌ بِذَلِكَ، أيْ: قالُوا هَذا القَوْلَ لَمّا أخْبَرْتُهم بِالبَعْثِ، فَساءَكَ ذَلِكَ مِن قَوْلِهِمْ والحالُ أنَّكَ لَوْ رَأيْتَ اعْتِرافَهم بِهِ إذا سَألَهم خالِقُهم لَسَرَّكَ ذَلِكَ مِن ذُلِّهِمْ وما يَؤُولُ إلَيْهِ أمْرُهم، وعَبَّرَ بِالمُضارِعِ تَصْوِيرًا لِحالِهِمْ ذَلِكَ، وقَوْلُهُ: ﴿إذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ﴾ مَجازًا عَنِ الحَبْسِ في مَقامٍ مِن مَقاماتِ الجَلالِ بِما اقْتَضاهُ إضافَةُ الرَّبِّ إلَيْهِمْ، أيْ: الَّذِي طالَ إحْسانُهُ إلَيْهِمْ وحِلْمُهُ عَنْهم، فَأظْهَرَ لَهم ما أظْهَرَ في ذَلِكَ (p-٨٩)المَقامِ مِن تَبْكِيتِهِمْ وتَوْبِيخِهِمْ وتَقْرِيعِهِمْ، وأطْلَعَهم بِما يَقْتَضِيهِ أداةُ الِاسْتِعْلاءِ - عَلى ما لَهُ سُبْحانَهُ مِن صِفاتِ العَظَمَةِ مِنَ الكِبْرِياءِ والِانْتِقامِ مِنَ التَّرْبِيَةِ إذْ لَمْ يَشْكُرُوا إحْسانَهُ في تَرْبِيَتِهِمْ، وسِياقُ الآيَةِ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ الجَوابُ: لَرَأيْتَهم قَدْ مَنَعَتْهم الهَيْبَةُ وعَدَمُ النّاصِرِ وشِدَّةُ الوَجَلِ مِنَ الكَلامِ، فَكَأنَّ سائِلًا قالَ: المَقامُ يُرْشِدُ إلى ذَلِكَ حَتّى كَأنَّهُ مُشاهَدٌ فَهَلْ يُكَلِّمُهم اللَّهُ لِما يُشْعِرُ بِهِ التَّعْبِيرُ بِوَصْفِ الرُّبُوبِيَّةِ؛ قِيلَ: نَعَمْ، لَكِنْ كَلامُ إنْكارٍ وإخْزاءٍ وإذْلالٍ ﴿قالَ ألَيْسَ هَذا﴾ أيْ: الَّذِي أتاكم بِهِ رَسُولِي مِن أمْرِ البَعْثِ وغَيْرِهِ مِمّا تَرَوْنَهُ الآنَ مِن دَلائِلَ كِبْرِيائِي ﴿بِالحَقِّ﴾ أيْ: الأمْرِ الثّابِتِ الكامِلِ في الحَقِّيَّةِ الَّذِي لا خَيالَ فِيهِ ولا سِحْرَ ﴿قالُوا﴾ أيْ: حِينِ إيقافِهِمْ عَلَيْهِ، فَكانَ ما أرادَ: ﴿بَلى﴾ وزادُوا عَلى ما أُمِرُوا بِهِ في الدُّنْيا القَسَمَ فَقالُوا: ﴿ورَبِّنا﴾ أيْ: الَّذِي أحْسَنَ إلَيْنا بِأنْواعِ الإحْسانِ، وكَأنَّ كَلامَهم هَذا مُنَزَّلٌ عَلى حالاتٍ تَنْكَشِفُ لَهم فِيها أُمُورٌ بَعْدَ أُخْرى، كُلُّ أمْرٍ أهْوَلُ مِمّا قَبْلَهُ، ويَوْمَ القِيامَةِ - كَما قالَ ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - ذُو ألْوانٍ: تارَةً لا يُكَلِّمُهم اللَّهُ، وتارَةً يُكَلِّمُهم فَيَكْذِبُونَ، وتارَةً يَسْألُهم عَنْ شَيْءٍ فَيُنْكِرُونَ، فَتَشْهَدُ (p-٩٠)جَوارِحُهم، وتارَةً يَصْدُقُونَ كَهَذا المَوْقِفِ ويَحْلِفُونَ عَلى الصِّدْقِ. ولَمّا أقَرُّوا قَهْرًا بَعْدَ كَشْفِ الغِطاءِ وفَواتِ الإيمانِ بِالغَيْبِ بِما كانُوا بِهِ يُكَذِّبُونَ، تَسَبَّبَ عَنْهُ إهانَتُهم، فَلِذا قالَ مُسْتَأْنِفًا: ﴿قالَ﴾ أيْ: اللَّهُ مُسَـبِّبًا عَنْ اعْتِرافِهِمْ حَيْثُ لا يَنْفَعُ، وتَرْكِهِمْ في الدُّنْيا حَيْثُ كانَ يَنْفَعُ ﴿فَذُوقُوا العَذابَ﴾ أيْ: الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُوعَدُونَ ﴿بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ أيْ: بِسَبَبِ دَوامِكم عَلى سَتْرِ ما دَلَّتْكم عَلَيْهِ عُقُولُكم مِن صِدْقِ رَسُولِكم، ولا شَكَّ أنَّ الكَلامَ - وإنْ كانَ عَلى هَذِهِ الصُّورَةِ - فِيهِ نَوْعُ إحْسانٍ؛ لِأنَّهُ أهْوَنُ مِنَ التَّعْذِيبِ مَعَ الإعْراضِ في مَقامِ ﴿اخْسَئُوا فِيها ولا تُكَلِّمُونِ﴾ [المؤمنون: ١٠٨] ولِذَلِكَ [كانَ ذَلِكَ] آخِرَ المَقاماتِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب