الباحث القرآني
ولَمّا خَتَمَ بِصِفَتَيْ الحِكْمَةِ والخِبْرَةِ، كانَ كَأنَّهُ قِيلَ: فَلِمَ لَمْ يَعْلَمْ أنّا نُكَذِّبُكَ بِخِبْرَتِهِ فَيُرْسِلُ مَعَكَ بِحِكْمَتِهِ مَن يَشْهَدُ لَكَ - عَلى ما يَقُولُ مِن أنَّهُ أمَرَكَ أنْ تَكُونَ أوَّلَ مَن أسْلَمَ، ونَهاكَ عَنِ الشِّرْكِ لِنُصَدِّقَكَ - مِن مَلَكٍ كَما تَقَدَّمَ سُؤالُنا لَكَ فِيهِ أوْ كِتابٍ في قِرْطاسٍ أوْ غَيْرِهِما؟ فَقالَ: قَدْ فَعَلَ، ولَمْ يَرْضَ لِي إلّا بِشَهادَتِهِ المُقَدَّسَةِ فَقالَ - أوْ يُقالُ: إنَّهُ لَمّا أقامَ الأدِلَّةَ عَلى الوَحْدانِيَّةِ والقُدْرَةِ ووَصَلَ إلى صِفَةِ القَهْرِ المُؤْذِنِ بِالِانْتِقامِ، لَمْ يَبْقَ إلّا الإشْهادُ عَلَيْهِمْ إيذانًا بِما يَسْتَحِقُّونَهُ مِن سُوءِ العَذابِ وإنْذارًا بِهِ لِئَلّا يَقُولُوا إذا حَلَّ بِهِمْ: إنَّهُ لَمْ يَأْتِنا نَذِيرٌ، فَقالَ: ﴿قُلْ﴾ أيْ: يا أيُّها الرَّسُولُ لَهم ﴿أيُّ شَيْءٍ أكْبَرُ﴾ أيْ: أعْظَمُ وأجَلُّ ﴿شَهادَةً﴾ فَإنْ أنْصَفُوا وقالُوا: اللَّهُ! فَقُلْ: هو الَّذِي يَشْهَدُ لِي، كَما قالَ في النِّساءِ ﴿لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أنْـزَلَ إلَيْكَ﴾ [النساء: ١٦٦] ولَكِنَّهُ قَطَعَ الكَلامَ هُنا إشارَةً إلى عِنادِهِمْ أوْ سُكُوتِهِمْ، أوْ إلى تَنْزِيلِهِمْ مَنزِلَةَ المُعانِدِ، أوْ العالِمِ بِالشَّيْءِ العامِلِ عَمَلَ الجاهِلِ، فَقالَ آمِرًا لَهُ ﷺ: ﴿قُلِ اللَّهُ﴾ أيْ: المَلِكُ الأعْظَمُ المُحِيطُ عِلْمًا وقُدْرَةً أكْبَرُ شَهادَةً.
(p-٤١)ولَمّا كانُوا بِمَعْرِضِ أنْ يُسَلِّمُوا ذَلِكَ ويَقُولُوا: إنَّهُ لَكَذَلِكَ، ولَكِنْ هَلُمَّ شَهادَتَهُ ! قالَ: ﴿شَهِيدٌ﴾ أيْ: هو أبْلَغُ شاهِدٍ يَشْهَدُ ﴿بَيْنِي وبَيْنَكُمْ﴾ أيْ: بِهَذا القُرْآنِ الَّذِي ثَبَتَ بِعَجْزِكم عَنْهُ أنَّهُ كَلامُهُ، وبِغَيْرِهِ مِنَ الآياتِ الَّتِي عَجَزْتُمْ عَنْ مُعارَضَتِها، ولَمّا قَرَّرَ أنَّهُ أعْظَمُ شَهِيدٍ، وأشارَ إلى شَهادَتِهِ بِالآياتِ كُلِّها - نَبَّهَ عَلى أعْظَمِها؛ لِأنَّ إظْهارَهُ تَعالى لِلْقُرْآنِ عَلى لِسانِهِ ﷺ عَلى وفْقِ دَعْواهُ شَهادَةٌ مِنَ اللَّهِ لَهُ بِالصِّدْقِ، فَقالَ ذاكِرًا لِفائِدَتِهِ في سِياقِ تَهْدِيدٍ مُتَكَفِّلٍ بِإثْباتِ الرِّسالَةِ وإثْباتِ الوَحْدانِيَّةِ، وقَدَّمَ الأوَّلَ؛ لِأنَّهُ المُقَرِّرُ لِلثّانِي والمُفْهِمُ لَهُ بِغايَتِهِ، عاطِفًا عَلى جُمْلَةِ ( شَهِيدٌ ) بانِيًا لِلْمَفْعُولِ، تَنْبِيهًا عَلى أنَّ الفاعِلَ مَعْرُوفٌ لِلْإعْجازِ، وبَنى لِلْفاعِلِ في السَّوادِ: ﴿وأُوحِيَ إلَيَّ﴾ وحَقَّقَ المُوحى بِهِ وشَخَّصَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿هَذا القُرْآنُ﴾ ولَمّا كانَ في سِياقِ التَّهْدِيدِ قالَ مُقْتَصِرًا عَلى ما يُلائِمُهُ: ﴿لأُنْذِرَكُمْ﴾ أيْ: أُخَوِّفُكم وأُحَذِّرُكم مِن اعْتِقادِ شائِبَةِ نَقْصٍ في الإلَهِ لا سِيَّما الشِّرْكُ ﴿بِهِ ومَن﴾ أيْ: وأُنْذِرُ بِهِ كُلَّ مَن ﴿بَلَغَ﴾ أيْ: بَلَغَهُ، قالَ الفَرّاءُ: والعَرَبُ تُضْمِرُ الهاءَ في صِلاتِ: ( الَّذِي) و( مَن ) و( ما) . وقالَ البُخارِيُّ في آخِرِ الصَّحِيحِ: ﴿لأُنْذِرَكم بِهِ﴾ (p-٤٢)يَعْنِي: أهْلَ مَكَّةَ، ومَن بَلَغَ هَذا القُرْآنُ فَهو لَهُ نَذِيرٌ، عَلَّقَهُ بِصِيغَةِ الجَزْمِ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ووَصَلَهُ إلَيْهِ ابْنُ أبِي حاتِمٍ كَما أفادَهُ شَيْخُنا في شَرْحِهِ. وقالَ عَبْدُ الرَّزّاقِ في تَفْسِيرِهِ: أخْبَرَنا مَعْمَرٌ عَنْ قَتادَةَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «بَلِّغُوا عَنِ اللَّهِ، فَمَن بَلَغَتْهُ آيَةٌ مِن كِتابِ اللَّهِ فَقَدْ بَلَغَهُ أمْرُ اللَّهِ». وقالَ الإمامُ تَقِيُّ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الكافِي السُّبْكِيُّ في جَوابِ سُؤالٍ ورَدَ عَلَيْهِ سَنَةَ ثَمانٍ وثَلاثِينَ وسَبْعِمِائَةٍ في أنَّ النَّبِيَّ ﷺ هَلْ بُعِثَ إلى الجِنِّ - ومِن خَطِّهِ نَقَلْتُ: الكِتابُ والسُّـنَّةُ ناطِقانِ بِذَلِكَ، والإجْماعُ قائِمٌ عَلَيْهِ، لا خِلافَ بَيْنِ المُسْلِمِينَ فِيهِ، ثُمَّ أسْنَدَ الإجْماعَ إلى أبِي طالِبٍ القُضاعِيِّ وأبِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ البَرِّ في (التَّمْهِيدِ) وأبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ في كِتابِ: (الفِصَلِ) ... وغَيْرِهِمْ، ثُمَّ قالَ: أمّا الكِتابُ فَآياتٌ، إحْداها ﴿لأُنْذِرَكم بِهِ ومَن بَلَغَ﴾ قالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ: مَن بَلَغَهُ القُرْآنُ فَكَأنَّما رَأى النَّبِيَّ ﷺ وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ - فَذَكَرَهُ، وقالَ (p-٤٣)السُّدِّيُّ: مَن بَلَغَ القُرْآنُ فَهو لَهُ نَذِيرٌ، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَن بَلَغَهُ هَذا القُرْآنُ فَأنا نَذِيرُهُ. وهَذِهِ كُلُّها أقْوالٌ مُتَّفِقَةُ المَعْنى، وقَدْ أمَرَ نَبِيَّهُ ﷺ أنَّ يَقُولَ هَذا الكَلامَ وأنْ يُنْذِرَ بِالقُرْآنِ كُلَّ مَن بَلَغَهُ، ولَمْ يَخُصَّ إنْسًا ولا جِنًّا مَن أهْلِ التَّكْلِيفِ، ولا خِلافَ أنَّ الجِنَّ مُكَلَّفُونَ. انْتَهى. وسَيَأْتِي مِمّا ذُكِرَ مِنَ الآياتِ وغَيْرِها ما يَلِيقُ بِالِاسْتِدْلالِ عَلى الإرْسالِ إلى المَلائِكَةِ - عَلَيْهِمْ السَّلامُ - فالمَعْنى: فَمَن صَدَّقَ هَذا القُرْآنَ فَقَدْ أفْلَحَ، ومِن كَذَّبَ فَلْيَأْتِ بِسُورَةٍ مِن مَثَلِهِ، ثُمَّ عَجْزُهُ شاهِدٌ عَلى نَفْسِهِ بِالكَذِبِ، وهو شَهادَةُ اللَّهِ لِي بِالصِّدْقِ، ولِأجْلِ أنَّ اللَّهَ هو الشّاهِدُ لَمْ تُنْقَضْ الشَّهادَةُ بِمَوْتِ النَّبِيِّ ﷺ بَلْ اسْتَمَرَّتْ عَلى مَرِّ الأيّامِ وكَرِّ الأعْوامِ لِبَقاءِ الشّاهِدِ وتَعالِيهِ عَنْ شَوائِبَ النَّقْصِ وسِماتِ الحَدَثِ، وإلى ذَلِكَ الإشارَةُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ «( ما مِنَ الأنْبِياءِ نَبِيٌّ إلّا قَدْ أُعْطِيَ مِنَ الآياتِ ما مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ البَشَرُ، وإنَّما كانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وحْيًا أوْحاهُ اللَّهُ إلَيَّ، فَأرْجُو أنْ أكُونَ أكْثَرَهم تابِعًا يَوْمَ القِيامَةِ» ) أخْرَجَهُ الشَّيْخانِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - . ولَعَلَّ الِاقْتِصارَ عَلى الإنْذارِ مَعَ ما تَقَدَّمَ إشارَةٌ إلى أنَّ أكْثَرَ الخَلْقِ هالِكٌ، وقَدْ ذُكِرَ في نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ أنَّ أهْلَ مَكَّةَ أتَوْا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقالُوا: أما وجَدَ اللَّهُ رَسُولًا غَيْرَكَ ؟ ما نَرى أحَدًا يُصَدِّقُكَ بِما تَقُولُ، (p-٤٤)ولَقَدْ سَألْنا عَنْكَ اليَهُودَ والنَّصارى فَزَعَمُوا أنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهم مِنكَ ذِكْرٌ، فَأرِنا مَن يَشْهَدُ أنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ كَما تَزْعُمُ، فَأنْزَلَها اللَّهُ.
ولَمّا لَمْ يَبْقَ لِمُتَعَنِّتٍ شُبْهَةٌ، ساقَ فَذْلَكَةَ ذَلِكَ وقُطْبَ دائِرَتِهِ - وهو لُزُومُ التَّوْحِيدِ الَّذِي جُعِلَتْ الرِّسالَةُ مُرَقًّى إلَيْهِ، فَإذا ثَبَتَ في قَلْبٍ فاضَتْ أنْوارُهُ بِحَسَبِ ثَباتِهِ حَتّى إنَّها رُبَّما مَلَأتْ الأكْوانَ وعَلَتْ عَلى كَيْوانَ - مَساقُ اسْتِفْهامٍ عَلى طَرِيقَةِ الإنْكارِ والتَّعْجِيبِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ وتَفْخِيمًا لِمَقامِهِ وتَنْبِيهًا لَهم عَلى أنْ يَبْعُدُوا عَنِ الشِّرْكِ فَقالَ: ﴿أإنَّكم لَتَشْهَدُونَ أنَّ مَعَ اللَّهِ﴾ أيْ: الَّذِي حازَ جَمِيعَ العَظَمَةِ ﴿آلِهَةً﴾
ولَمّا كانُوا لِكَثْرَةِ تَعَنُّتِهِمْ رُبَّما أطْلَقُوا عَلى أسْمائِهِ - سُبْحانَهُ - إلَهٌ، كَما قالُوا حِينَ سَمِعُوهُ ﷺ يَقُولُ: ( يا اللَّهُ يا رَحْمَنُ ) كَما سَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى آخِرَ الحِجْرِ وآخِرَ سُبْحانَ - صَرَّحَ بِالمَقْصُودِ عَلى وجْهٍ لا يَحْتَمِلُ النِّزاعَ، فَقالَ: ﴿أُخْرى﴾ ولَمّا كانَ كَأنَّهُ قِيلَ: إنَّهم لَيَقُولُونَ ذَلِكَ، فَماذا يُقالُ لَهُمْ؟ قالَ: ﴿قُلْ لا أشْهَدُ﴾ أيْ: مَعَكم بِشَيْءٍ مِمّا تَقُولُونَهُ لِأنَّهُ باطِلٌ، ولَوْ كانَ حَقًّا لَشَهِدْتُ بِهِ.
ولَمّا كانَ هَذا غَيْرَ قاطِعٍ لِطَمَعِهِمْ فِيهِ - اجْتَثَّهُ مِن أصْلِهِ وبِرُمَّتِهِ بِقَوْلِهِ: ﴿قُلْ إنَّما هُوَ﴾ أيْ: الإلَهُ ﴿إلَهٌ واحِدٌ﴾ وهو اللَّهُ الَّذِي (p-٤٥)لا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ وهو يُعْجِزُ كُلَّ شَيْءٍ؛ لِأنَّهُ واحِدٌ لا كُفُؤَ لَهُ، فَإنَّكم عَجَزْتُمْ عَنِ الإتْيانِ بِسُورَةٍ مِن مِثْلِ كَلامِهِ وأنْتُمْ أفْصَحُ النّاسِ.
ولَمّا كانَ مَعْنى هَذا البَراءَةُ مِن إنْذارِهِمْ - صَرَّحَ بِهِ في قَوْلِهِ مُؤَكِّدًا في جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ: ﴿وإنَّنِي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ﴾ أيْ: الآنَ وفي مُسْتَقْبَلِ الزَّمانِ إبْعادًا مِن تَطَمُّعِهِمْ أنْ تَكُونَ المُوافَقَةُ بَيْنَهُ وبَيْنَهم بِاتِّخاذِهِ الأنْدادَ أوْ شَيْئًا مِنها ولِيًّا، فَثَبَتَ التَّوْحِيدُ بِهَذِهِ الآيَةِ بِأعْظَمِ طُرُقِ البَيانِ وأبْلَغِ وُجُوهِ التَّأْكِيدِ، ولَقَدْ امْتَثَلَ ﷺ الأمْرَ بِإنْذارِ مَن يُمْكِنُ إبْلاغُهُ القُرْآنَ، فَلَمّا اسْتَراحَ عَنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ وكَثِيرٍ مِمَّنْ حَوْلَهُ مِنَ العَرَبِ في عامِ الحُدَيْبِيَةِ، وهو سَنَةُ سِتٍّ مِنَ الهِجْرَةِ، وأعْلَمَهُ اللَّهُ تَعالى أنَّ ذَلِكَ فَتْحٌ مُبِينٌ - أرْسَلَ إلى مَن يَلِيهِ مِن مُلُوكِ الأمْصارِ في ذَلِكَ العامِ وما بَعْدَهُ، وكانَ أكْثَرَ عِنْدَ مُنْصَرَفِهِ مِن [ذَلِكَ] الِاعْتِمارِ يَدْعُوهم إلى جَنّاتٍ وأنْهارٍ في دارِ القَرارِ، ويُنْذِرُهم دارَ البَوارِ، قالَ أهْلُ السِّيَرِ: «خَرَجَ ﷺ بَعْدَ رُجُوعِهِ مِن عُمْرَةِ الحُدَيْبِيَةِ الَّتِي صُدَّ عَنْها - عَلى أصْحابِهِ - رِضْوانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ - فَقالَ: ( أيُّها النّاسُ! إنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي رَحْمَةً وكافَّةً، وإنِّي أُرِيدُ أنْ أبْعَثَ بَعْضَكم إلى مُلُوكِ الأعاجِمَ )» وقالَ ابْنُ عَبْدِ الحَكَمِ في فُتُوحِ مِصْرَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ القادِرِ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قامَ ذاتَ يَوْمٍ عَلى المِنبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ وأثْنى عَلَيْهِ وتَشَهَّدَ (p-٤٦)ثُمَّ قالَ: ( أمّا بَعْدُ فَإنِّي أُرِيدُ أنْ أبْعَثَ بَعْضَكم إلى مُلُوكِ العَجَمِ، فَأدُّوا عَنِّي يَرْحَمُكم اللَّهُ، ولا تَخْتَلِفُوا عَلَيَّ كَما اخْتَلَفَ الحَوارِيُّونَ )»
وقالَ ابْنُ عَبْدِ الحَكَمِ: «اخْتَلَفَ بَنُو إسْرائِيلَ - عَلى عِيسى ابْنِ مَرْيَمَ - عَلَيْهِما السَّلامُ - فَقالَ المُهاجِرُونَ: يا رَسُولَ اللَّهِ! واللَّهِ لا نَخْتَلِفُ عَلَيْكَ في شَيْءٍ أبَدًا، فَمُرْنا وابْعَثْنا، فَسَألُوهُ: كَيْفَ اخْتَلَفَ الحَوارِيُّونَ عَلى عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ ؟ قالَ: دَعاهم إلى الَّذِي - وفي رِوايَةٍ -: لِمِثْلِ الَّذِي دَعَوْتُكم إلَيْهِ،» وقالَ ابْنُ عَبْدِ الحَكَمِ: إنَّ اللَّهَ - تَبارَكَ وتَعالى - أوْحى إلى عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - أنْ ابْعَثْ إلى مَقْدِسِ الأرْضِ، فَبُعِثَ الحَوارِيُّونَ - فَأمّا مَن بَعَثَهُ مَبْعَثًا قَرِيبًا فَرَضِيَ وسَلَّمَ، وأمّا مَن بَعَثَهُ مَبْعَثًا بَعِيدًا فَكَرِهَ وجْهَهُ وتَثاقَلَ - قالَ ابْنُ عَبْدِ الحَكَمِ: وقالَ: لا أُحْسِنُ كَلامَ مَن تَبْعَثُنِي إلَيْهِ - فَشَكا ذَلِكَ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - إلى اللَّهِ - عَزَّ وجَلَّ - فَأصْبَحَ كُلُّ رَجُلٍ - وقالَ ابْنُ عَبْدِ الحَكَمِ: فَأوْحى اللَّهُ تَعالى إلَيْهِ أنِّي سَأكْفِيكَ، فَأصْبَحَ المُتَثاقِلُونَ وكُلُّ واحِدٍ مِنهم - يَتَكَلَّمُ بِلُغَةِ الأُمَّةِ الَّتِي بُعِثَ إلَيْها. فَقالَ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ -: هَذا أمْرٌ قَدْ عَزَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ فامْضُوا لَهُ. وقالَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ الفَيْرُوزْآبادِيُّ - في القامُوسِ -: إنَّ المَكانَ الَّذِي جَمَعَ فِيهِ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - الحَوارِيِّينَ وأنْفَذَهم إلى النَّواحِي - قَرْيَةٌ بِناحِيَةِ طَبَرِيَّةَ تُسَمّى الكُرْسِيَّ. وقالَ ابْنُ إسْحاقَ: وحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أبِي حَبِيبٍ (p-٤٧)المِصْرِيُّ أنَّهُ وجَدَ كِتابًا فِيهِ ذِكْرُ مَن بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلى البُلْدانِ ومُلُوكِ [ العَرَبِ و] العَجَمِ وما قالَ لِأصْحابِهِ حِينَ بَعَثَهم، قالَ: فَبَعَثَ بِهِ إلى مُحَمَّدِ بْنِ شِهابٍ الزُّهْرِيِّ فَعَرَفَهُ - فَذَكَرَ نَحْوَ ما تَقَدِّمَ إلى أنْ قالَ: قالَ ابْنُ إسْحاقَ: وكانَ مِن بَعْثِ عِيسى ابْنِ مَرْيَمَ ﷺ مِنَ الحَوارِيِّينَ والأتْباعِ الَّذِينَ كانُوا بَعْدَهم في الأرْضِ بُطَرُسُ الحَوارِيُّ ومَعَهُ بولس - وكانَ [ بولس ] مِنَ الأتْباعِ ولَمْ يَكُنْ مِنَ الحَوارِيِّينَ - إلى رُومِيَّةَ، وأندرائس ومنتا إلى الأرْضِ الَّتِي يَأْكُلُ أهْلُها النّاسَ، وتُوماسُ إلى أرْضِ بابِلَ مِن أرْضِ المَشْرِقِ وقيبليس إلى قَرْطاجَنَّةَ، وهي إفْرِيقِيَّة، ويَحْنَسُ إلى أقسوس قَرْيَةُ [الفِتْيَةِ] أصْحابِ الكَهْفِ، ويعقوبس إلى أُوراشِلْمَ وهي إيلِياءُ قَرْيَةُ بَيْتِ المَقْدِسِ، وابْن ثَلْما إلى الأعْرابِيَّةِ، وهي أرْضُ الحِجازِ، وسيمن إلى أرْضِ البَرْبَرِ، ويُهُودا ولَمْ يَكُنْ مِنَ الحَوارِيِّينَ، جُعِلَ مَكانَ يودس. انْتَهى. كَذا رَأيْتُ في (p-٤٨)نُسْخَةٍ مُعْتَمَدَةٍ مُقابَلَةٍ مِن تَهْذِيبِ السِّيرَةِ لِابْنِ هِشامٍ، وكَذا في مُخْتَصَرِها لِلْإمامِ جَمالِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ [المُكَرَّمِ] الأنْصارِيِّ عَدَدُ رُسُلِهِ وأسْمائِهِمْ، وفي آخِرِهِمْ: قَوْلُهُ: مَكانَ يودس، ولَمْ يَتَقَدَّمْ ليودس ذِكْرٌ، والَّذِي حَرَّرْتُهُ أنا مِنَ الأناجِيلِ الَّتِي بِأيْدِي النَّصارى غَيْرُ هَذا، ولَعَلَّهُ أصَحُّ، وقَدْ جَمَعْتُ ما تَفَرَّقَ مِن ألْفاظِها، [قالَ] في إنْجِيلِ مَتّى ما نَصُّهُ: ومُعْظَمُ السِّياقِ لَهُ: ودَعا - يَعْنِي: عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - تَلامِيذَهُ الِاثْنَيْ عَشَرَ وأعْطاهم سُلْطانًا عَلى جَمِيعِ الأرْواحِ [النَّجِسَةِ] لِكَيْ يُخْرِجُوها ويَشْفُوا كُلَّ الأمْراضِ؛ وفي إنْجِيلِ مرقس: وصَعِدَ إلى الجَبَلِ ودَعا الَّذِينَ أحَبَّهم فَأتَوْا إلَيْهِ، وانْتَخَبَ اثْنَيْ عَشَرَ لِيَكُونُوا مَعَهُ ولِكَيْ يُرْسِلَهم لِيُكَرِّزُوا، وأعْطاهم سُلْطانًا عَلى شِفاءِ الأمْراضِ وإخْراجِ الشَّياطِينِ، وفي إنْجِيلِ لُوقا: وكانَ في تِلْكَ الأيّامِ خَرَجَ إلى الجَبَلِ يُصَلِّي، وكانَ ساهِرًا في صَلاةِ اللَّهِ، فَلَمّا كانَ النَّهارُ دَعا تَلامِيذَهُ واخْتارَ مِنهم اثْنَيْ عَشَرَ، وقالَ في مَوْضِعٍ آخَرَ: ودَعا الِاثْنَيْ عَشَرَ الرُّسُلَ وأعْطاهم قُوَّةً وسُلْطانًا عَلى جَمِيعِ الشَّياطِينِ وشِفاءِ المَرْضى، وأرْسَلَهم يُكَرِّزُونَ بِمَلَكُوتِ اللَّهِ ويَشْفُونَ الأوْجاعَ؛
وهَذِهِ أسْماءُ الِاثْنَيْ عَشَرَ الرُّسُلَ: سَمْعانُ المُسَمّى بُطْرُسَ، ونَسَبُهُ في مَوْضِعٍ مِن إنْجِيلِ [ مَتّى ]: ابْن يونا، وأنْدَراوِسُ أخُوهُ، ويَعْقُوبُ بْنُ زبدي ويُوحَنّا أخُوهُ (p-٤٩)قالَ في إنْجِيلِ مرقس: وسَمّاهُما بِاسْمَيْ بوانرجس اللَّذَيْنِ ابْنا الرَّعْدِ، وفيلبس وبرثولوماوس، وتُوما ومَتّى الشَّعّارُ، ويَعْقُوبُ بْنُ حلفي، ولباوس الَّذِي يُدْعى تداوس، وجَعَلَ في إنْجِيلِ مرقس بَدَلَ هَذا: تدى، وفي إنْجِيلِ لُوقا بَدَلَهُما: يَهُوذا بْنَ يَعْقُوبَ، ثُمَّ اتَّفَقُوا: وسَمْعانُ القانانِيُّ، وقالَ في إنْجِيلِ لُوقا: المَدْعُوُّ الغَيُورَ، ويَهُوذا الإسْخَرْيُوطِيُّ الَّذِي أسْلَمَهُ - أيْ: دَلَّ عَلَيْهِ في اللَّيْلَةِ الَّتِي ادَّعى اليَهُودُ القَبْضَ عَلَيْهِ فِيها - هَؤُلاءِ الِاثْنا عَشَرَ الرُّسُلُ الَّذِينَ أرْسَلَهم يَسُوعُ - وفي إنْجِيلِ مرقس: ودَعا الِاثْنَيْ عَشَرَ وجَعَلَ يُرْسِلُهم اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، وأعْطاهم السُّلْطانَ عَلى الأرْواحِ النَّجِسَةِ - قائِلًا: لا تَسْلُكُوا طَرِيقَ الأُمَمِ، ولا تَدْخُلُوا مَدِينَةَ السّامِرَةِ، وانْطَلِقُوا خاصَّةً إلى الخِرافِ الَّتِي ضَلَّتْ مِن بَيْتِ إسْرائِيلَ، وإذا ذَهَبْتُمْ فاكْرِزُوا وقولوا: قَدْ اقْتَرَبَتْ مَلَكُوتُ السَّماواتِ، اشْفُوا المَرْضى، أقِيمُوا المَوْتى، طَهِّرُوا البَرَصَ، أخْرِجُوا الشَّياطِينَ، مَجّانًا أخَذْتُمْ مَجّانًا أعْطُوا، لا تَكْنِزُوا ذَهَبًا ولا فِضَّةً ولا نُحاسًا في مَناطِقِكم ولا هُمْيانًا في الطَّرِيقِ ولا ثَوْبَيْنِ ولا حِذاءً ولا عَصًى، والفاعِلُ (p-٥٠)مُسْتَحَقٌّ طَعامَهُ، وفي إنْجِيلِ مرقس: وأمَرَهم أنْ لا يَأْخُذُوا في الطَّرِيقِ غَيْرَ عَصًى فَقَطْ ولا هُمْيانًا ولا خُبْزًا ولا فِضَّةً ولا نُحاسًا في مَناطِقِهِمْ إلّا نِعالًا في أرْجُلِهِمْ ولا يَلْبَسُوا قَمِيصَيْنِ؛ وفي إنْجِيلِ لُوقا: وقالَ لَهم: لا تَحْمِلُوا في الطَّرِيقِ شَيْئًا، لا عَصًى ولا هُمْيانًا ولا خُبْزًا ولا فِضَّةً، ولا يَكُونُ لَكم ثَوْبانِ، وأيُّ مَدِينَةٍ أوْ قَرْيَةٍ دَخَلْتُمُوها فَحِّصُوا فِيها عَمَّنْ يَسْتَحِقُّكم، وكُونُوا هُناكَ حَتّى تَخْرُجُوا، فَإذا دَخَلْتُمْ إلى البَيْتِ فَسَلِّمُوا عَلَيْهِ، فَإنْ كانَ البَيْتُ مُسْتَحِقًّا لِسَلامِكم فَهو يَحِلُّ عَلَيْهِ، وإنْ كانَ لا يَسْتَحِقُّ فَسَلامُكم راجِعٌ إلَيْكم، ومَن لا يَقْبَلُكم ولا يَسْمَعُ كَلامَكم فَإذا خَرَجْتُمْ مِن ذَلِكَ البَيْتِ وتِلْكَ القَرْيَةِ أوْ تِلْكَ المَدِينَةِ انْفُضُوا غُبارَ أرْجُلِكُمْ؛ وفي إنْجِيلِ مرقس: وقالَ لَهم: أيُّ بَيْتٍ دَخَلْتُمُوهُ أقِيمُوا فِيهِ إلى أنْ تَخْرُجُوا مِنهُ، وأيُّ مَوْضِعٍ لَمْ يَقْبَلْكم ولَمْ يَسْمَعْ مِنكم فَإذا خَرَجْتُمْ مِن هُناكَ فانْفُضُوا الغُبارَ الَّذِي تَحْتَ أرْجُلِكم لِلشَّهادَةِ عَلَيْهِمْ، الحَقَّ أقُولُ لَكُمْ! إنَّ الأرْضَ سَدُومُ وعامُورا راحَةٌ في يَوْمِ الدِّينِ أكْثَرَ مِن تِلْكَ (p-٥١)المَدِينَةِ، هو ذا أنا مُرْسِلُكم كالخِرافِ بَيْنَ الذِّئابِ، كُونُوا حُكَماءَ كالحَيَّةِ ووُدَعاءَ كالحَمامِ، احْذَرُوا مِنَ النّاسِ، فَإنَّهم يُسَلِّمُونَكم إلى المَحافِلِ، وفي مَجامِعِهِمْ يَضْرِبُونَكم، ويُقَدِّمُونَكم إلى القُوّادِ والمُلُوكِ مِن أجْلى شَهادَةً لَهم ولِلْأُمَمِ - وفي إنْجِيلِ مرقس: شَهادَةً عَلَيْهِمْ وعَلى كُلِّ الأُمَمِ، يَنْبَغِي أوَّلًا أنْ يُكَرِّزُوا بِالإنْجِيلِ - فَإذا أسْلَمُوكم فَلا تَهْتَمُّوا بِما تَقُولُونَ - وفي إنْجِيلِ مرقس: ولا ماذا تُجِيبُونَ - فَإنَّكم تُعْطَوْنَ في تِلْكَ السّاعَةِ ما تَتَكَلَّمُونَ بِهِ، ولَسْتُمْ أنْتُمْ المُتَكَلِّمِينَ لَكِنْ رُوحُ أبِيكم - وفي إنْجِيلِ مرقس: لَكِنْ رُوحَ القُدُسِ يَتَكَلَّمُ فِيمَ - وسَيُسَلِّمُ الأخُ أخاهُ إلى المَوْتِ والأبُ ابْنَهُ، ويَقُومُ الأبْناءُ عَلى آبائِهِمْ فَيَقْتُلُونَهم، وتَكُونُونَ مَبْغُوضِينَ مِنَ الكُلِّ مِن أجْلِ اسْمِي، والَّذِي يَصْبِرُ إلى المُنْتَهى يَخْلُصُ، فَإذا طَرَدُوكم مِن هَذِهِ المَدِينَةِ اهْرُبُوا إلى أُخْرى، الحَقَّ الحَقَّ أقُولُ لَكُمْ! إنَّكم لا تُكَلِّمُونَ مَدائِنَ إسْرائِيلَ حَتّى يَأْتِيَ ابْنُ الإنْسانِ، لَيْسَ تِلْمِيذٌ أفْضَلَ مِن مُعَلِّمِهِ، ولا عَبْدٌ أفْضَلَ مِن سَيِّدِهِ، وحَسْبُ التِّلْمِيذِ أنْ يَكُونَ مِثْلَ مُعَلِّمِهِ والعَبْدُ مِثْلَ سَيِّدِهِ، إنْ كانُوا سَمَّوْا رَبَّ البَيْتِ باعل زبول فَكَمْ بِالحَرِيِّ أهْلُ بَيْتِهِ! فَلا تَخافُوهم، فَلَيْسَ خَفِيٌّ إلّا سَيَظْهَرُ ولا مَكْتُومٌ إلّا سَيَعْلَمُ، الَّذِي أقُولُ لَكم (p-٥٢)فِي الظُّلْمَةِ قُولُوهُ أنْتُمْ في النُّورِ، وما سَمِعْتُمُوهُ بِآذانِكم فاكْرِزُوا بِهِ عَلى السُّطُوحِ، ولا تَخافُوا مِمَّنْ يَقْتُلُ الجَسَدَ ولا يَسْتَطِيعُ أنْ يَقْتُلَ النَّفْسَ، خافُوا مِمَّنْ يَقْدِرُ أنْ يُهْلِكَ النَّفْسَ والجَسَدَ جَمِيعًا في جَهَنَّمَ، [ألَيْسَ] عُصْفُورانِ يُباعانِ بِفَلْسٍ، وواحِدٌ مِنهُما لا يَسْقُطُ عَلى الأرْضِ دُونَ إرادَةِ أبِيكم، وأنْتُمْ فَشُعُورُ رُؤُوسِكم كُلُّها مُحْصاةٌ، فَلا تَخافُوا، فَإنَّكم أفْضَلُ مِن عَصافِيرَ كَثِيرَةٍ، لا تَظُنُّوا أنِّي جِئْتُ لِألْقى عَلى الأرْضِ سَلامَةً، لَكِنْ سَيْفًا، أتَيْتُ لِأُفَرِّقَ الإنْسانَ مِن أبِيهِ والِابْنَةَ مِن أُمِّها، والعَرُوسَ مِن حَماتِها، وأعْداءُ الإنْسانِ أهْلُ بَيْتِهِ، مَن أحَبَّ أبًا أوْ أُمًّا أكْثَرَ مِنِّي فَما يَسْتَحِقُّنِي، ومَن وجَدَ نَفْسَهُ فَلْيُهْلِكْها، ومَن أهْلَكَ نَفْسَهُ مِن أجْلِي وجَدَها، ومَن قَبِلَكم فَقَدْ قَبِلَنِي، ومَن قَبِلَنِي فَهو يَقْبَلُ الَّذِي أرْسَلَنِي، ومَن يَقْبَلُ نَبِيًّا باسِمِ نَبِيٍّ فَأجْرَ نَبِيٍّ يَأْخُذُ، ومَن يَأْخُذُ صَدِيقًا باسِمِ صَدِيقٍ فَأجْرَ صَدِيقٍ يَأْخُذُ، ومَن سَقى أحَدَ هَؤُلاءِ الصِّغارِ كَأْسَ ماءٍ بارِدٍ فَقَطْ بِاسْمِ تِلْمِيذٍ - الحَقُّ أقُولُ لَكم - إنَّ أجْرَهُ لا يَضِيعُ، ولَمّا أكْمَلَ يَسُوعُ أمْرَهُ لِتَلامِيذِهِ الِاثْنَيْ عَشَرَ - انْتَقَلَ مِن هُناكَ لِيُعَلِّمَ ويُكَرِّزَ (p-٥٣)فِي مُدُنِهِمْ.
وفِي إنْجِيلِ مرقس: فَلَمّا خَرَجُوا - يَعْنِي: الرُّسُلَ - كَرَّزُوا بِالتَّوْبَةِ وأخْرَجُوا شَياطِينَ كَثِيرَةً ومَرْضى عَدِيدَةً يَدْهِنُونَهم بِالزَّيْتِ فَيَشْفُونَ؛ وفي إنْجِيلِ لُوقا: ومِن بَعْدِ هَذا أيْضًا مَيَّزَ الرَّبُّ سَبْعِينَ آخَرِينَ ويُرْسِلُهم اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ قُدّامَ وجْهِهِ إلى كُلِّ مَدِينَةٍ ومَوْضِعٍ أزْمَعَ أنْ يَأْتِيَهُ، وقالَ لَهم: إنَّ الحَصادَ كَثِيرٌ والفَعَلَةَ قَلِيلُونَ، اطْلُبُوا مِن رَبِّ الحَصادِ لِيُخْرِجَ فَعَلَةً لِحَصادِهِ؛ وفي إنْجِيلِ مَتّى ما ظاهَرُهُ أنَّ هَذا الكَلامَ كانَ لِلِاثْنَيْ عَشَرَ، فَإنَّهُ قالَ قَبْلَ ذِكْرِ عَدَدِهِمْ: فَلَمّا رَأى الجَمْعَ تَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ لِأنَّهم كانُوا ضالِّينَ ومُطْرَحِينَ كالخِرافِ الَّتِي لَيْسَ لَها راعٍ، حِينَئِذٍ قالَ لِتَلامِيذِهِ الِاثْنَيْ عَشَرَ - إلى آخِرِ ما ذَكَرْتُهُ عَنْهُ أوَّلًا، فَيُجْمَعُ بِأنَّهُ قالَهُ لِلْفَرِيقَيْنِ - رَجَعَ إلى السِّياقِ الأوَّلِ: اذْهَبُوا، وهو ذا أرْسَلَكم كالخِرافِ بَيْنَ الذِّئابِ، لا تَحْمِلُوا هُمْيانًا ولا حِذاءً ولا مِزْوَدًا ولا تُقَبِّلُوا أحَدًا في الطَّرِيقِ، وأيَّ بَيْتٍ دَخَلْتُمُوهُ فَقُولُوا أوَّلًا: سَلامٌ لِأهْلِ هَذا البَيْتِ، فَإنْ كانَ هُناكَ ابْنُ سَلامِكم فَإنَّ سَلامَكم يَحُلُّ (p-٥٤)عَلَيْهِ، وإلّا فَسَلامُكم راجِعٌ إلَيْكم، وكُونُوا في ذَلِكَ [البَيْتِ]، كُلُوا واشْرَبُوا مِن عِنْدِهِمْ، فَإنَّ الفاعِلَ مُسْتَحِقٌّ أُجْرَتَهُ، ولا تَنْتَقِلُوا مِن بَيْتٍ إلى بَيْتٍ، وأيُّ مَدِينَةٍ دَخَلْتُمُوها ويَقْبَلُكم أهْلُها فَكُلُوا مِمّا يُقَدِّمُ لَكم، واشْفُوا المَرْضى الَّذِينَ فِيها، وقُولُوا لَهم: قَدْ قَرُبَتْ مَلَكُوتُ اللَّهِ، وأيُّ مَدِينَةٍ دَخَلْتُمُوها ولا يَقْبَلُكم أهْلُها فاخْرُجُوا مِن شَوارِعِها وقُولُوا لَهم: نَحْنُ نَنْفُضُ لَكم الغُبارَ الَّذِي لَصِقَ بِأرْجُلِنا مِن مَدِينَتِكم، لَكِنْ اعْلَمُوا أنَّ مَلَكُوتَ اللَّهِ قَدْ قَرُبَتْ، أقُولُ لَكم: إنَّ سَدُومَ في ذَلِكَ اليَوْمِ لَها راحَةٌ أكْثَرُ مِن تِلْكَ المَدِينَةِ، الوَيْلُ لَكَ يا كورزين! والوَيْلُ لَكِ يا بَيْتَ صَيْدا ! لِأنَّهُ لَوْ كانَ في صُوَرٍ وصَيْدا القُوّاتُ الَّتِي كُنَّ فِيكُما جَلَسُوا وتابُوا بِالمُسُوحِ والرَّمادِ، وأمّا صُوَرٌ وصَيْدا فَلَهُما راحَةٌ في الدَّيْنُونَةِ أكْثَرَ مِنكم، وأنْتَ يا كَفْرَ ناحُومَ لَوْ أنَّكِ ارْتَفَعْتِ إلى السَّماءِ سَوْفَ تَهْبِطِينَ إلى الجَحِيمِ، مَن سَمِعَ مِنكم فَقَدْ سَمِعَ مِنِّي، ومَن جَحَدَكم فَقَدْ جَحَدَنِي، [ومَن جَحَدَنِي] فَقَدْ شَتَمَ الَّذِي أرْسَلَنِي؛ فَرَجَعَ السَّبْعُونَ بِفَرَحٍ قائِلِينَ: يا رَبِّ ! الشَّياطِينُ بِاسْمِكَ تَخْضَعُ لَنا يا رَبِّ، فَقالَ لَهم: قَدْ رَأيْتُ الشَّيْطانَ سَقَطَ مِنَ السَّماءِ مِثْلَ البَرْقِ، وهو ذا قَدْ أعْطَيْتُكم (p-٥٥)سُلْطانًا لِتَدُوسُوا الحَيّاتِ والعَقارِبَ وكُلَّ قُوَّةِ العَدُوِّ، ولا يَضُرُّكم شَيْءٌ، ولَكِنْ لا تَفْرَحُوا بِهَذا أنَّ الأرْواحَ تَخْضَعُ لَكم، افْرَحُوا لِأنَّ أسْماءَكم مَكْتُوبَةٌ في السَّماواتِ، وفي تِلْكَ السّاعَةِ تَهَلَّلَ يَسُوعُ بِالرُّوحِ، والتَفَتَ إلى تَلامِيذِهِ خاصَّةً وقالَ: طُوبى لِلْأعْيُنِ الَّتِي تَرى ما رَأيْتُمْ ! أقُولُ لَكم: إنَّ أنْبِياءَ كَثِيرِينَ ومُلُوكًا اشْتَهَوْا أنْ يَنْظُرُوا ما نَظَرْتُمْ فَلَمْ يَنْظُرُوا، ويَسْمَعُوا ما سَمِعْتُمْ فَلَمْ يَسْمَعُوا؛ وفي إنْجِيلِ مَتّى - بَعْدَ ما ادَّعى اليَهُودُ صَلْبَهُ - أنَّهُ ظَهَرَ لِتَلامِيذِهِ الأحَدَ عَشَرَ - وهم مَن تَقَدَّمَ غَيْرَ يَهُوذا الإسْخَرْيُوطِيُّ الَّذِي أسْلَمَهُ - في الجَلِيلِ في الجَبَلِ الَّذِي أمَرَهم بِهِ يَسُوعُ، وكَلَّمَهم قائِلًا: أُعْطِيتُ كُلَّ سُلْطانٍ في السَّماءِ وعَلى الأرْضِ، فاذْهَبُوا الآنَ وتَلْمِذُوا كُلَّ الأُمَمِ؛ وفي آخِرِ إنْجِيلِ مرقس أنَّهُ ظَهَرَ لَهم وهم مُجْتَمِعُونَ، وكانُوا في تِلْكَ الأيّامِ يَبْكُونَ ويَنُوحُونَ فَبَكَّتَهم لِقِلَّةِ إيمانِهِمْ وقَسْوَةِ قُلُوبِهِمْ وقالَ لَهم: امْضُوا إلى العالَمِ أجْمَعَ، واكْرِزُوا بِالإنْجِيلِ في الخَلِيقَةِ كُلِّها، فَمَن آمَنَ واعْتَمَدَ خَلُصَ، ومَن لَمْ يُؤْمِن يُدانُ، وهَذِهِ الآياتُ تَتْبَعُ المُؤْمِنِينَ، يُخْرِجُونَ الشَّياطِينَ [بِاسْمِي] ويَتَكَلَّمُونَ بِألْسِنَةٍ جَدِيدَةٍ، ويَحْمِلُونَ بِأيْدِيهِمْ الحَيّاتِ ولا تُؤْذِيهِمْ. ويَشْرَبُونَ السُّمَّ القاتِلَ فَلا يَضُرُّهم، ويَضَعُونَ أيْدِيَهم عَلى المَرْضى فَيَبْرَؤُونَ، ومِن بَعْدِ ما كَلَّمَهم (p-٥٦)يَسُوعُ ارْتَفَعَ إلى السَّماءِ، فَخَرَجَ أُولَئِكَ يُكْرِزُونَ في كُلِّ مَكانٍ؛ وفي إنْجِيلِ لُوقا: فَلَمّا خَرَجُوا كانُوا يَطُوفُونَ في القُرى ويُبَشِّرُونَ ويَشْفُونَ في كُلِّ مَوْضِعٍ وفي آخِرِهِ بَعْدَ أنْ ذَكَرَ تَلامِذَتَهُ الأحَدَ عَشَرَ وكَلامًا كانُوا يَخُوضُونَ فِيهِ بَعْدَ ادِّعاءِ اليَهُودِ لِصَلْبِهِ: وفِيما هم يَتَكَلَّمُونَ - وقَفَ يَسُوعُ في وسَطِهِمْ وقالَ لَهم: السَّلامُ لَكم، أنا هُوَ! لا تَخافُوا، فاضْطَرَبُوا وظَنُّوا أنَّهم يَنْظُرُونَ رُوحًا فَقالَ: ما بالُكم تَضْطَرِبُونَ؟ ولِمَ تَأْتِي الأفْكارُ في قُلُوبِكُمْ؟ انْظُرُوا يَدَيَّ ورِجْلِي فَإنِّي أنا هُوَ! جُسُّونِي وانْظُرُوا، إنَّ الرُّوحَ لَيْسَ لَهُ لَحْمٌ ولا عَظْمٌ كَما تَرَوْنَ أنَّهُ لِي؛ ولَمّا قالَ هَذا أراهم يَدَيْهِ ورِجْلَيْهِ، وإذا هم غَيْرُ مُصَدِّقِينَ مِنَ الفَرَحِ، قالَ لَهم: أعِنْدَكم هَهُنا ما يُؤْكَلُ؟ فَأعْطَوْهُ جُزْءًا مِن حُوتٍ مَشْوِيٍّ ومِن شَهْدِ عَسَلٍ، فَأخَذَ قُدّامَهم وأكَلَ، وأخَذَ الباقِيَ وأعْطاهم، وقالَ لَهم: هَذا الكَلامُ الَّذِي كَلَّمْتُكم بِهِ إذْ كُنْتُ مَعَكم، وأنَّهُ سَوْفَ يَكْمُلُ كُلُّ شَيْءٍ هو مَكْتُوبٌ في نامُوسِ مُوسى والأنْبِياءِ والمَزامِيرِ لِأجْلِي، وحِينَئِذٍ فَتَحَ أذْهانَهم لِيَفْهَمُوا، وقالَ لَهم: اجْلِسُوا أنْتُمْ في المَدِينَةِ يَرُوشَلِيمَ حَتّى تَتَذَرَّعُوا لِقُوَّةٍ مِنَ العُلى، ثُمَّ أخْرَجَهم خارِجًا إلى بَيْتِ عنيا، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وبارَكَهم، وكانَ فِيما هو يُبارِكُهم انْفَرَدَ عَنْهم وصَعِدَ إلى السَّماءِ أمامَهم، فَرَجَعُوا إلى يَرُوشَلِيمَ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ، وكانُوا في كُلٍّ حِينِ يُسَبِّحُونَ (p-٥٧)ويُبارِكُونَ اللَّهَ. انْتَهى ما نَقَلْتُهُ مِنَ الأناجِيلِ. وما كانَ فِيهِ مِن لَفْظٍ يُوهِمُ نَقْصًا [ما] فَقَدْ تَقَدَّمَ في أوَّلِ آلِ عِمْرانَ أنَّهُ لا يَجُوزُ في شَرْعِنا إطْلاقُهُ عَلى اللَّهِ تَعالى وإنْ كانَ صَحَّ إطْلاقُهُ في شَرْعِهِمْ، فَهو مُؤَوَّلٌ وقَدْ نُسِخَ.
وقالَ الإمامُ مُحْيِي السُّنَّةِ البَغَوِيُّ في تَفْسِيرِ آلِ عِمْرانَ فِيما نَقَلَهُ عَنْ وهْبٍ: فَلَمّا كانَ بَعْدَ سَبْعَةِ أيّامٍ - أيْ: مِن ادِّعاءِ اليَهُودِ لِصَلْبِهِ - قالَ اللَّهُ تَعالى لِعِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ -: اهْبِطْ عَلى مَرْيَمَ المَجْدَلانِيَّةِ في جَبَلِها، فَإنَّهُ لَمْ يَبْكِ عَلَيْكَ أحَدٌ بُكاءَها، ولَمْ يَحْزَنْ [عَلَيْكَ] أحَدٌ حُزْنَها، ثُمَّ لِتَجْمَعْ لَكَ الحَوارِيِّينَ فَتَبُثُّهم في الأرْضِ دُعاةً إلى اللَّهِ تَعالى، فَأهْبَطَهُ اللَّهُ تَعالى عَلَيْها فاشْتَعَلَ الجَبَلُ حِينَ هَبَطَ نُورًا، فَجَمَعَتْ لَهُ الحَوارِيِّينَ فَبَثَّهم في الأرْضِ دُعاةً، ثُمَّ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ، وتِلْكَ اللَّيْلَةُ هي الَّتِي تَدَخَّنَ فِيها النَّصارى، فَلَمّا أصْبَحَ الحَوارِيُّونَ حَدَّثَ كُلُّ واحِدٍ مِنهم بِلُغَةِ مَن أرْسَلَهُ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - إلَيْهِمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومَكَرُوا ومَكَرَ اللَّهُ واللَّهُ خَيْرُ الماكِرِينَ﴾ [آل عمران: ٥٤] هَذا ما ذُكِرَ مِن شَأْنِ رُسُلِ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - أنَّهم كانُوا دُعاةً.
* * *
وأمّا رُسُلُ النَّبِيِّ ﷺ فَإنَّهم كانُوا مُبَلِّغِينَ لِكُتُبِهِ ﷺ (p-٥٨)فَمَن قَبِلَ ذَلِكَ كانَ حَظُّهُ مِنَ اللَّهِ، ومَن أبى كانَ جَوابُهُ السَّيْفَ الماحِقَ لِدَوْلَتِهِ - كَما ذَكَرْتُهُ مُسْتَوْفًى في شَرْحِي لِنَظْمِي لِلسِّيرَةِ وهو مَذْكُورٌ في فُتُوحِ البِلادِ؛ ولَمّا بَعَثَ ﷺ رُسُلَهُ اتَّخَذَ لِأجْلِ مُكاتَبَةِ المُلُوكِ الخاتَمَ، أخْرَجَ أبُو يَعْلى في مُسْنَدِهِ عَنْ أنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَتَبَ إلى كِسْرى وقَيْصَرَ - وفي رِوايَةٍ: وأُكَيْدِرِ دُومَةَ وإلى كُلِّ جَبّارٍ - يَدْعُوهم إلى اللَّهِ.
وأخْرَجَ الشَّيْخانِ في صَحِيحِهِما - وهَذا لَفْظُ مُسْلِمٍ - «عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ أيْضًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قالَ: لَمّا أرادَ النَّبِيُّ ﷺ أنْ يَكْتُبَ إلى الرُّومِ - وفي رِوايَةٍ: إلى العَجَمِ - قالُوا: إنَّهم لا يَقْرَؤُونَ كِتابًا إلّا مَخْتُومًا، فاتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خاتَمًا مِن فِضَّةٍ كَأنِّي أنْظُرُ إلى بَياضِهِ في يَدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ نَقْشُهُ: ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ) . فَبَعَثَ دِحْيَةَ بْنَ خَلِيفَةَ الكَلْبِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى قَيْصَرَ مَلِكِ الرُّومِ وأمَرَهُ أنْ يُوصِلَ الكِتابَ إلى عَظِيمِ بُصْرى لِيُوصِلَهُ إلَيْهِ، فَعَظَّمَ كِتابَ النَّبِيِّ ﷺ وقَبِلَهُ وقَرَأهُ ووَضَعَهُ عَلى وِسادَةٍ وعَلِمَ صِدْقَهُ ﷺ وأنَّهُ سَيَغْلِبُ عَلى مُلْكِهِ، فَجَمَعَ الرُّومَ وأمَرَهم بِالإسْلامِ فَأبَوْا، فَخافَهم فَقالَ: إنَّما أرَدْتُ أنْ أُجَرِّبَكم، ثُمَّ لَمْ يُقَدِّرْ اللَّهُ لَهُ الإسْلامَ، فَأزالَ اللَّهُ حُكْمَهُ عَنِ الشّامِ، وكَثِيرٍ مِنَ الرُّومِ عَلى يَدَيْ أبِي بَكْرٍ وعُمَرَ وعُثْمانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم» - [ثُمَّ] عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الرُّومِ أيْضًا عَلى يَدِ مَن بَعْدَهم، ومَكَّنَ بِها (p-٥٩)الإسْلامَ، لَكِنْ أثابَهُ اللَّهُ عَلى تَعْظِيمِ كِتابِ النَّبِيِّ ﷺ بِأنْ أبْقى مُلْكَهُ في أطْرافِ بِلادِهِ إلى الآنَ، وبَلَغَنِي أنَّ الكِتابَ مَحْفُوظٌ عِنْدَهم إلى هَذا الزَّمانِ؛ وبَعَثَ شُجاعَ بْنَ وهْبٍ الأسَدِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى الحارِثِ بْنِ أبِي شِمْرٍ الغَسّانِيِّ - وقالَ القُضاعِيُّ: المُنْذِرِ بْنِ أبِي شِمْرٍ عامِلِ قَيْصَرَ عَلى تُخُومِ الشّامِ [ثُمَّ] إلى جَبَلَةَ بْنِ الأيْهَمِ الغَسّانِيِّ، فَأمّا الحارِثُ أوْ المُنْذِرُ فَغَضِبَ مِنَ الكِتابِ وهَمَّ بِالمَسِيرِ إلى النَّبِيِّ ﷺ لِيُقاتِلَهُ، زَعَمَ فَنَهاهُ عَنْ ذَلِكَ قَيْصَرُ، فَأكْرَمَ شُجاعًا ورَدَّهُ وأسْلَمَ حاجِبُهُ مُرِّيٌّ الرُّومِيُّ بِما عَرَفَ مِن صِفَةِ النَّبِيِّ ﷺ في الإنْجِيلِ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ «( بادَ مُلْكُ الحارِثِ، وفازَ مُرِّيٌّ )» فَقَلَّ ما لَبِثَ الحارِثُ حَتّى ماتَ، ووَلِيَ بَعْدَهُ في مَكانِهِ جَبَلَةُ بْنُ الأيْهَمِ الغَسّانِيُّ، وهو آخِرُ مُلُوكِ غَسّانَ عَلى نَواحِي الشّامِ، فَرَدَّ إلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ شُجاعَ بْنَ وهْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَرَدَّ عَلى النَّبِيِّ ﷺ رَدًّا جَمِيلًا ولَمْ يُسْلِمْ، واسْتَمَرَّ يَتَرَبَّصُ حَتّى أسْلَمَ في خِلافَةِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمّا رَأى مِن ظُهُورِ نُورِ الإسْلامِ وخُمُودِ نارِ الشِّرْكِ، ثُمَّ إنَّهُ (p-٦٠)ارْتَدَّ - ولَحِقَ بِبِلادِ الرُّومِ - في لَطْمَةٍ أُرِيدَ أنْ يَقْتَصَّ مِنهُ فِيها، فَسُبْحانَ الفاعِلُ لِما يَشاءُ! وبَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُذافَةَ السَّهْمِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى كِسْرى مَلِكِ الفُرْسِ، وأمَرَهُ أنْ يَدْفَعَ الكِتابَ إلى عَظِيمِ البَحْرِينِ لِيُوصِلَهُ إلَيْهِ، فَلَمّا رَأى النَّبِيَّ ﷺ بَدَأ بِاسْمِهِ الشَّرِيفِ مَزَّقَ الكِتابَ قَبْلَ أنْ يَعْلَمَ ما فِيهِ، فَرَجَعَ عَبْدُ اللَّهِ، فَلَمّا سَكَنَ غَضَبُ الخَبِيثِ التَمَسَهُ فَلَمْ يَجِدْهُ فَأرْسَلَ في طَلَبِهِ فَسَبَقَ الطَّلَبَ، فَلَمّا أُخْبِرَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ تَمْزِيقِ الكِتابِ دَعا عَلى كِسْرى أنْ يُمَزَّقَ كُلَّ مُمَزَّقٍ، فَأجابَ اللَّهُ دَعْوَتَهُ فَشَتَّتَ شَمْلَهم وقَطَّعَ وصْلَهم عَلى يَدِ أبِي بَكْرٍ وعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - ثُمَّ قُتِلَ يَزْدِجِرْدُ آخِرَ مُلُوكِهِمْ في خِلافَةِ عُثْمانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأصْبَحَ مُلْكُ الأكاسِرَةِ كَأمْسِ الدّابِرِ، وعَمَّ بِلادَهم الإسْلامُ وظَهَرَتْ بِها كَلِمَةُ الإيمانِ، بَلْ تَجاوَزَ الإسْلامُ مُلْكَهم إلى ما وراءِ النَّهْرِ وإلى بِلادِ الخَطا. وبَعَثَ حاطِبَ بْنَ أبِي بَلْتَعَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى المُقَوْقِسِ صاحِبِ مِصْرَ والإسْكَنْدَرِيَّةِ، فَعَلِمَ مِن صِدْقِ النَّبِيِّ ﷺ ما عَلِمَهُ قَيْصَرُ مِنَ الإنْجِيلِ، فَأكْرَمَ الرَّسُولَ وأهْدى لِلنَّبِيِّ ﷺ ورَدَّ رَدًّا جَمِيلًا ولَمْ يُسْلِمْ، فَأبادَ اللَّهُ مُلْكَهُ عَلى يَدِ عَمْرِو بْنِ العاصِ أمِيرٍ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما -. وبَعَثَ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى النَّجاشِيِّ فَآمَنَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقالَ: أشْهَدُ أنَّهُ النَّبِيُّ ﷺ الأُمِّيُّ الَّذِي يَنْتَظِرُهُ أهْلُ الكِتابِ، وأنَّ بِشارَةَ مُوسى بِراكِبِ الحِمارِ كَبِشارَةِ عِيسى بِراكِبِ الجَمَلِ - عَلَيْهِمْ السَّلامُ - . (p-٦١)وأنَّ العِيانَ لَيْسَ بِأشْفى مِنَ الخَبَرِ، وأهْدى لِلنَّبِيِّ ﷺ هَدايا كَثِيرَةً، وأرْسَلَ ابْنَهُ بِإسْلامِهِ في سَبْعِينَ مِنَ الحَبَشَةِ، وقالَ في كِتابِهِ: وإنِّي لا أمْلِكُ إلّا نَفْسِي ومَن آمَنَ بِكَ مِن قَوْمِي، وإنْ أحْبَبْتَ أنْ آتِيَكَ يا رَسُولَ اللَّهِ فَعَلْتُ؛ فَصَلّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلى النَّجاشِيِّ واسْتَغْفَرَ لَهُ. وبَعَثَ العَلاءَ بْنَ الحَضْرَمِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى المُنْذِرِ بْنِ ساوى العَبْدِيِّ مَلِكِ البَحْرَيْنِ وإلى أُسَيْحِتِ مَرْزُبانِ هَجَرَ بِكِتابٍ يَدْعُوهُما فِيهِ إلى الإسْلامِ أوْ الجِزْيَةِ، وأرْضُ البَحْرَيْنِ مِن بِلادِ العَرَبِ، لَكِنْ كانَ الفُرْسُ قَدْ غَلَبُوا عَلَيْها، وبِها خَلْقٌ كَثِيرٌ مِن عَبْدِ القَيْسِ وبَكْرِ بْنِ وائِلٍ وتَمِيمٍ فَأسْلَمَ المُنْذِرُ وأُسَيْحِتُ وجَمِيعُ مَن هُناكَ مِنَ العَرَبِ وبَعْضِ العَجَمِ، فَأقَرَّهُ النَّبِيُّ ﷺ عَلى عَمَلِهِ. وبَعَثَ سَلِيطَ بْنَ عَمْرٍو العامِرِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى هَوْذَةَ بْنِ عَلِيٍّ الحَنَفِيِّ صاحِبِ اليَمامَةِ، وكانَ عامِلًا لِقَيْصَرَ عَلى قَوْمِهِ، فَقَرَأ كِتابَ النَّبِيِّ ﷺ ورَدَّ رَدًّا دُونَ رَدٍّ، فَصادَفَ أنْ قَدِمَ عَلَيْهِ راهِبٌ مِن دِمَشْقَ، فَأخْبَرَهُ أنَّهُ لَمْ يُجِبْ إلى الإسْلامِ، فَقالَ: لِمَ ؟ قالَ: ضَنِنْتُ بِمُلْكِي، قالَ الرّاهِبُ: لَوْ تَبِعْتَهُ لَأقَرَّكَ والخَيْرُ لَكَ في اتِّباعِهِ، فَإنَّهُ النَّبِيُّ ﷺ بَشَّرَ بِهِ (p-٦٢)عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - قالَ هَوْذَةُ لِلرّاهِبِ: فَما لَكَ لا تَتَّبِعُهُ؟ فَقالَ: أجِدُنِي أحْسُدُهُ وأُحِبُّ الخَمْرَ، فَكَتَبَ هَوْذَةُ كِتابًا [وبَعَثَ] إلى النَّبِيِّ ﷺ بِهَدِيَّةٍ مَكانَهُ ذَلِكَ، وشَعَرَ بِهِ قَوْمُهُ [فَأتَوْهُ] فَهَدَّدُوهُ، فَرَدَّ الرَّسُولَ واسْتَمَرَّ عَلى نَصْرانِيَّتِهِ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ لَمّا رَجَعَ إلَيْهِ سَلِيطٌ:
«( بادَ هَوْذَةُ وبادَ ما في يَدِهِ )» فَلَمّا انْصَرَفَ النَّبِيُّ ﷺ مِن فَتْحِ [ مَكَّةَ ] جاءَهُ جَبْرَئِيلُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - بِأنَّ هَوْذَةَ ماتَ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «( أما إنَّ اليَمامَةَ سَيَخْرُجُ بِها كَذّابٌ يَتَنَبَّأُ يُقْتَلُ بَعْدِي )،» فَكانَ كَذَلِكَ كَما هو مَشْهُورٌ مِن أمْرِ مُسَيْلِمَةَ الكَذّابِ. وبَعَثَ المُهاجِرَ بْنَ أبِي أُمَيَّةَ المَخْزُومِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى الحارِثِ بْنِ عَبْدِ كُلالٍ الحِمْيَرِيِّ مَلِكِ اليَمَنِ، فَلَمّا بَلَغَهُ رِسالَةُ النَّبِيِّ ﷺ قالَ الحارِثُ: قَدْ كانَ هَذا النَّبِيُّ عَرَضَ نَفْسَهُ عَلَيَّ فَخُطِّئْتُ عَنْهُ، وكانَ ذُخْرًا لِمَن صارَ إلَيْهِ، وسَأنْظُرُ، وتَباطَأ بِهِ الحالُ إلى أنْ أسْلَمَ عِنْدَ رُجُوعِ النَّبِيِّ ﷺ مِن تَبُوكَ سَنَةَ الوُفُودِ، وكاتَبَ النَّبِيَّ ﷺ – بِذَلِكَ. وبَعَثَ عَمْرَو بْنَ العاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى جَيْفَرٍ وعَبْدٍ ابْنَيِ الجَلَنْدِيِّ الأزْدِيَّيْنِ مَلِكَيْ عُمانَ، فَتَوَقَّفا واضْطَرَبَ (p-٦٣)رَأْيُهُما، ثُمَّ عَزَمَ اللَّهُ لَهُما عَلى الرُّشْدِ فَقالَ جَيْفَرٌ: إنَّهُ - واللَّهِ - قَدْ دَلَّنِي عَلى هَذا النَّبِيِّ ﷺ الأُمِّيِّ أنَّهُ لا يَأْمُرُ بِخَيْرٍ إلّا كانَ أوَّلَ آخِذٍ بِهِ، و[لا] يَنْهى عَنْ شَرٍّ إلّا كانَ أوَّلَ تارِكٍ لَهُ، وأنَّهُ يَغْلِبُ فَلا يَبْطَرُ، ويَغْلِبُ فَلا يَفْجُرُ، وأنَّهُ يُوَفِّي بِالعَهْدِ ويُنْجِزُ الوَعْدَ، ولا يَزالُ يَطَّلِعُ عَلى سِرِّ قَوْمٍ يُساوِي فِيهِ أهْلَهُ، وإنِّي أشْهَدُ أنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وأسْلَمَ أخُوهُ أيْضًا، وكَتَبا إلى النَّبِيِّ ﷺ بِإسْلامِهِما، فَقالَ خَيْرًا وأثْنى خَيْرًا، وكانَ في سِيَرِ هَؤُلاءِ الرُّسُلِ - لَعَمْرِي - غَيْرَ ما ذُكِرَ أحادِيثُ عَجائِبُ وأقاصِيصُ غَرائِبُ مِن دَلائِلَ النُّبُوَّةِ وأعْلامِ الرِّسالَةِ، خَشِيتُ مِن ذِكْرِها الإطالَةَ وأنْ تُمَلَّ وإنْ لَمْ يَكُنْ فِيها ما يَقْتَضِي مَلالَهُ، وقَدْ شَفَيْتُ في شَرْحِي لِنَظْمِي لِلسِّيرَةِ بِاسْتِيفائِها القَلِيلَ في تَرْتِيبٍ جَمِيلٍ ونَظْمٍ أُسْلُوبُهُ لَعَمْرِي جَلِيلٌ، هَؤُلاءِ رُسُلُ البَشَرِ، وأمّا الرُّسُلُ مِنَ الجِنِّ فَقَدْ رَوى الطَّبَرانِيُّ في الكَبِيرِ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإذْ صَرَفْنا إلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ﴾ [الأحقاف: ٢٩] قالَ: كانُوا تِسْعَةَ نَفَرٍ مِن أهْلِ نَصِيبِينَ، فَجَعَلَهم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رُسُلًا إلى قَوْمِهِمْ قالَ الهَيْثَمِيُّ: وفي سَنَدِهِ النَّضْرُ أبُو عُمَرَ وهو مَتْرُوكٌ، ويُؤَيِّدُ عُمُومَ هَذِهِ الآيَةِ في تَناوُلِها المَلائِكَةَ - عَلَيْهِمْ السَّلامُ - قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [الفرقان: ١] وإذا (p-٦٤)تَأمَّلْتَ سِياقَ الآياتِ الَّتِي بَعْدَها مَعَ آخِرِ السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَها قَطَعْتَ بِذَلِكَ ﴿لِيُنْذِرَ مَن كانَ حَيًّا﴾ [يس: ٧٠] ﴿إنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ﴾ [يس: ١١] إذْ هم مِن جُمْلَةِ العالَمِينَ ومِمَّنْ بَلَغَهُ القُرْآنُ ومِمَّنْ هو حَيٌّ ومِمَّنْ اتَّبَعَ الذَّكْرَ، والخِطابُ بِالإنْذارِ وارِدٌ مَوْرِدَ التَّغْلِيبِ، إذْ الإنْسُ والجِنُّ أهْلٌ لَهُ، فانْتَفى ما يُقالُ: إنَّ المَلائِكَةَ في غايَةِ الخَوْفِ مِنَ اللَّهِ تَعالى مَعَ عِصْمَتِهِمْ فَلَيْسُوا مِمَّنْ يُخَوَّفُ، ويَزِيدُ ذَلِكَ وُضُوحًا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومَن يَقُلْ مِنهم إنِّي إلَهٌ مِن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٢٩] ولا إنْذارَ أعْظَمُ مِن ذَلِكَ، وإنَّ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - مِن هَذِهِ الأُمَّةِ ومِمَّنْ شَمِلَتْهُ الآياتُ الدّالَّةُ عَلى عُمُومِ الرِّسالَةِ بِغَيْرِ شَكٍّ، وإنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «( والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَوْ كانَ مُوسى حَيًّا لَما وسِعَهُ إلّا اتِّباعِي)» أخْرَجَهُ الإمامُ أحْمَدُ والدّارِمِيُّ والبَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ عَنْ جابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومَذْهَبُ أهْلِ السُّنَّةِ أنَّ رُسُلَ البَشَرِ أفْضَلُ مِن رُسُلِ المَلائِكَةِ، وقَدْ ثَبَتَتْ رِسالَتُهُ إلى الأفْضَلِ المَعْصُومِ بِالفِعْلِ لِعِيسى، وبِالتَّعْلِيقِ بِالحَياةِ بِمُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - وقَدْ أخَذَ اللَّهُ - سُبْحانَهُ - مِيثاقَ النَّبِيِّينَ كُلِّهِمْ - عَلَيْهِمْ السَّلامُ - إنْ أدْرَكُوهُ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ، وقَدْ خُوطِبَ النَّبِيُّ ﷺ وهو أشْرَفُ الخَلْقِ وأكْمَلُهم - بِالإنْذارِ في غَيْرِ آيَةٍ، فَمَهْما أُوِّلَ بِهِ ذَلِكَ في حَقِّهِ ﷺ قِيلَ مِثْلُهُ في حَقِّهِمْ - عَلَيْهِمْ السَّلامُ - (p-٦٥)ومِمّا يَرْفَعُ النِّزاعَ ويَدْفَعُ تَعَلُّلَ المُتَعَلِّلِ بِالإنْذارِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِتُنْذِرَ بِهِ وذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف: ٢] فَحَذْفُ مَفْعُولِ ( تُنْذِرَ ) دالٌّ عَلى عُمُومِ رِسالَتِهِ، وتَعْلِيقُ الذِّكْرى بِالمُؤْمِنِينَ مُدْخِلٌ لَهم بِلا رَيْبٍ؛ لِأنَّهم مِن رُؤُوسِهِمْ - عَلَيْهِمْ السَّلامُ - وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِتُبَشِّرَ بِهِ المُتَّقِينَ﴾ [مريم: ٩٧] إلى غَيْرِها مِنَ الآياتِ، فَيَكُونُ عُمُومُ رِسالَتِهِ لَهم زِيادَةَ شَرَفٍ لَهُ، وهو واضِحٌ، وزِيادَةَ شَرَفٍ لَهم بِحَمْلِ أنْفُسِهِمْ عَلى طاعَتِهِ والتَّقَيُّدِ بِما حَدَّهُ لَهم مِن أعْمالِ مِلَّتِهِ طاعَةً لِلَّهِ تَعالى زِيادَةً في أُجُورِهِمْ ورِفْعَةِ دَرَجاتِهِمْ، وذَلِكَ مِثْلَ ما قالَ أبُو حَيّانَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وكُنْ مِنَ الشّاكِرِينَ﴾ [الأعراف: ١٤٤] إنَّ في الأمْرِ لَهُ بِذَلِكَ مَزِيدُ تَأْكِيدٍ وحُصُولُ أجْرٍ بِالِامْتِثالِ؛ وقالَ القاضِي عِياضٌ في الفَصْلِ السّابِعِ مِنَ البابِ الأوَّلِ مِنَ القِسْمِ الأوَّلِ مِنَ الشِّفا في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإذْ أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكم مِن كِتابٍ وحِكْمَةٍ﴾ [آل عمران: ٨١] قالَ المُفَسِّرُونَ: أخَذَ اللَّهُ المِيثاقَ بِالوَحْيِ، فَلَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا إلّا ذَكَرَ لَهُ مُحَمَّدًا ونَعْتَهُ وأخَذَ عَلَيْهِ مِيثاقَهُ إنْ أدْرَكَهُ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ، ويُعَضِدُّ ذَلِكَ ما قالَ في أوَّلِ البابِ الأوَّلِ: وحُكِيَ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ لِجَبْرَئِيلَ - عَلَيْهِ السَّلامُ -: (p-٦٦)( هَلْ أصابَكَ مِن هَذِهِ الرَّحْمَةِ المَذْكُورَةِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما أرْسَلْناكَ إلا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٧] شَيْءٌ ؟ قالَ: نَعَمْ ! كُنْتُ أخْشى العاقِبَةَ فَآمَنتُ لِثَناءِ اللَّهِ - عَزَّ وجَلَّ - عَلَيَّ بِقَوْلِهِ: ﴿ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي العَرْشِ مَكِينٍ﴾ [التكوير: ٢٠] ﴿مُطاعٍ ثَمَّ أمِينٍ﴾ [التكوير: ٢١]» ورَوى مُسْلِمٌ في كِتابِ ( الصَّلاةِ ) عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «( فُضِّلْتُ عَلى الأنْبِياءِ بِسِتٍّ: أُعْطِيتُ جَوامِعَ الكَلِمِ، ونُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وأُحِلَّتْ لِيَ الغَنائِمُ، وجُعِلَتْ لِيَ الأرْضُ طَهُورًا ومَسْجِدًا، وأُرْسِلْتُ إلى الخَلْقِ كافَّةً، وخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ )» وحَمْلُ مَن حَمَلَ الخَلْقَ عَلى النّاسِ؛ لِلرِّوايَةِ الَّتِي فِيها: ( إلى النّاسِ) - تَحَكُّمٌ، بَلْ العَكْسُ أوْلى لِمُطابَقَةِ الآياتِ، وقَدْ خَرَجَ مِن هَذا العُمُومِ مَن لا يَعْقِلُ بِالدَّلِيلِ العَقْلِيِّ، فَبَقِيَ غَيْرُهم داخِلًا في اللَّفْظِ، لا يَحِلُّ لِأحَدٍ أنْ يُخْرِجَ مِنهُ أحَدًا مِنهم إلّا بِنَصٍّ صَرِيحٍ ودِلالَةٍ قاطِعَةٍ تَرْفَعُ النِّزاعَ، وقالَ عِياضٌ في البابِ الثّالِثِ مِنَ القِسْمِ الأوَّلِ: وذَكَرَ البَزّارُ «عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَمّا أرادَ اللَّهُ تَعالى أنْ يُعَلِّمَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ الأذانَ - فَذَكَرَ المِعْراجَ وسَماعَ الأذانِ مِن وراءِ الحِجابِ، ثُمَّ قالَ: ثُمَّ أخَذَ المَلَكُ بِيَدِ مُحَمَّدٍ ﷺ فَقَدَّمَهُ، فَأمَّ بِأهْلِ السَّماءِ فِيهِمْ آدَمُ ونُوحٌ» . انْتَهى. ورَوى عَبْدُ الرَّزّاقِ عَنْ سَلْمانَ الفارِسِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «( إذا كانَ الرَّجُلُ بِأرْضِ قِيٍّ (p-٦٧)فَحانَتْ الصَّلاةُ فَلْيَتَوَضَّأْ، فَإنْ لَمْ يَجِدْ الماءَ فَلْيَتَيَمَّمْ، فَإنْ أقامَ صَلّى مَعَهُ مَلَكاهُ، وإنْ أذَّنَ وأقامَ صَلّى خَلْفَهُ مِن جُنُودِ اللَّهِ ما لا يُرى طَرَفاهُ» ) قالَ المُنْذِرِيُّ: القِيُّ - بِكَسْرِ القافِ وتَشْدِيدِ الياءِ، وهي الأرْضُ القَفْرُ. ورَوى مالِكٌ والسِّتَّةُ - إلّا التِّرْمِذِيَّ - وأبُو يَعْلى عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «( إذا قالَ الإمامُ ﴿غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولا الضّالِّينَ﴾ [الفاتحة: ٧] فَقُولُوا آمِينَ)» - وفي رِوايَةٍ: «إذا أمَّنَ الإمامُ فَأمِّنُوا - فَإنَّهُ مَن وافَقَ [تَأْمِينُهُ] - تَأْمِينَ المَلائِكَةِ - وفي رِوايَةٍ: مَن وافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ المَلائِكَةِ - غُفِرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ». وفي رِوايَةٍ في الصَّحِيحِ: ) «إذا قالَ أحَدُكم في الصَّلاةِ: آمِينَ، وقالَتْ المَلائِكَةُ في السَّماءِ: آمِينَ، فَوافَقَتْ إحْداهُما الأُخْرى غُفِرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ لَهُ مِن ذَنْبِهِ)» وفي رِوايَةٍ لِأبِي يَعْلى: «إذا قالَ الإمامُ ﴿غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولا الضّالِّينَ﴾ [الفاتحة: ٧] قالَ الَّذِينَ خَلْفَهُ: آمِينَ، التَقَتْ مِن أهْلِ السَّماءِ وأهْلِ الأرْضِ آمِينَ، غُفِرَ لِلْعَبْدِ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ». ولِلشَّيْخَيْنِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أيْضًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «( إذا قالَ الإمامُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَن حَمِدَهُ، فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنا لَكَ الحَمْدُ، فَإنَّهُ مَن وافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ المَلائِكَةِ غُفِرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ)» وفي رِوايَةٍ: «فَإذا وافَقَ قَوْلُ أهْلِ السَّماءِ قَوْلَ أهْلِ (p-٦٨)الأرْضِ غُفِرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ؛» في أشْكالِ ذَلِكَ مِمّا يُؤْذِنُ بِائْتِمامِ المَلائِكَةِ بِأئِمَّتِنا، وذَلِكَ ظاهِرٌ في التَّقَيُّدِ بِشَرْعِنا؛ ورَوى أحْمَدُ وأبُو داوُدَ والنَّسائِيُّ وابْنُ خُزَيْمَةَ وابْنُ حِبّانَ في صَحِيحِهِما والحاكِمُ، وجَزَمَ ابْنُ مَعِينٍ والذُّهْلِيُّ بِصِحَّتِهِ - عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ:
) «وإنَّ الصَّفَّ الأوَّلَ عَلى مِثْلِ صَفِّ المَلائِكَةِ» ) وأدَلُّ مِن جَمِيعِ ما مَضى ما رَوى مالِكٌ والشَّيْخانِ وأبُو داوُدَ وابْنُ خُزَيْمَةَ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «( مَن اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمْعَةِ غُسْلَ الجَنابَةِ ثُمَّ راحَ في السّاعَةِ الأُولى فَكَأنَّما قَرَّبَ بَدَنَةً، ومَن راحَ في السّاعَةِ الثّانِيَةِ فَكَأنَّما قَرَّبَ بَقَرَةً، ومَن راحَ في السّاعَةِ الثّالِثَةِ فَكَأنَّما قَرَّبَ كَبْشًا أقْرَنَ، ومَن راحَ في السّاعَةِ الرّابِعَةِ فَكَأنَّما قَرَّبَ دَجاجَةً، ومَن راحَ في السّاعَةِ الخامِسَةِ فَكَأنَّما قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإذا خَرَجَ الإمامُ حَضَرَتْ المَلائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ)؛» وفي رِوايَةٍ: ) «فَإذا قَعَدَ الإمامُ طُوِيَتْ الصُّحُفُ )». [وفِي رِوايَةٍ لِأحْمَدَ عَنْ أبِي سَعِيدٍ: «( فَإذا أذَّنَ المُؤَذِّنُ وجَلَسَ الإمامُ عَلى المِنبَرِ طُوِيَتْ الصُّحُفُ] ودَخَلُوا المَسْجِدَ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ )» . فَإنَّ تَرْكَهم لِكِتابَةِ النّاسِ وإقْبالَهم عَلى الِاسْتِماعِ دَلِيلٌ واضِحٌ عَلى الِائْتِمامِ، بِما رَواهُ الشَّيْخانِ وغَيْرُهُما عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أيْضًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «( إذا قُلْتَ لِصاحِبِكَ (p-٦٩)يَوْمَ الجُمْعَةِ: أنْصِتْ، والإمامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ)» قالَ الحَلِيمِيُّ في الرّابِعِ مِن شُعَبِ الإيمانِ، في الجَوابِ عَمّا أُورِدَ عَلى قَوْلِهِ: ﴿لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ والجِنُّ عَلى أنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذا القُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ﴾ [الإسراء: ٨٨] مِن أنَّ التَّخْصِيصَ بِالإنْسِ والجِنِّ لا يَمْنَعُ قُدْرَةَ المَلائِكَةِ عَلى المُعارَضَةِ ما نَصُّهُ: وأمّا المَلائِكَةُ فَلَمْ يَتَّحِدُوا عَلى ذَلِكَ؛ لِأنَّ الرِّسالَةَ إذا لَمْ تَكُنْ إلَيْهِمْ لَمْ يَكُنْ القُرْآنُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ، فَسَواءٌ كانُوا قادِرِينَ عَلى مِثْلِهِ أوْ عاجِزِينَ - وهم عِنْدَنا عاجِزُونَ - وقالَ في الخامِسَ عَشَرَ في أنَّ مِن أنْواعِ تَعْظِيمِهِ الصَّلاةَ عَلَيْهِ فَأمَرَ اللَّهُ عِبادَهُ أنْ يُصَلُّوا عَلَيْهِ ويُسَلِّمُوا، وقَدَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ إخْبارَهم بِأنَّ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ، فَأمَرَ اللَّهُ عِبادَهُ لِنَبِيِّهِمْ بِذَلِكَ عَلى ما في الصَّلاةِ عَلَيْهِ مِنَ الفَضْلِ إذا كانَتْ المَلائِكَةُ مَعَ انْفِكاكِهِمْ عَنْ شَرِيعَتِهِ تَتَقَرَّبُ إلى اللَّهِ تَعالى بِالصَّلاةِ والتَّسْلِيمِ عَلَيْهِ - لِيَعْلَمُوا أنَّهم بِالصَّلاةِ والتَّسْلِيمِ عَلَيْهِ أوْلى وأحَقُّ، هَذا نَصَّهُ في المَوْضِعَيْنِ، ولَمْ يَذْكُرْ لِذَلِكَ دَلِيلًا، ونَسَبَ الجَلالُ المَحَلِّيُّ في شَرْحِهِ لِجَمْعِ الجَوامِعِ مِثْلَ ذَلِكَ إلى البَيْهَقِيِّ في الشُّعَبِ فَإنَّهُ قالَ: وصَرَّحَ الحَلِيمِيُّ والبَيْهَقِيُّ في البابِ الرّابِعِ مِن شُعَبِ الإيمانِ بِأنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - لَمْ يُرْسِلْ إلى المَلائِكَةِ، وفي البابِ الخامِسَ عَشَرَ بِانْفِكاكِهِمْ مِن شَرْعِهِ، قالَ: وفي تَفْسِيرِ الإمامِ الرّازِيِّ والبُرْهانِ النَّسَفِيِّ (p-٧٠)حِكايَةُ الإجْماعِ في تَفْسِيرِ الآيَةِ الثّانِيَةِ - أيْ: ﴿لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [الفرقان: ١] أنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَسُولًا إلَيْهِمْ. انْتَهى. وهو شَهادَةُ نَفْيٍ - كَما تَرى - لا يَنْهَضُ بِما ذَكَرْتُهُ مِنَ النُّصُوصِ عَلى أنَّ الحَلِيمِيَّ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ إلّا لِقَوْلِهِ بِأنَّ المَلائِكَةَ أفْضَلُ مِنَ الأنْبِياءِ، كَما نَقَلَهُ عَنْهُ الإمامُ فَخْرُ الدِّينِ في كِتابِ (الأرْبَعِينَ) والشَّيْخُ سَعْدُ الدِّينِ التَّفْتازانِيِّ في (شَرْحِ المَقاصِدِ) وغَيْرِهِما، ولَمْ يُوافِقْهُ عَلى ذَلِكَ أحَدٌ مِن أهْلِ السُّنَّةِ إلّا القاضِي أبُو بَكْرٍ الباقِلّانِيُّ، فَكَما لَمْ يُوافِقْ عَلى الأصْلِ لا يُوافِقُ عَلى الفَرْعِ، وأمّا البَيْهَقِيُّ فَإنَّما نَقَلَهُ عَنِ الحَلِيمِيِّ وسُكُوتُهُ عَلَيْهِ لا يُوجِبُ القَطْعَ بِرِضاهُ، قالَ الزَّرْكَشِيُّ في شَرْحِ جَمْعِ الجَوامِعِ: وهي مَسْألَةٌ وقَعَ النِّزاعُ فِيها بَيْنَ فُقَهاءِ مِصْرَ مَعَ فاضِلِ دَرْسٍ عِنْدَهم، وقالَ لَهم: المَلائِكَةُ ما دَخَلَتْ في دَعْوَتِهِ، فَقامُوا عَلَيْهِ، وقَدْ ذَكَرَ الإمامُ فَخْرُ الدِّينِ في تَفْسِيرِ سُورَةِ الفُرْقانِ الدُّخُولَ مُحْتَجًّا بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [الفرقان: ١] والمَلائِكَةُ داخِلُونَ في هَذا العُمُومِ. انْتَهى. وهَذا يَقْدَحُ فِيما نُقِلَ عَنْهُ مِن نَقْلِ الإجْماعِ، وعَلى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ فَفِيهِ أُمُورٌ: أمّا أوَّلًا: فالإجْماعُ لا يَرْجِعُ إلّا إلى أهْلِ الِاطِّلاعِ عَلى المَنقُولاتِ مِن حُفّاظِ الآثارِ وأقاوِيلِ السَّلَفِ فِيهِ. وأمّا ثانِيًا: فَإنَّهُ نَقْلٌ يَحْتَمِلُ التَّصْحِيحَ والتَّضْعِيفَ؛ لِأنَّهُ بِطُرُقِهِ احْتِمالُ أنْ يَكُونَ نُقِلَ عَمَّنْ لا يُعْتَدُّ بِهِ، أوْ يَكُونُ (p-٧١)أخَذَهُ عَنْ أحَدٍ مُذاكَرَةً وأحْسَنَ الظَّنَّ بِهِ، أوْ حَصَلَ لَهُ سَهْوٌ، ونَحْوُ ذَلِكَ، فَلا وُثُوقَ إلّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ المَنقُولِ عَنْهُ وسَنَدِ النَّقْلِ والِاعْتِضادِ بِما يُوجِبُ الثِّقَةَ لِيُقاوِمَ هَذِهِ الظَّواهِرَ الكَثِيرَةَ. وأمّا ثالِثًا: فَإنَّهُ سَيَأْتِي عَنِ الإمامِ تَقِيِّ الدِّينِ السُّبْكِيِّ أنَّ بَعْضَ المُفَسِّرِينَ قالَ بِالإرْسالِ إلى المَلائِكَةِ، وقالَ الإمامُ ولِيُّ الدِّينِ أبُو زُرْعَةَ أحْمَدُ بْنُ الحافِظِ زَيْنُ الدِّينِ العِراقِيُّ في شَرْحِهِ (لِجَمْعِ الجَوامِعِ): وأمّا كَوْنُهُ مَبْعُوثًا إلى الخَلْقِ أجْمَعِينَ فالمُرادُ المُكَلَّفُ مِنهم، وهَذا يَتَناوَلُ الإنْسَ والجِنَّ والمَلائِكَةَ، فَأمّا الأوَّلانِ فَبِالإجْماعِ، وأمّا المَلائِكَةُ فَمَحَلُّ خِلافٍ فَأيْنَ الإجْماعُ ! هَذا عَلى تَقْدِيرِ صِحَّةِ هَذا النَّقْلِ وأنّى لِمُدَّعِي ذَلِكَ بِهِ فَإنِّي راجَعْتُ تَفْسِيرَ الإمامِ لِلْآيَةِ المَذْكُورَةِ فَلَمْ أجِدْ فِيهِ نَقْلَ الإجْماعِ، وإنَّما قالَ: ثُمَّ قالُوا: هَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أحْكامٍ: الأوَّلُ: أنَّ العالَمَ كُلُّ ما سِوى اللَّهِ، فَيَتَناوَلُ جَمِيعَ المُكَلَّفِينَ مِنَ الجِنِّ والإنْسِ والمَلائِكَةِ، لَكِنّا نُبِّئْنا أنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - لَمْ يَكُنْ رَسُولًا إلى المَلائِكَةِ، فَوَجَبَ أنْ يُنْفى كَوْنُهُ رَسُولًا إلى الجِنِّ والإنْسِ جَمِيعًا، وبَطَلَ قَوْلُ مَن قالَ: إنَّهُ كانَ رَسُولًا إلى البَعْضِ دُونَ البَعْضِ. الثّانِي: أنَّ لَفْظَ ”العالَمِينَ“ يَتَناوَلُ جَمِيعَ المَخْلُوقاتِ، فَتَدُلُّ الآيَةُ عَلى أنَّهُ رَسُولٌ إلى المُكَلَّفِينَ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، فَوَجَبَ أنَّ يَكُونَ خاتَمَ الأنْبِياءِ والرُّسُلِ - هَذا لَفْظُهُ في أكْثَرِ النُّسَخِ، وفي بَعْضِها: لَكِنّا أجْمَعْنا - بَدَلَ: نُبِّئْنا - وهي غَيْرُ صَرِيحَةٍ في إجْماعِ الأُمَّةِ - كَما تَرى - ولَمْ يُعَيِّنْ المَوْضِعَ الَّذِي أحالَ عَلَيْهِ في النُّسَخِ (p-٧٢)الأُخْرى - فَلْيُطْلَبْ مِن مَظانِّهِ ويُتَأمَّلْ، وأمّا النَّسَفِيُّ فَمُخْتَصِرٌ لَهُ - واللَّهُ المُوَفِّقُ -. ثُمَّ رَأيْتُ في خُطْبَةِ كِتابِ: ( الإصابَةِ في أسْماءِ الصَّحابَةِ ) لِشَيْخِنا حافِظِ عَصْرِهِ أبِي الفَضْلِ ابْنِ حَجَرٍ في تَعْرِيفِ الصَّحابِيِّ: وقَدْ نَقَلَ الإمامُ فَخْرُ الدِّينِ في: ( أسْرارِ التَّنْزِيلِ) الإجْماعَ عَلى أنَّهُ ﷺ لَمْ يَكُنْ مُرْسَلًا إلى المَلائِكَةِ، ونُوزِعَ في هَذا النَّقْلِ، بَلْ رَجَّحَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ أنَّهُ كانَ مُرْسَلًا إلَيْهِمْ واحْتَجَّ بِأشْياءَ يَطُولُ شَرْحُها. انْتَهى. والعَجَبُ مِنَ الرّازِيِّ في نَقْلِ هَذا الَّذِي لا يُوجَدُ لِغَيْرِهِ مَعَ أنَّهُ قالَ في أسْرارِ التَّنْزِيلِ في أواخِرِ الفَصْلِ الثّانِي مِنَ البابِ الثّالِثِ في الِاسْتِدْلالِ بِخَلْقِ الآدَمِيِّ عَلى وُجُودِ الخالِقِ: الوَجْهُ الرّابِعُ - أيْ: في تَكْرِيمِ بَنِي آدَمَ - أنَّهُ جَعَلَ أباهم رَسُولًا إلى المَلائِكَةِ؛ حَيْثُ قالَ: ﴿أنْبِئْهم بِأسْمائِهِمْ﴾ [البقرة: ٣٣] وقَدْ تَقَرَّرَ أنَّ كُلَّ كَرامَةٍ كانَتْ لِنَبِيٍّ مِنَ الأنْبِياءِ فَلِنَبِيِّنا ﷺ [مِثْلُها أوْ أعْظَمُ] مِنها، [وقالَ في تَفْسِيرِهِ الكَبِيرِ في ﴿وعَلَّمَ آدَمَ الأسْماءَ﴾ [البقرة: ٣١] ولا يَبْعُدُ أيْضًا أنْ يَكُونَ مَبْعُوثًا إلى مَن يُوَجِّهُ التَّحْذِيرَ إلَيْهِمْ مِنَ المَلائِكَةِ؛ لِأنَّ جَمِيعَهم وإنْ كانُوا رُسُلًا فَقَدْ يَجُوزُ الإرْسالُ إلى الرَّسُولِ لِبَعْثَةِ إبْراهِيمَ إلى لُوطٍ - عَلَيْهِما السَّلامُ - . انْتَهى. وأنْتَ خَبِيرٌ بِأمْرِ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - بَعْدَ نُزُولِهِ مِنَ السَّماءِ]، والحاصِلُ أنَّ رِسالَتَهُ ﷺ إلَيْهِمْ - صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - رُتْبَةٌ فاضِلَةٌ ودَرَجَةٌ عالِيَةٌ (p-٧٣)كامِلَةٌ جائِزَةٌ لَهُ، لائِقَةٌ بِمَنصِبِهِ، مُطابِقَةٌ لِما ورَدَ مِنَ القَواطِعِ لِعُمُومِ رِسالَتِهِ وشُمُولِ دَعْوَتِهِ، وقَدْ دَلَّتْ عَلى حِيازَتِهِ لَها ظَواهِرُ الكِتابِ والسُّنَّةِ مَعَ أنَّهُ لا يَلْزَمُ مِن إثْباتِها لَهُ إشْكالٌ في الدِّينِ ولا مَحْذُورٌ في الِاعْتِقادِ، فَلَيْسَ لَنا التَّجْرِيءُ عَلى نَفْيِها إلّا بِقاطِعٍ كَما قالَ إمامُنا الشّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كِتابِ ( الرِّسالَةِ ) في آيَةِ الأنْعامِ ﴿قُلْ لا أجِدُ في ما أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا﴾ [الأنعام: ١٤٥] قالَ: فاحْتَمَلَتْ مَعْنَيَيْنِ: أحَدُهُما أنْ لا يَحْرُمَ عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ أبَدًا إلّا ما اسْتَثْنى اللَّهُ - عَزَّ وجَلَّ - وهَذا المَعْنى الَّذِي إذا وُوجِهَ رَجُلٌ مُخاطَبًا بِهِ كانَ الَّذِي يَسْبِقُ إلَيْهِ أنَّهُ لا يَحْرُمُ [عَلَيْهِ] غَيْرُ ما سَمّى اللَّهُ - عَزَّ وجَلَّ - مُحَرَّمًا، وما كانَ هَكَذا فَهو الَّذِي يُقالُ لَهُ أظْهَرُ المَعانِي وأعَمُّها وأغْلَبُها [والَّذِي] لَوْ احْتَمَلَتْ الآيَةُ مَعانِيَ سِواهُ - كانَ هو المَعْنى الَّذِي يَلْزَمُ أهْلَ العِلْمِ القَوْلُ بِهِ إلّا أنْ تَأْتِيَ سُنَّةٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ بِأبِي هو وأُمِّي - تَدُلُّ عَلى مَعْنًى غَيْرَهُ مِمّا تَحْتَمِلُهُ الآيَةُ، فَنَقُولُ: هَذا مَعْنًى ما أرادَ اللَّهُ - عَزَّ وجَلَّ - ولا يُقالُ بِخاصٍّ في كِتابِ اللَّهِ ولا سُنَّةٍ إلّا بِدِلالَةٍ فِيهِما أوْ في واحِدٍ [مِنهُما]، ولا يُقالُ (p-٧٤)بِخاصٍّ حَتّى تَكُونَ الآيَةُ تَحْتَمِلُ أنْ تَكُونَ أُرِيدُ بِها ذَلِكَ الخاصُّ، فَأمّا ما لَمْ تَكُنْ مُحْتَمِلَةً لَهُ فَلا يُقالُ فِيها بِما لا تَحْتَمِلُ الآيَةُ. انْتَهى. وشَرَحَهُ الإمامُ أبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ في المُحَلّى فَقالَ: ولا يَحِلُّ لِأحَدٍ أنْ يَقُولَ في آيَةٍ أوْ [فِي] خَبَرٍ: هَذا مَنسُوخٌ أوْ مَخْصُوصٌ في بَعْضِ ما يَقْتَضِيهِ ظاهِرُ لَفْظِهِ، ولا أنَّ لِهَذا النَّصِّ تَأْوِيلًا غَيْرَ مُقْتَضى ظاهِرِ لَفْظِهِ، ولا أنَّ هَذا الحُكْمَ غَيْرُ واجِبٍ عَلَيْنا مِن حِينِ وُرُودِهِ إلّا بِنَصٍّ آخَرَ وارِدٍ بِأنَّ هَذا النَّصَّ كَما ذُكِرَ، أوْ بِإجْماعٍ مُتَيَقَّنٍ بِأنَّهُ كَما ذُكِرَ، أوْ بِضَرُورَةِ حِسٍّ مُوجِبَةٍ أنَّهُ كَما ذُكِرَ، بُرْهانُهُ: ﴿وما أرْسَلْنا مِن رَسُولٍ إلا لِيُطاعَ بِإذْنِ اللَّهِ﴾ [النساء: ٦٤] ﴿وما أرْسَلْنا مِن رَسُولٍ إلا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ [إبراهيم: ٤] وقالَ: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أمْرِهِ أنْ تُصِيبَهم فِتْنَةٌ﴾ [النور: ٦٣] ومَن ادَّعى أنَّ المُرادَ بِالنَّصِّ بَعْضُ ما يَقْتَضِيهِ في اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ، لا كُلُّ ما يَقْتَضِيهِ فَقَدْ أسْقَطَ بَيانَ النَّصِّ، وأسْقَطَ وُجُوبَ الطّاعَةِ لَهُ بِدَعْواهُ الكاذِبَةِ، ولَيْسَ بَعْضُ ما يَقْتَضِيهِ النَّصُّ بِأوْلى بِالِاقْتِصارِ عَلَيْهِ (p-٧٥)مِن سائِرِ ما يَقْتَضِيهِ. انْتَهى. وقالَ أهْلُ الأُصُولِ: إنَّ الظّاهِرَ [ما] دَلَّ عَلى المَعْنى دِلالَةً ظَنِّيَّةً، أيْ: راجِحَةً، والتَّأْوِيلُ حَمْلُ الظّاهِرِ عَلى المُحْتَمَلِ المَرْجُوحِ، فَإنْ حُمِلَ عَلَيْهِ لِدَلِيلٍ فَصِيحٍ - أوْ لِما نَظُنُّ دَلِيلًا ولَيْسَ في الواقِعِ بِدَلِيلٍ - فَفاسِدٌ، أوْ لا لِشَيْءٍ فَلَعِبٌ لا تَأْوِيلٌ، [قالَ الإمامُ الغَزالِيُّ في كِتابِ المَحَبَّةِ مِنَ الإحْياءِ في الكَلامِ عَلى أنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعالى في الآخِرَةِ هَلْ هي بِالعَيْنِ أوْ بِالقَلْبِ: والحَقُّ ما ظَهَرَ لِأهْلِ السُّنَّةِ والجَماعَةِ مِن شَواهِدِ الشَّرْعِ أنَّ ذَلِكَ يُخْلَقُ في العَيْنِ، لِيَكُونَ لَفْظُ الرُّؤْيَةِ والنَّظَرِ وسائِرِ الألْفاظِ الوارِدَةِ في الشَّرْعِ مُجْرًى عَلى ظاهِرِهِ؛ إذْ لا يَجُوزُ إزالَةُ الظَّواهِرِ إلّا لِضَرُورَةٍ. انْتَهى]، وقالَ الإمامُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ في جَوابِ السُّؤالِ عَنِ الرِّسالَةِ إلى الجِنِّ الَّذِي تَقَدَّمَ في أوَّلِ الكَلامِ عَلى هَذِهِ الآيَةِ أنِّي رَأيْتُهُ بِخَطِّهِ: الآيَةُ العاشِرَةُ: ﴿لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [الفرقان: ١] قالَ المُفَسِّرُونَ كُلُّهم في تَفْسِيرِها: لِلْجِنِّ والإنْسِ، وقالَ بَعْضُهم: والمَلائِكَةِ. الثّانِيَةَ عَشْرَةَ: ﴿وما أرْسَلْناكَ إلا كافَّةً لِلنّاسِ﴾ [سبإ: ٢٨] قالَ المُفَسِّرُونَ: مَعْناها: إلّا إرْسالًا عامًّا شامِلًا لِجَمِيعِ النّاسِ، أيْ: لَيْسَ بِخاصٍّ بِبَعْضِ النّاسِ، فَمَقْصُودُ الآيَةِ نَفْيُ الخُصُوصِ وإثْباتُ العُمُومِ، ولا مَفْهُومَ لَها فِيما وراءَ النّاسِ، بَلْ قُوَّتُها في العُمُومِ يَقْتَضِي عَدَمَ الخُصُوصِيَّةِ فِيهِمْ وحِينَئِذٍ يَشْمَلُ (p-٧٦)الجِنَّ، ولَوْ كانَ مَقْصُودُ الآيَةِ حَصْرَ رِسالَتِهِ في النّاسِ لَقالَ: وما أرْسَلْناكَ إلّا إلى النّاسِ، فَإنَّ كَلِمَةَ ( إلّا ) تَدْخُلُ عَلى ما يُقْصَدُ الحَصْرُ فِيهِ، فَلَمّا أدْخَلَها عَلى ”كافَّة“ دَلَّ عَلى أنَّهُ المَقْصُودُ بِالحَصْرِ، ويَبْقى قَوْلُهُ: ”لِلنّاسِ“ لا مَفْهُومَ لَهُ، أمّا أوَّلًا فَلِأنَّهُ مَفْهُومُ قَلْبٍ وأمّا ثانِيًا فَلِأنَّهُ لا يُقْصَدُ بِالكَلامِ، أمّا ثالِثًا فَلِأنَّهُ قَدْ قِيلَ: إنَّ ”النّاس“ يَشْمَلُ الإنْسَ والجِنَّ، أيْ: عَلى القَوْلِ بِأنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ النَّوْسِ، وهو التَّحَرُّكُ، وهو عَلى هَذا شامِلٌ لِلْمَلائِكَةِ أيْضًا، ومِمَّنْ صَرَّحَ مِن أهْلِ اللُّغَةِ بِأنَّ ”النّاس“ يَكُونُ مِنَ الإنْسِ ومِنَ الجِنِّ الإمامُ أبُو إبْراهِيمَ إسْحاقُ بْنُ إبْراهِيمَ الفارابِيُّ في كِتابِهِ: ( دِيوانُ الأدَبِ )، قالَ السُّبْكِيُّ: السّابِعَةَ عَشْرَةَ
﴿إنْ هو إلا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ﴾ [يوسف: ١٠٤] الثّامِنَةَ عَشْرَةَ ﴿إنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالغَيْبِ﴾ [يس: ١١] ونَحْوُهُما كَقَوْلِهِ: ﴿لِيُنْذِرَ مَن كانَ حَيًّا﴾ [يس: ٧٠] وكَذا قَوْلُهُ: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢] وأمّا السُّنَّةُ فَأحادِيثُ: الأوَّلُ حَدِيثُ مُسْلِمٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «( وأُرْسِلْتُ إلى الخَلْقِ كافَّةً )،» ( إلى الخَلْقِ ... ) عامٌّ يَشْمَلُ الجِنَّ بِلا شَكٍّ، ولا يَرِدُ عَلى هَذا أنَّهُ ورَدَ في رِواياتِ هَذا الحَدِيثِ مِن طُرُقٍ أُخْرى في صَحِيحِالبُخارِيِّ وغَيْرِهِ ( النّاسِ) مَوْضِعَ ( الخَلْقِ ) لِأنّا نَقُولُ: ذَلِكَ مِن رِوايَةِ جابِرٍ، وهَذا مِن رِوايَةِ أبِي هُرَيْرَةَ؛ فَلَعَلَّهُما حَدِيثانِ، وفي رِوايَةِ الخَلْقِ زِيادَةُ مَعْنًى عَلى النّاسِ، فَيَجِبُ (p-٧٧)الأخْذُ بِهِ إذْ لا تَعارُضَ بَيْنَهُما، ثُمَّ جُوِّزَ أنْ يَكُونَ مَن رَوى ( النّاسَ) رَوى بِالمَعْنى فَلَمْ يُوفِّ بِهِ، قالَ: وهَذا الحَدِيثُ يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَن قالَ: إنَّهُ مُرْسَلٌ إلى المَلائِكَةِ ولا يُسْتَنْكَرُ هَذا، فَقَدْ يَكُونُ لَيْلَةَ الإسْراءِ يَسْمَعُ مِنَ اللَّهِ كَلامًا فَبَلَّغَهُ لَهم في السَّماءِ أوْ لِبَعْضِهِمْ، وبِذَلِكَ يَصِحُّ أنَّهُ مُرْسَلٌ إلَيْهِمْ، ولا يَلْزَمُ مِن كَوْنِهِ مُرْسَلًا إلَيْهِمْ مِن حَيْثُ الجُمْلَةِ أنْ يَلْزَمَهم جَمِيعُ الفُرُوعِ الَّتِي تَضَمَّنَتْها شَرِيعَتُهُ، فَقَدْ يَكُونُ مُرْسَلًا إلَيْهِمْ في بَعْضِ الأحْكامِ أوْ في بَعْضِ الأشْياءِ الَّتِي لَيْسَتْ بِأحْكامٍ، أوْ يَكُونُ يَحْصُلُ لَهم بِسَماعِ القُرْآنِ زِيادَةُ إيمانٍ، ولِهَذا جاءَ فِيمَن قَرَأ سُورَةَ الكَهْفِ: فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ مِثْلَ الظُّلَّةِ، ثُمَّ قالَ في أثْناءِ كَلامٍ: بِخِلافِ المَلائِكَةِ، لا يُلْتَزَمُ أنَّ هَذِهِ التَّكالِيفَ كُلَّها ثابِتَةٌ في حَقِّهِمْ إذا قِيلَ بِعُمُومِ الرِّسالَةِ لَهم، بَلْ يُحْتَمَلُ ذَلِكَ ويُحْتَمَلُ في شَيْءٍ خاصٍّ - كَما أشَرْنا إلَيْهِ فِيما قَبْلُ - . انْتَهى. قُلْتُ: ولا يُنْكَرُ اخْتِصاصُ الأحْكامِ بِبَعْضِ المُرْسَلِ إلَيْهِمْ دُونَ بَعْضٍ في شَرْعٍ واحِدٍ في الأحْرارِ والعَبِيدِ والنِّساءِ والرِّجالِ والحَطّابِينَ والرِّعاءِ بِالنِّسْبَةِ إلى بَعْضِ أعْمالِ الحَجِّ وغَيْرِ ذَلِكَ مِمّا يَكْثُرُ تَعْدادُهُ - واللَّهُ المُوَفِّقُ؛ ومَن تَجَرَّأ عَلى نَفْيِ الرِّسالَةِ إلَيْهِمْ مِن أهْلِ زَمانِنا بِغَيْرِ نَصٍّ صَرِيحٍ يَضْطَرُّهُ إلَيْهِ، كانَ ضَعِيفَ العَقْلِ مُضْطَرِبَ الإيمانِ مُزَلْزَلَ اليَقِينِ سَقِيمَ الدِّينِ، ولَوْ كانَ حاكِيًا لِما قِيلَ (p-٧٨)عَلى وجْهِ الرِّضا بِهِ، فَما كُلُّ ما يُعْلَمُ يُقالُ، وكَفى بِالمَرْءِ إثْمًا أنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ ما سَمِعَ، ولَعَمْرِي! إنَّ الأمْرَ لَعَلى ما قالَ صاحِبُ البُرْدَةِ وتَلَقَّتْهُ الأُمَّةُ بِالقَبُولِ، وطُرِبَ عَلَيْهِ في المَحافِلِ والجُمُوعِ:
؎دَعْ ما ادَّعَتْهُ النَّصارى في نَبِيِّهِمُ واحْكم بِما شِئْتَ مَدْحًا فِيهِ واحْتَكِمِ
{"ayah":"قُلۡ أَیُّ شَیۡءٍ أَكۡبَرُ شَهَـٰدَةࣰۖ قُلِ ٱللَّهُۖ شَهِیدُۢ بَیۡنِی وَبَیۡنَكُمۡۚ وَأُوحِیَ إِلَیَّ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانُ لِأُنذِرَكُم بِهِۦ وَمَنۢ بَلَغَۚ أَىِٕنَّكُمۡ لَتَشۡهَدُونَ أَنَّ مَعَ ٱللَّهِ ءَالِهَةً أُخۡرَىٰۚ قُل لَّاۤ أَشۡهَدُۚ قُلۡ إِنَّمَا هُوَ إِلَـٰهࣱ وَ ٰحِدࣱ وَإِنَّنِی بَرِیۤءࣱ مِّمَّا تُشۡرِكُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق