الباحث القرآني
ولَمّا قَدَّمَ أنَّهُ المُحْسِنُ إلى كُلِّ شَيْءٍ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وخَتَمَ بِالتَّهْدِيدِ بِالحَشْرِ، (p-٣٤٤)أتْبَعَهُ التَّذْكِيرَ بِتَخْصِيصِهِمْ بِالإحْسانِ، فَقالَ عاطِفًا عَلى ﴿وهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ١٦٤] مُسْتَعْطِفًا لَهم إلَيْهِ بِالتَّذْكِيرِ بِنِعْمَتِهِ: ﴿وهُوَ﴾ أيْ: لا غَيْرُهُ ﴿الَّذِي جَعَلَكُمْ﴾ أيْ: أيُّها الإنْسُ ﴿خَلائِفَ الأرْضِ﴾ أيْ: تَفْعَلُونَ فِيها فِعْلَ الخَلِيفَةِ مُتَمَكِّنِينَ مِن كُلِّ ما تُرِيدُونَهُ، ويَجُوزُ أنْ يُرادَ بِذَلِكَ العَرَبُ، ويَكُونَ ظاهِرُ الكَلامِ أنَّ المُرادَ بِالأرْضِ ما هم فِيهِ مِن جَزِيرَةِ العَرَبِ، وباطِنُهُ البِشارَةُ بِإعْلاءِ دِينِهِمْ الإسْلامِ عَلى الدِّينِ كُلِّهِ وغَلَبَتِهِمْ عَلى أكْثَرِ أهْلِ الأرْضِ في هَذِهِ الأزْمانِ وعَلى جَمِيعِ أهْلِ الأرْضِ في آخِرِ الزَّمانِ ﴿ورَفَعَ بَعْضَكُمْ﴾ في مَراقِي العَقْلِ والعِلْمِ والدِّينِ والمالِ والجاهِ والقُوَّةِ الحِسِّيَّةِ والمَعْنَوِيَّةِ ﴿فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ﴾ أيْ: مَعَ كَوْنِكم مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ، ورُبَّما كانَ الوَضِيعُ أعْقَلَ مِنَ الرَّفِيعِ ولَمْ يَنْفَعْهُ عَقْلُهُ فَيَدُلُّ ذَلِكَ دِلالَةً واضِحَةً عَلى أنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ إنَّما هو فِعْلُ الواحِدِ القَهّارِ، لا بِعَجْزٍ ولا جَهْلٍ ولا بُخْلٍ. ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ﴾ أيْ: يَفْعَلُ مَعَكم فِعْلَ المُخْتَبِرِ؛ لِيُقِيمَ الحُجَّةَ عَلَيْكم وهو أعْلَمُ بِكم مِنكم ﴿فِي ما آتاكُمْ﴾ فَيَنْظُرُ هَلْ يَرْحَمُ الجَلِيلُ الحَقِيرَ، ويَرْضى الفَقِيرُ بِعَطائِهِ اليَسِيرِ، ويَشْكُرُ القَوِيُّ، ويَصْبِرُ الضَّعِيفُ! .
. ولَمّا ذَكَرَ عُلُوَّ بَعْضِهِمْ عَلى بَعْضٍ، وكانَ مِن طَبْعِ الآدَمِيِّ التَّجَبُّرُ - أتْبَعَهُ التَّهْدِيدَ لِلظّالِمِ والِاسْتِعْطافَ لِلتّائِبِ بِما يُشِيرُ - بِما لَهُ - سُبْحانَهُ - مِن عُلُوِّ الشَّأْنِ وعَظِيمِ القُدْرَةِ - إلى ضَعْفِ العالِي مِنهم وعَجْزِهِ عَنْ عِقابِ السّافِلِ بِمَن يَحُولُ بَيْنَهُ وبَيْنَهُ مِن شَفِيعٍ وناصِرٍ وبِما يَحْتاجُ إلَيْهِ مِن (p-٣٤٥)تَمْهِيدِ الأسْبابِ، مُحَذِّرًا مِنَ البَغْيِ والعِصْيانِ، فَقالَ مُوَجِّهًا الخِطابَ إلى أكْمَلِ الخَلْقِ تَطْيِيبًا لِقَلْبِهِ إعْلامًا بِأنَّهُ رَبّاهُ - سُبْحانَهُ - أجْمَلَ تَرْبِيَةٍ وأدَّبَهُ أحْسَنَ تَأْدِيبٍ: ﴿إنَّ رَبَّكَ﴾ أيْ: المُحْسِنَ إلَيْكَ ﴿سَرِيعُ العِقابِ﴾ أيْ: لِمَن يُرِيدُ عِقابَهُ مِمَّنْ يَكْفُرُ نِعْمَتَهُ لِكَوْنِهِ لا حائِلَ بَيْنَهُ وبَيْنَ مَن يُرِيدُ عِقابَهُ ولا يَحْتاجُ إلى اسْتِحْضارِ آلاتِ العِقابِ، بَلْ كُلُّ ما يُرِيدُ حاضِرٌ لَدَيْهِ عَتِيدٌ
﴿إنَّما أمْرُهُ إذا أرادَ شَيْئًا أنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: ٨٢] وفي ذَلِكَ تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ لِمَن لا يَتَّعِظُ.
ولَمّا هَدَّدَ وخَوَّفَ - رَجى مَن أرادَ التَّوْبَةَ واسْتَعْطَفَ، فَقالَ: ﴿وإنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ مُعْلِمًا بِأنَّهُ - عَلى تَمامِ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِمْ وانْهِماكِهِمْ فِيما يُوجِبُ الإهْلاكَ - بَلِيغُ المَغْفِرَةِ لَهم عَظِيمُ الرَّحْمَةِ ﴿ولَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِن دابَّةٍ﴾ [النحل: ٦١] حَثًّا عَلى عَفْوِ الرَّفِيعِ مِنَ الوَضِيعِ، وتَأْكِيدُهُ الثّانِي دُونَ الأوَّلِ ناظِرٌ إلى قَوْلِهِ: ﴿كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الأنعام: ١٢] (إنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي) لِأنَّهُ في سِياقِ التَّأْدِيبِ لِهَذِهِ الأُمَّةِ والتَّذْكِيرِ بِالإنْعامِ عَلَيْهِمْ بِالِاسْتِخْلافِ، وسَيَأْتِي في الأعْرافِ بِتَأْكِيدِ الِاثْنَيْنِ؛ لِأنَّهُ في حِكايَةِ ما وقَعَ لِبَنِي إسْرائِيلَ مِن إسْراعِهِمْ في الكُفْرِ ومُبادَرَتِهِمْ إلَيْهِ واسْتِحْقاقِهِمْ عَلى ذَلِكَ العُقُوبَةَ، وجاءَ ذَلِكَ عَلى طَرِيقِ الِاسْتِئْنافِ عَلى تَقْدِيرِ أنَّ قائِلًا قالَ: حِينَئِذٍ (p-٣٤٦)يُسْرِعُ العالِي إلى عُقُوبَةِ السّافِلِ! فَأُجِيبَ بِأنَّ اللَّهَ فَوْقَ الكُلِّ وهو أسْرَعُ عُقُوبَةً، فَهو قادِرٌ عَلى أنَّ يُسَلِّطَ الوَضِيعَ أوْ أحْقَرَ مِنهُ عَلى الرَّفِيعِ فَيُهْلِكَهُ. ثُمَّ رَغَّبَ بَعْدَ هَذا التَّرْهِيبِ في العَفْوِ بِأنَّهُ عَلى غِناهُ عَنِ الكُلِّ أسْبَلَ ذَيْلَ غُفْرانِهِ ورَحْمَتَهُ بِإمْهالِهِ العُصاةَ وقَبُولِهِ اليَسِيرَ مِنَ الطّاعاتِ بِأنَّهُ خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ وجَعَلَ الظُّلُماتِ والنُّورَ مَنافِعَ لَهم ثُمَّ هم بِهِ يَعْدِلُونَ! ولَوْلا غُفْرانُهُ ورَحْمَتُهُ لَأسْرَعَ عِقابُهُ لِمَن عَدَلَ بِهِ غَيْرَهُ فَأسْقَطَ عَلَيْهِمْ السَّماواتِ وخَسَفَ بِهِمْ الأرَضِينَ الَّتِي أنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِالخِلافَةِ فِيها وأذْهَبَ عَنْهم النُّورَ وأدامَ الظَّلامَ، فَقَدْ خَتَمَ السُّورَةَ بِما بِهِ ابْتَدَأها، فَإنَّ قَوْلَهُ: ﴿وهُوَ الَّذِي جَعَلَكم خَلائِفَ الأرْضِ﴾ هو المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكم مِن طِينٍ﴾ [الأنعام: ٢] وقَوْلَهُ: ﴿أغَيْرَ اللَّهِ أبْغِي رَبًّا وهو رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ١٦٤] هو مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ وجَعَلَ الظُّلُماتِ والنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ [الأنعام: ١] واللَّهُ المُوَفِّقُ.
{"ayah":"وَهُوَ ٱلَّذِی جَعَلَكُمۡ خَلَـٰۤىِٕفَ ٱلۡأَرۡضِ وَرَفَعَ بَعۡضَكُمۡ فَوۡقَ بَعۡضࣲ دَرَجَـٰتࣲ لِّیَبۡلُوَكُمۡ فِی مَاۤ ءَاتَىٰكُمۡۗ إِنَّ رَبَّكَ سَرِیعُ ٱلۡعِقَابِ وَإِنَّهُۥ لَغَفُورࣱ رَّحِیمُۢ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق