الباحث القرآني

ولَمّا كانَ أسْوَأُ السُّوءِ حُقُوقَ العَذابِ، وكانَ حُقُوقُهُ بِعَدَمِ قَبُولِ التَّوْبَةِ - فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ مُهَوِّنًا لَهُ ومُسَهِّلًا بِتَجْرِيدِ الفِعْلِ: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾ أيْ: ما يَنْتَظِرُونَ هَؤُلاءِ المُكَذِّبُونَ أدْنى انْتِظارٍ وأقْرَبَهُ وأيْسَرَهُ ﴿إلا أنْ تَأْتِيَهُمُ﴾ [أيْ: حالَ تَكْذِيبِهِمْ] ﴿المَلائِكَةُ﴾ أيْ: بِالأمْرِ الفَيْصَلِ مِن عَذابِهِمْ (p-٣٣٢)كَما هي عادَتُها في إتْيانِها المُكَذِّبِينَ ﴿أوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ﴾ أيْ: ظُهُورُ أمْرِ المُحْسِنِ إلَيْكَ أتَمَّ ظُهُورٍ بِجَمِيعِ الآياتِ الَّتِي تَحْمِلُها العُقُولُ وذَلِكَ يَوْمَ الجَزاءِ ﴿أوْ يَأْتِيَ﴾ وأبْهَمَ تَهْوِيلًا لِلْأمْرِ وتَعْظِيمًا، فَقالَ: ﴿بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ﴾ أيْ: أشْراطُ السّاعَةِ الَّتِي يَكُونُ فِيها ظُهُورُهُ التّامُّ وإحْسانُهُ إلَيْكَ الأعْظَمُ مِثْلَ دابَّةِ الأرْضِ الَّتِي تُمَيِّزُ الكافِرَ مِنَ المُؤْمِنِ وطُلُوعِ الشَّمْسِ مِن مَغْرِبِها المُؤْذِنِ بِإغْلاقِ بابِ التَّوْبَةِ؛ رَوى البُخارِيُّ في التَّفْسِيرِ وغَيْرُهُ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «( لا تَقُومُ السّاعَةُ حَتّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِن مَغْرِبِها، فَإذا رَآها النّاسُ آمَنَ مَن عَلَيْها، فَذَلِكَ حِينَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ )، ثُمَّ قَرَأ الآيَةَ» . ولَمّا كانَ إتْيانُ المَلائِكَةِ - أيْ: كُلِّهِمْ أمْرًا لا يَحْتَمِلُ العُقُولُ وصْفَ عَظَمَتِهِ، ولا بُشْرى لِلْمُجْرِمِينَ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ - فَإنَّهُ لَوْ وقَعَ عَلى صُورَتِهِمْ لَتَقَطَّعَتْ أوْصالُهم ولَمْ يَحْتَمِلْهُ قُواهم فَقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ، وأمّا تَجَلِّي الرَّبِّ – سُبْحانَهُ - وعَزَّ اسْمُهُ وجَلَّتْ عَظَمَتُهُ. فالأمْرُ أعْظَمُ مِن مَقالَةِ قائِلٍ. إنْ رَقَّقَ البُلَغاءُ أوْ إنْ فَخَّمُوا تَرْكَ ما يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، وقالَ: ﴿يَوْمَ يَأْتِي﴾ [أيْ: يُكْشَفُ ويَظْهَرُ] ﴿بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ﴾ أيْ: المُحْسِنِ إلَيْكَ بِالإتْيانِ بِذَلِكَ تَصْدِيقًا لَكَ وتَرْوِيعًا وتَدْمِيرًا لِمُخالِفِيكَ ﴿لا يَنْفَعُ نَفْسًا﴾ أيْ: كافِرَةً ﴿إيمانُها﴾ أيْ: إذْ ذاكَ، ولا نَفْسًا مُؤْمِنَةً كَسْبُها الخَيْرَ إذْ ذاكَ في إيمانِها المُتَقَدِّمِ عَلى تِلْكَ الآيَةِ [بِالتَّوْبَةِ فَما وراءَها]، ولِذَلِكَ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ واصِفًا نَفْسًا: ﴿لَمْ تَكُنْ﴾ (p-٣٣٣)أيْ: الكافِرَةُ ﴿آمَنَتْ﴾ ويَسَّرَ الأمْرَ بِبَعْضِ زَمانِ القَبْلِ، ولَمْ يُكَلِّفْ بِاسْتِغْراقِهِ بِالإيمانِ، فَقالَ: ﴿مِن قَبْلُ﴾ أيْ: قَبْلِ مَجِيءِ الآيَةِ في زَمَنٍ مُتَّصِلٍ بِمَجِيئِها. ولَمّا ذَكَرَ الكافِرَةَ، أتْبَعَها المُؤْمِنَةَ فَقالَ عاطِفًا عَلى (آمَنَتْ): ﴿أوْ﴾ لَمْ تَكُنْ المُؤْمِنَةُ العاصِيَةُ ﴿كَسَبَتْ﴾ [أيْ: مِن قَبْلُ] ﴿فِي إيمانِها﴾ أيْ: السّابِقِ عَلى مَجِيءِ الآيَةِ ﴿خَيْرًا﴾ أيْ: تَوْبَةً، وبِعِبارَةٍ أُخْرى: نَفْسًا كافِرَةً إيمانَها المُجَدَّدَ بَعْدَ مَجِيءِ الآيَةِ، وهو مَعْنى ﴿لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ﴾ أوْ نَفْسًا مُؤْمِنَةً كَسْبَها الخَيْرَ بَعْدَ مَجِيءِ الآيَةِ ما لَمْ تَكُنْ كَسَبَتْ في إيمانِها السّابِقِ عَلى الآيَةِ خَيْرًا، والحاصِلُ أنَّهُ لا يُقْبَلُ عِنْدَ ذَلِكَ إيمانُ كافِرٍ ولا تَوْبَةُ فاسِقٍ - كَما قالَهُ البَغَوِيُّ - لِأنَّ المَقْصُودَ مِنَ التَّصْدِيقِ والتَّوْبَةِ الإيمانُ بِالغَيْبِ وقَدْ فاتَ بِالآيَةِ المُلْجِئَةِ، فَيَكُونُ فاعِلُ الفِعْلِ المُقَدَّرِ في (كَسَبَتْ) مَحْذُوفًا، والتَّقْدِيرُ: لا يَنْفَعُ نَفْسًا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ، أوْ لَمْ تَكُنْ كَسَبَتْ في إيمانِها خَيْرًا إيمانُها وكَسْبُها، فالإيمانُ راجِعٌ إلى مَن لَمْ يُؤْمِن، والكَسْبُ راجِعٌ إلى مَن لَمْ يَكْسِبْ، وهو ظاهِرٌ، والتَّهْدِيدُ بِعَدَمِ نَفْعِ الإيمانِ عِنْدَ مَجِيءِ الآيَةِ أعْظَمُ دَلِيلٍ عَلى ما ذَكَرْتُهُ مِنَ التَّقْدِيرِ، والآيَةُ مِنَ الِاحْتِباكِ: ذِكْرُ إيمانِها أوَّلًا دَلِيلٌ عَلى حَذْفِ كَسْـبِها مِنَ الجُمْلَةِ الثّانِيَةِ، وذِكْرُ جُمْلَتَيْ آمَنَتْ وكَسَبَتْ ثانِيًا دالٌّ عَلى حَذْفِ كافِرَةٍ ومُؤْمِنَةٍ أوَّلًا. ولَمّا كانَ هَذا تَهْدِيدًا - كَما تَرى - هائِلًا، أتْبَعَهُ ما هو أشَدُّ مِنهُ لِلتَّنْبِيهِ (p-٣٣٤)عَلى أنَّ أهْلَ الإيمانِ سالِمُونَ مِن ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿قُلِ انْتَظِرُوا﴾ أيْ: بِغايَةِ جُهْدِكم أيُّها المُكَذِّبُونَ ﴿إنّا مُنْتَظِرُونَ﴾ بِجُهْدِنا، وسَتَعْلَمُونَ لِمَن تَكُونُ العاقِبَةُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب