الباحث القرآني

ولَمّا كانَتْ هَذِهِ الآياتُ الثَّلاثُ وافِيَةً بِالآياتِ العَشْرِ الَّتِي كَتَبَها اللَّهُ (p-٣٢٢)لِمُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - عَلى لَوْحَيِ الشَّهادَةِ في أوَّلِ ما أوْحى إلَيْهِ في طُورِ سَيْناءَ المُشارِ إلَيْها بِقَوْلِهِ: ﴿وعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أنْتُمْ ولا آباؤُكُمْ﴾ [الأنعام: ٩١] وبَنى عَلَيْها التَّوْراةَ وأمَرَهُ أنْ يُودِعَها في تابُوتِ العَهْدِ لِتَكُونَ شَهادَةً عَلَيْهِمْ وعَلى أعْقابِهِمْ كَما هو مَذْكُورٌ في وسَطِ السِّفْرِ الثّانِي مِنَ التَّوْراةِ وقَدْ مَضى بَيانُهُ في البَقَرَةِ ويَأْتِي في آخِرِ هَذِهِ المَقُولَةِ وزائِدَةٍ عَلَيْها مِنَ الأحْكامِ والمَحاسِنِ ما شاءَ اللَّهُ - حَسُنَ أنْ تُذْكَرَ بَعْدَها التَّوْراةُ، فَقالَ مُشِيرًا بِأداةِ التَّراخِي إلى كُلٍّ مِنَ التَّرْتِيبِ والتَّعْظِيمِ: ﴿ثُمَّ آتَيْنا﴾ أيْ: بِما لَنا مِنَ العَظَمَةِ الَّتِي تَقْتَضِي تَعْظِيمَ ما كانَ مِن عِنْدِنا ﴿مُوسى الكِتابَ﴾ أيْ: المُشارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ مَن أنْـزَلَ الكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى﴾ [الأنعام: ٩١] - وهي - واللَّهُ أعْلَمُ - مَعْطُوفَةٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿وعَلى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾ [الأنعام: ١٤٦] لِأنَّهُ تَعالى بَعْدَ أنْ أعْطى مُوسى العَشْرَ الآياتِ واعَدَهُ إلى الجَبَلِ مُواعَدَةً ثانِيَةً، فَشَرَعَ لَهُ بَعْضَ الأحْكامِ وأمَرَهُ بِنَصْبِ قُبَّةِ الزَّمانِ الَّتِي يُوحى إلَيْهِ فِيها ويُصَلُّونَ إلَيْها، وبِبَعْضِ ما يَتَّخِذُ مِن آلاتِها كَما مَضى في البَقَرَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَسِيرٍ تَحْرِيمَ الشُّحُومِ عَلَيْهِمْ، فَقالَ في أوائِلِ السِّفْرِ الثّالِثِ وهو سِفْرُ الكَهَنَةِ، وفِيهِ تَلْخِيصُ أمْرِ القَرابِينِ: ودَعا الرَّبُّ مُوسى وكَلَّمَهُ في قُبَّةِ الأمَدِ، وقالَ لَهُ: كَلِّمْ بَنِي إسْرائِيلَ وقُلْ لَهم: كُلُّ إنْسانٍ مِنكم إذا قَرَّبَ لِلرَّبِّ قُرْبانًا مِنَ البَهائِمِ فَلْتَكُنْ قَرابِينُكم مِنَ البَقَرِ ومِنَ الغَنَمِ - إلى (p-٣٢٣)أنْ قالَ: ويُقَرِّبُ قُرْبانًا [لِلرَّبِّ الحِجابَ المَبْسُوطَ عَلى الأحْشاءِ وكُلَّ الثَّوْبِ الَّذِي عَلى الأكْشاحِ والكُلْيَتَيْنِ] والشَّحْمَ الَّذِي عَلَيْهِما وعَلى الجَنْبِ - إلى أنْ قالَ: وقالَ: الشُّحُومُ لِلرَّبِّ عَهْدُ الأبَدِ، ولا تَأْكُلُوا دَمًا ولا شَحْمًا، ثُمَّ قالَ: وكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسى وقالَ لَهُ: كَلِّمْ بَنِي إسْرائِيلَ وقُلْ لَهم: لا تَأْكُلُوا شَحْمَ البَقَرِ ولا شَحْمَ الغَنَمِ: الضَّأْنِ والماعِزِ جَمِيعًا؛ لِأنَّ كُلَّ مَن أكَلَ شَحْمَ بَهِيمَةٍ ويُقَرِّبُ قُرْبانًا لِلرَّبِّ، تَهْلِكُ تِلْكَ النَّفْسُ مَن شَعْبِها، ولا تَأْكُلُوا دَمًا حَيْثُ ما سَكَنْتُمْ، لا دَمَ البَهائِمِ ولا دَمَ الطَّيْرِ، وأيَّةُ نَفْسٍ أكَلَتْ دَمًا تَهْلِكُ تِلْكَ النَّفْسُ مِن شَعْبِها، وقالَ في السِّفْرِ الخامِسِ: فَأمّا الدَّمُ فَلا تَأْكُلُوا ولَكِنْ ادْفُقُوهُ عَلى الأرْضِ مِثْلَ الماءِ، ثُمَّ قالَ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ: وكُلُوا في قُراكم مِن كُلِّ شَهَواتِ أنْفُسِكم، ولَكِنْ إيّاكم أنْ تَأْكُلُوا دَمًا؛ لِأنَّ دَمَ البَهِيمَةِ هو في نَفْسِها، فَلا تَأْكُلُوا النَّفْسَ مَعَ اللَّحْمِ لِيُحْسِنَ إلَيْكم وإلى أوْلادِكم مَن بَعْدَكم إذا عَمِلْتُمْ الحَسَنَةَ أمامَ اللَّهِ رَبِّكم. رَجَعَ إلى السِّفْرِ الثّالِثِ ثُمَّ قالَ: ودَخَلَ مُوسى وهارُونُ إلى قُبَّةِ الزَّمانِ وخَرَجا ودَعَوْا الشَّعْبَ، فَظَهَرَ مَجْدُ الرَّبِّ أمامَ جَمِيعِ الشَّعْبِ، ونَزَلَتْ نارٌ مِن قِبَلِ الرَّبِّ فَأحْرَقَتْ الشَّحْمَ والذَّبِيحَةَ الكامِلَةَ لَهُ عَلى المَذْبَحِ، وعايَنَ ذَلِكَ جَمِيعُ الشَّعْبِ وحَمِدُوا اللَّهَ، وخَرَّ (p-٣٢٤)الشَّعْبُ كُلُّهُ عَلى وجْهِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ عَقِبَ ذَلِكَ بِيَسِيرٍ مُحَرَّماتِ الحَيَوانِ، وكَذا ذَكَرَ في السِّفْرِ الخامِسِ وقَدْ جَمَعْتُ بَيْنَهُما ومُعْظَمُ السِّياقِ لِلْخامِسِ: قالَ: لا تَأْكُلُوا شَيْئًا نَجِسًا، هَذا! كُلُوا مِن جَمِيعِ البَهائِمِ: الثَّوْرِ والحَمَلِ والنَّعْجَةِ والمَعْزِ والأيِّلِ والظَّبْيِ والجَوْذَرِ والرُّخِّ والرِّئْمِ والوَعِلِ والثَّيْثَلِ كُلِّ بَهِيمَةٍ ذاتِ ظِلْفٍ، مَقْسُومٍ ظِلْفُها تَجْتَرُّ - كُلُوها، وحَرِّمُوا مِنَ الَّتِي لا تَجْتَرُّ، ومِنَ الَّتِي لَها ظُلُوفٌ مَقْسُومَةٌ ولا تَجْتَرُّ الجَمَلُ والأرْنَبُ والوَبَرُ الَّتِي تَجْتَرُّ ولَيْسَ لَها أظْلافٌ مَقْسُومَةٌ هي نَجِسَةٌ لَكم، وفي الثّالِثِ: وحَرِّمُوا مِنَ البَهائِمِ الَّتِي لَيْسَتْ لَها أظْلافٌ الَّتِي تَجْتَرُّ: الجَمَلَ الَّذِي يَجْتَرُّ ولَيْسَ لَهُ أظْلافٌ هو نَجِسٌ مُحَرَّمٌ عَلَيْكم، والأرْنَبُ الَّذِي يَجْتَرُّ ولَيْسَ لَهُ أظْلافٌ مُنَجَّسٌ مُحَرَّمٌ عَلَيْكم. رَجَعَ والخِنْزِيرُ الَّذِي لَهُ أظْلافٌ ولا يَجْتَرُّ هو نَجِسٌ، لا تَأْكُلُوا مِن لُحُومِ هَذِهِ ولا تَقْرُبُوا إلى أجْسادِها. وقالَ في الثّالِثِ: ولا تَمَسُّوا لُحُومَها؛ لِأنَّها نَجِسَةٌ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْكم. وقالَ في الخامِسِ مِن تَرْجَمَةِ الِاثْنَيْنِ والسَّبْعِينَ: وإيّاكم أنْ تَأْكُلُوا كُلَّ نَجِسٍ، ويَكُونُ الَّذِي تَأْكُلُونَهُ مِنَ الدَّوابِّ العِجْلَ مِنَ البَقَرِ والخَرُوفَ مِنَ الغَنَمِ والجَدْيَ مِنَ المَعْزِ أوْ الأيِّلَ والغَزالَ والعَيْنَ (p-٣٢٥)والوَعِلَ وعَنْزَ الجَبَلِ واليَحْمُورَ وناقَةَ القَمَرِ والزَّرافَةَ، وكُلُّ دابَّةٍ مَشْقُوقَةِ الظِّلْفِ وهي تُنْبِتُ أظافِيرَ في كُلِّ ظِلْفِها واجْتَرَّ مِنَ الدَّوابِّ. فَإيّاهُ فَكُلُوا، والَّذِي لا تَأْكُلُونَ مِنهُ مِنَ الَّذِي يَجْتَرُّ ومِنَ المَشْقُوقِ الظِّلْفِ الَّذِي يَنْبُتُ لَهُ أظافِيرُ الجَمَلُ والأرْنَبُ واليَرْبُوعُ، فَإنَّ ذَلِكَ يَجْتَرُّ ولَكِنَّهُ غَيْرُ مَشْقُوقِ الظِّلْفِ، وهو لا يَحِلُّ لَكم، والخِنْزِيرُ أيْضًا فَإنَّ ظِلْفَهُ مَشْقُوقٌ ويَنْبُتُ في ظِلْفِهِ أظافِيرُ غَيْرَ أنَّهُ لا يَجْتَرُّ، وما لا يَجْتَرُّ فَإنَّهُ لا يَحِلُّ لَكم فَلا تَأْكُلُوا مِن لُحُومِها ولا تَقْرَبُوا أجْسادَها؛ وقالَ في الثّالِثِ مِنها: وكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسى وهارُونَ وقالَ لَهُما: كَلِّما بَنِي إسْرائِيلَ وقُولا لَهُما: إنَّ الَّذِي تَأْكُلُونَهُ مِنَ المَواشِي مِن جَمِيعِ الأنْعامِ الَّتِي عَلى الأرْضِ كُلُّ بَهِيمَةٍ قَدْ شُقَّ ظِلْفُها وهي تُخْرِجُ أظْفارًا في كِلا ظِلفَيْها وتَجْتَرُّ، فَذَلِكَ الَّذِي تَأْكُلُونَهُ مِنَ الأنْعامِ، والَّذِي لا يَحُلُّ مِمّا يَجْتَرُّ ولَمْ يُشَقَّ ظِلْفُهُ الجَمَلُ الَّذِي يَجْتَرُّ وظِلْفُهُ غَيْرُ مَشْقُوقٍ فَإنَّهُ غَيْرُ طاهِرٍ لَكم، واليَرْبُوعُ - وفي نُسْخَةٍ: السِّنْجابُ - الَّذِي يَجْتَرُّ وظِلْفُهُ غَيْرُ مَشْقُوقٍ فَإنَّهُ غَيْرُ طاهِرٍ لَكم لَمْ يَطْهُرْ لَكم، والأرْنَبُ الَّذِي يَجْتَرُّ وظِلْفُهُ غَيْرُ مَشْقُوقٍ فَإنَّهُ لا يَطْهُرُ لَكم والخِنْزِيرُ فَإنَّهُ مَشْقُوقُ الظِّلْفِ ويُخْرِجُ أظْفارًا في ظِلْفِهِ وهو لا يَجْتَرُّ فَإنَّهُ لا يَطْهُرُ لَكم فَلا تَأْكُلُوا مِن لُحُومِها ولا تَمَسُّوا ما ماتَ مِنها، فَإنَّ (p-٣٢٦)ذَلِكَ لا يَطْهُرُ لَكم. رَجَعَ إلى نُسْخَتِي، ثُمَّ ذَكَرَ في الطَّيْرِ ودَوابِّ البَرِّ قَرِيبًا مِمّا في شَرْعِنا إلى أنْ قالَ: ولا تَأْكُلُوا أشْياءَ نَجِسَةً بَلْ ادْفَعُوها إلى السُّكّانِ الَّذِينَ في قُراكم يَأْكُلُونَها أوْ يَبِيعُونَها مِنَ الغُرَباءِ، لِأنَّكَ شَعْبٌ طاهِرٌ لِلَّهِ رَبِّكَ لا تَطْبُخُوا جَدْيًا بِلَبَنِ أُمِّهِ؛ وقالَ في تَرْجَمَةِ الِاثْنَيْنِ والسَّبْعِينَ: ولا تَطْبُخْ الخَرُوفَ بِلَبَنِ أُمِّهِ؛ وقالَ في السِّفْرِ الخامِسِ: وكُلُوا مِنَ الطَّيْرِ ما كانَ زَكِيًّا وحَرِّمُوا هَذِهِ الَّتِي أصِفُ لَكم، لا تَأْكُلُوا مِنها شَيْئًا: النَّسْرَ والحِداءَ - وذَكَرَ نَحْوًا مِمّا عِنْدَنا، وقالَ في نُسْخَتِي في الثّالِثِ: فَمَن مَسَّ شَيْئًا مِن هَذِهِ - أيْ: المُحَرَّماتِ - يَكُونُ نَجِسًا إلى المَساءِ، ومَن حَمَلَ مِنها شَيْئًا فَلْيَغْسِلْ ثِيابَهُ ويَكُونُ نَجِسًا إلى اللَّيْلِ. انْتَهى. الظَّبْيُ - بِالمُعْجَمَةِ المُشارِكَةِ - مَعْرُوفٌ، والجَوْذَرُ - بِفَتْحِ الجِيمِ والذّالِ المُعْجَمَةِ والرّاءِ: البَقَرَةُ الوَحْشِيَّةُ، والرِّئْمُ - بِكَسْرِ المُهْمِلَةِ: الظَّبْيُ الخالِصُ البَياضِ، والثَّيْثَلُ - بِمُثَلَّثَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ بَيْنَهُما ياءٌ تَحْتانِيَّةٌ ساكِنَةٌ: بَقَرُ الوَحْشِ، والأيِّلُ - بِفَتْحِ الهَمْزَةِ وكَسْرِ التَّحْتانِيَّةِ المُشَدَّدَةِ، الوَعِلُ - بِفَتْحِ الواوِ وكَسْرِ المُهْمِلَةِ - وهو تَيْسُ الجَبَلِ، والحَمَلُ - بِفَتْحِ المُهْمَلَةِ: الرَّضِيعُ مِن أوْلادِ الضَّأْنِ. وقَوْلُهُ: لا تَطْبُخُوا جَدْيًا بِلَبَنِ أُمِّهِ، الظّاهِرُ أنَّ مَعْناهُ النَّهْيُ عَنْ أكْلِهِ ما دامَ يَرْضَعُ، وما بَعْدَ الَّذِي في الثّالِثِ هو مُعْظَمُ التَّوْراةِ، والَّذِي في الخامِسِ إنَّما هو إعادَةٌ لِما في الثّالِثِ، فَإنَّ الخامِسَ تَلْخِيصٌ لِجَمِيعِ ما تَقَدَّمَهُ مِنَ القَصَصِ والأحْكامِ مَعَ زِياداتٍ، فَصَدَقَ أنَّ إيتاءَ الكِتابِ أتى مُعْظَمُهُ بَعْدَ (p-٣٢٧)تَحْرِيمِ ما حَرَّمَ عَلَيْهِمْ، ويَجُوزُ - وهو أحْسَنُ - أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: ذَلِكم وصّاكم بِهِ كَما وصّى بَنِي إسْرائِيلَ في الفَصْلِ الَّذِي نِسْبَتُهُ مِنَ التَّوْراةِ كَنِسْبَةِ أُمِّ القُرْآنِ مِنَ القُرْآنِ، وذَلِكَ هي العَشْرُ الآياتُ الَّتِي هي أوَّلُ ما كَتَبَهُ اللَّهُ لِمُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - وهي أوَّلُ التَّوْراةِ في الحَقِيقَةِ؛ لِأنَّها أوَّلُ الأحْكامِ، وما قَبْلَها فَهو قَصَصٌ وحاصِلُ هَذِهِ العَشْرِ [آياتٍ]: الرَّبُّ إلَهُكَ الَّذِي أصْعَدَكَ مِن أرْضِ مِصْرَ مِنَ العُبُودِيَّةِ والرِّقِّ، لا يَكُونَنَّ لَكَ إلَهٌ غَيْرِي، لا تُقْسِمْ بِاسْمِي كَذِبًا، احْفَظْ يَوْمَ السَّبْتِ، أكْرِمْ والِدَيْكَ، لا تَقْتُلْ، لا تَزْنِ، لا تَسْرِقْ، لا تَشْهَدْ بِالزُّورِ، لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى ما في أيْدِي النّاسِ، فالمَعْنى: ذَلِكَ وصَّيْناكم بِهِ كَما وصَّيْنا بَنِي إسْرائِيلَ بِهِ في العَشْرِ الآياتِ وبَعْضِ ما آتَيْنا مُوسى مِنَ التَّوْراةِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: لِكَوْنِ هَذِهِ الآياتِ مُحْكَمَةً في كُلِّ الشَّرائِعِ لَمْ تُنْسَخْ في أُمَّةٍ مِنَ الأُمَمِ ولا تُنْسَخُ، وصّاكم بِهِ يا بَنِي آدَمَ في الزَّمَنِ الأقْدَمِ، ولَمْ يَزْدَدْ الأمْرُ بِها في التَّوْصِيَةِ إلّا شِدَّةً ﴿ثُمَّ آتَيْنا﴾ أيْ: بِما لَنا مِنَ العَظَمَةِ ﴿مُوسى الكِتابَ﴾ أيْ: جَمِيعَهُ وهي فِيهِ، حالَ كَوْنِهِ ﴿تَمامًا﴾ لَمْ يَنْقُصْ عَمّا يُصْلِحُهم شَيْئًا ﴿عَلى﴾ الوَجْهِ ﴿الَّذِي أحْسَنَ﴾ أيْ: أتى بِالإحْسانِ فَأثْبَتَ الحُسْنَ وجَمَعَهُ بِما بَيَّنَ (p-٣٢٨)مِنَ الشَّرْعِ وبِما حَمى طَوائِفَ أهْلِ الأرْضِ بِهِ مِنَ الإهْلاكِ بِعامِهِ، فَإنَّهُ نَقَلَ أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمْ يُهْلِكْ قَوْمًا هَلاكًا عامًّا بَعْدَ إنْزالِ التَّوْراةِ ﴿وتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ مِن جُمْلَةِ ذَلِكَ الفَصْلِ المُحْتَوِي عَلى الكَلِماتِ الحاوِيَةِ لِكُلِّ شَيْءٍ يُحْتاجُ إلَيْهِ مِن أمْرِ الدِّينِ والدُّنْيا، كَما أنَّ القُرْآنَ تَفْصِيلٌ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الجَوامِعِ السَّبْعِ الَّتِي حَوَتْها أُمُّ القُرْآنِ الحاوِيَةُ لِمَصالِحِ الدّارَيْنِ، وفي هَذَيْنَ الِاحْتِمالَيْنِ المُقْتَضِيَيْنِ لِكَوْنِ (ثُمَّ) عَلى حَقِيقَتِها مِنَ التَّرْتِيبِ والمُهْلَةِ عَلَمٌ مِن أعْلامِ النُّبُوَّةِ، وهو الِاطِّلاعُ عَلى أنَّ العَشْرَ الآياتِ وتَحْرِيمَ ما حُرِّمَ عَلَيْهِمْ بِالبَغْيِ في أوائِلِ ما أُوحِيَ إلى مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - بَعْدَ إغْراقِ فِرْعَوْنَ وأنَّ مُعْظَمَ التَّوْراةِ أُنْزِلَ بَعْدَ ذَلِكَ، وهَذا لا يَعْرِفُهُ إلّا أحْبارُهم ﴿وهُدًى﴾ أيْ: بَيانًا ﴿ورَحْمَةً﴾ أيْ: إكْرامًا لِمَن يَقْبَلُهُ ويَعْمَلُ بِهِ ﴿لَعَلَّهُمْ﴾ أيْ: بَنِي إسْرائِيلَ ﴿بِلِقاءِ رَبِّهِمْ﴾ أيْ: الَّذِي أخْرَجَهم مِن مِصْرَ مِنَ العُبُودِيَّةِ والرِّقِّ بِقُوَّتِهِ العَظِيمَةِ وكَلِماتِهِ التّامَّةِ ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ أيْ: لِيَكُونَ حالُهم بَعْدَ إنْزالِ الكِتابِ - لِما يَرَوْنَ مَن حُسْنِ شَرائِعِهِ وفَخامَةِ كَلامِهِ وجَلالَةِ أمْرِهِ - حالَ مَن يُرْجى أنْ يُجَدِّدَ الإيمانَ في كُلِّ وقْتٍ بِلِقاءِ رَبِّهِ لِقُدْرَتِهِ عَلى البَعْثِ الَّذِي الإيمانُ بِهِ نِهايَةَ تَصْدِيقِ الأنْبِياءِ؛ لِأنَّهُ لا تَسْتَقِلُّ بِهِ العُقُولُ، وإنَّما يَثْبُتُ بِالسَّمْعِ مَعَ تَجْوِيزِ العَقْلِ لَهُ، فَيَعْلَمُوا أنَّهُ لا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ كَما أنَّ كَلامَهُ لا يُشْبِهُهُ كَلامٌ فَلا يَبْغُوا بِاتِّخاذِ عِجْلٍ غايَةً (p-٣٢٩)أمْرُهُ خُوارٌ لا يُفْهَمُ ومَجْمَجَةٌ لا تُفِيدُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب