الباحث القرآني
ولَمّا نَهَضَ مِنَ الحُجَجِ ما لَمْ يَبْقَ مَعَهُ لِذِي بَصِيرَةٍ شَكٌّ، كانَ لِسانُ الحالِ مُقْتَضِيًا لِأنْ يُنادِي بِالإنْكارِ عَلَيْهِمْ في الِالتِفاتِ عَنْ جَنابِهِ والإعْراضِ عَنْ بابِهِ فَأبْرَزَ تَعالى ذَلِكَ في قالَبِ الأمْرِ لَهُ ﷺ بِالإنْكارِ عَلى نَفْسِهِ، لِيَكُونَ أدْعى لَهم وأرْفَقَ بِهِمْ، ولِأنَّ ما تَقَدَّمَ مُنْبِئٌ عَنْ غايَةِ المُخالَفَةِ، مُنْذِرٌ بِما أنْذَرَ مِن سُوءِ عاقِبَةِ المُشاقَقَةِ، فَكَأنَّهم قالُوا: فَهَلْ مِن سَبِيلٍ إلى المُوافَقَةِ؟ فَقِيلَ: لا إلّا بِاتِّخاذِكم إلَهِي ولِـيًّا، وذَلِكَ لَعَمْرِي سَعادَتُكم في الدّارَيْنِ، وبِتَطَمُّعِكِمْ في اتِّخاذِي أنْدادَكم أوْلِياءَ، وهَذا ما لا يَكُونُ أبَدًا، وهو مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ﴾ أيْ: مُصَرِّحًا لَهم بِإنْكارِ أنْ تَمِيلَ إلى أنْدادِهِمْ بِوَجْهٍ.
ولَمّا كانَ الإنْكارُ مُنْصَبًّا إلى كَوْنِ الغَيْرِ مُتَّخِذًا، لا إلى اتِّخاذِ الوَلِيِّ، (p-٣٥)أوْلى ( غَيْرَ ) الهَمْزَةَ [فَقالَ]: ﴿أغَيْرَ اللَّهِ﴾ أيْ: الَّذِي لا شَيْءَ يُدانِيهِ في العَظَمَةِ ﴿أتَّخِذُ﴾ [أيْ] أُكَلِّفُ نَفْسِي إلى خِلافِ ما تَدْعُو إلَيْهِ الفِطْرَةُ الأُولى والعَقْلُ المُجَرَّدُ عَنِ الهَوى كَما فَعَلْتُمْ أنْتُمْ وآخُذُ ﴿ولِيًّا﴾ أيْ: أعْبُدُهُ لِكَوْنِهِ يَلِي جَمِيعَ أُمُورِي، ثُمَّ وصَفَهُ بِما يُحَقِّقُ وِلايَتَهُ ويَصْرِفُ عَنْ وِلايَةِ غَيْرِهِ فَقالَ: ﴿فاطِرِ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ أيْ: خالِقَهُما ابْتِداءً عَلى غَيْرِ مِثالٍ سَبَقَ ﴿وهُوَ﴾ أيْ: والحالُ أنَّ اللَّهَ ﴿يُطْعِمُ﴾ أيْ: يَرْزُقُ كُلَّ مَن سِواهُ مِمّا فِيهِ رُوحٌ.
ولَمّا كانَ المَنفِيُّ كَوْنَهُ سُبْحانَهُ مَفْعُولًا مِنَ الطَّعْمِ، لا كَوْنُ ذَلِكَ مِن مَطْعَمٍ مُعَيَّنٍ، بُنِيَ لِلْمَفْعُولِ قَوْلُهُ: ﴿ولا يُطْعَمُ﴾ أيْ: ولا يَبْلُغُ أحَدٌ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ أنْ يُطْعِمَهُ، والمَعْنى أنَّ المَنافِعَ مِن عِنْدِهِ، ولا يَجُوزُ عَلَيْهِ الِانْتِفاعُ، فامْتَنَعَ في العَقْلِ اتِّخاذُ غَيْرِهِ ولِيًّا؛ لِأنَّ غَيْرَهُ مُحْتاجٌ في ذاتِهِ وفي جَمِيعِ صِفاتِهِ إلَيْهِ، وهو سُبْحانُهُ الغَنِيُّ عَلى الإطْلاقِ، وهَذا التِفاتٌ إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ما المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ﴾ [المائدة: ٧٥] وتَعْرِيضٌ بِكُلِّ ما عُبِدَ مِن دُونِ اللَّهِ ولا سِيَّما الأصْنامُ، فَإنَّهم كانُوا يُهْدُونَ لَها الأطْعِمَةَ فَتَأْكُلُها الدَّوابُّ والطُّيُورُ، فَمَعْلُومٌ أنَّها لا تُطْعِمُ ولا تُطْعَمُ رَوى الدّارِمِيُّ في (p-٣٦)أوَّلِ مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ الأعْمَشِ عَنْ مُجاهِدٍ قالَ: (حَدَّثَنِي مَوْلايَ أنَّ أهْلَهُ بَعَثُوا مَعَهُ بِقَدَحٍ فِيهِ زُبْدٌ ولَبَنٌ إلى آلِهَتِهِمْ، قالَ: فَمَنَعَنِي أنْ آكُلَ الزُّبْدَ مَخافَتُها، فَجاءَ كَلْبٌ فَأكَلَ الزُّبْدَ وشَرِبَ اللَّبَنَ ثُمَّ بالَ عَلى الصَّنَمِ ) ومَوْلاهُ كانَ شَرِيكَ النَّبِيِّ ﷺ قَبْلَ الإسْلامِ، واخْتُلِفَ فِيهِ فَقِيلَ: هو قَيْسُ بْنُ السّائِبِ بْنِ عُوَيْمِرِ بْنِ عائِذِ بْنِ عِمْرانَ بْنِ مَخْزُومٍ، وقِيلَ: قَرِيبُهُ السّائِبُ بْنُ أبِي السّائِبِ صَيْفِيُّ بْنُ عائِذِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْرُومٍ. وقِيلَ: ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ السّائِبِ - واللَّهُ أعْلَمُ. ولَهُ عَنْ أبِي رَجاءٍ - هو العُطارِدِيُّ وهو مُخَضْرَمٌ - قالَ: ( كُنّا في الجاهِلِيَّةِ إذا أصَبْنا حَجَرًا حَسَنًا عَبَدْناهُ، وإنْ لَمْ نُصِبْ حَجَرًا جَمَعْنا كُثْبَةً مِن رَمْلٍ، ثُمَّ جِئْنا بِالنّاقَةِ الصَّفِيِّ فَنُفاجُّ عَلَيْها فَنَحْلِبُها عَلى الكُثْبَةِ حَتّى نَرْوِيَها، ثُمَّ نَعْبُدُ تِلْكَ الكُثْبَةَ ما أقَمْنا بِذَلِكَ المَكانِ ) وفِيهِ أيْضًا إيماءٌ إلى أنَّهُ كَما خَلَقَكم كُلُّكم مِن طِينٍ عَلى اخْتِلافِكم في المَقادِيرِ والألْوانِ والأخْلاقِ وهو غَنِيٌّ عَنْكم، فَكَذَلِكَ خَلَقَ المَطْعُوماتِ عَلى اخْتِلافِ أشْكالِها وطَعُومِها ومَنافِعِها وألْوانِها مِن طِينٍ، وجَعَلَها مَنافِعَ لَكم وهو غَنِيٌّ عَنْها، وسَيَأْتِي التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ في قَوْلِهِ: ﴿وهُوَ الَّذِي أنْزَلَ (p-٣٧)مِنَ السَّماءِ ماءً فَأخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٩٩] المُسْتَوْفى في مِضْمارِهِ ﴿فَكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ [الأنعام: ١١٨] وفي الآيَةِ كُلِّها التِفاتٌ إلى قَوْلِهِ أوَّلَ السُّورَةِ ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ [الأنعام: ١] وقَوْلِهِ في الَّتِي قَبْلَها ﴿ولَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والنَّبِيِّ وما أُنْـزِلَ إلَيْهِ ما اتَّخَذُوهم أوْلِياءَ﴾ [المائدة: ٨١] في أمْثالِها مِمّا فِيهِ تَوَلِّي الكُفّارِ لِغَيْرِ خالِقِهِمْ - سُبْحانَهُ وتَعالى - هَذا لَوْ لَمْ يَرِدْ أمْرٌ مِن قِبَلِ الخالِقِ كانَ النَّظَرُ السَّدِيدُ كافِيًا في التَّنَزُّهِ عَنْهُ، كَما كُنْتُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ لا ألْتَفِتُ إلى أصْنامِكم ولا أعْتَبِرُ لِلْعِبادَةِ شَيْئًا مِن أنْصابِكم، فَكَيْفَ وقَدْ أُمِرْتُ بِذَلِكَ! وهو مَعْنى ﴿قُلْ إنِّي أُمِرْتُ﴾ أيْ: مِن جِهَةِ مَن لَهُ الأمْرُ، ولا أمْرَ إلّا لَهُ وهو مَن تَقَدَّمَ أنَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ، وهو اللَّهُ وحْدَهُ ﴿أنْ أكُونَ﴾ أيْ: بِقَلْبِي وقالَبِي ﴿أوَّلَ مَن أسْلَمَ﴾ في الرُّتْبَةِ مُطْلَقًا، وفي الزَّمانِ بِالنِّسْبَةِ إلى الأُمَّةِ.
ولَمّا كانَ الأمْرُ بِالإسْلامِ نَهْيًا عَنِ الشِّرْكِ، لَمْ يَكْتَفِ بِهِ، بَلْ صَرَّحَ بِهِ جَمْعًا بَيْنَ الأمْرِ والنَّهْيِ مِن هَذا الرَّبِّ الكَرِيمِ الَّذِي يَدْعُو إحْسانُهُ وكَرَمُهُ إلى وِلايَتِهِ، ويَنْهى تَمامُ مُلْكِهِ وجَبَرُوتِهِ عَنْ شَيْءٍ مِن عَداوَتِهِ، في قَوْلِهِ عَطْفًا عَلى ﴿قُلْ﴾ عَلى وجْهِ التَّأْكِيدِ: ﴿ولا تَكُونَنَّ﴾ أيْ: بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ في وقْتٍ مِنَ الأوْقاتِ أصْلًا ﴿مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ أيْ: في (p-٣٨)عِدادِهِمْ بِاتِّباعِهِمْ في شَيْءٍ مِن أغْراضِهِمْ، وهَذا التَّأْكِيدُ لِقَطْعِ أطْماعِهِمْ عَنْهُ ﷺ في سُؤالِهِمْ أنْ يَطْرُدَ بَعْضَ أتْباعِهِ لِيُوالُوهُ، ونَحْوَ ذَلِكَ مِمّا كانُوا يَرْجُونَ مُقارَبَتَهُ مِنهم بِهِ، إعْلامًا بِأنَّ فِعْلَ شَيْءٍ مِمّا يُرِيدُونَ مُصَحِّحٌ لِلنِّسْبَةِ إلَيْهِمْ والكَوْنِ في عِدادِهِمْ ( مَن تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهو مِنهم ) .
{"ayah":"قُلۡ أَغَیۡرَ ٱللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِیࣰّا فَاطِرِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَهُوَ یُطۡعِمُ وَلَا یُطۡعَمُۗ قُلۡ إِنِّیۤ أُمِرۡتُ أَنۡ أَكُونَ أَوَّلَ مَنۡ أَسۡلَمَۖ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق