الباحث القرآني

ولَمّا تَمَّتْ هَذِهِ الآياتُ مِن قُبْحِ طَرِيقَتِهِمْ في إنْكارِ البَعْثِ وحُسْنِ طَرِيقَةِ الإسْلامِ عَلى هَذا الأُسْلُوبِ البَدِيعِ والمِثالِ البَعِيدِ المَنالِ الرَّفِيعِ وخَتَمَتْ بِحالِ الظّالِمِ - شَرَعَ في تَفْصِيلِ قَوْلِهِ ﴿أغَيْرَ اللَّهِ أتَّخِذُ ولِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [الأنعام: ١٤] عَلى أُسْلُوبٍ آخَرَ ابْتَدَأهُ بِبَيانِ ظُلْمِهِمْ وجَهالاتِهِمْ وأباطِيلِهِمْ تَنْبِيهًا عَلى سَخافَةِ عُقُولِهِمْ تَنْفِيرًا عَنْهم بِوَضْعِهِمْ الأشْياءَ في غَيْرِ مَواضِعِها وإخْراجِها عَمَّنْ هي لَهُ ونِسْبَتِها إلى مَن لا يَمْلِكُ شَيْئًا، وقَتْلِ الأوْلادِ وتَسْيِيبِ الأنْعامِ وغَيْرِ ذَلِكَ، فَقالَ عاطِفًا عَلى ﴿وجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الجِنَّ﴾ [الأنعام: ١٠٠] ﴿وجَعَلُوا﴾ أيْ: المُشْرِكُونَ العادِلُونَ بِرَبِّهِمْ (p-٢٧٩)الأوْثانَ ﴿لِلَّهِ﴾ أيْ: المَلِكِ الأعْلى الَّذِي لا كُفُؤَ لَهُ ﴿مِمّا ذَرَأ﴾ أيْ: خَلَقَ وأنْشَأ وبَثَّ ولَمْ يُشْرِكْهُ في خَلْقِهِ أحَدٌ ﴿مِنَ الحَرْثِ والأنْعامِ نَصِيبًا﴾ أيْ: وجَعَلُوا لِشُرَكائِهِمْ نَصِيبًا؛ ولَمّا كانَ الجَعْلُ لا يُعْرَفُ إلّا بِالقَوْلِ، سَبَّبَ عَنْهُ قَوْلَهُ: ﴿فَقالُوا﴾ أيْ: بِألْسِنَتِهِمْ بَعْدَ أنْ قالُوا بِأفْئِدَتِهِمْ ﴿هَذا لِلَّهِ﴾ أيْ: المَلِكِ الأعْلى ﴿بِزَعْمِهِمْ﴾ أيْ: ادِّعائِهِمْ الباطِلَ وتَصَرُّفِهِمْ بِكَذِبِ ادِّعائِهِمْ التَّخْصِيصَ بِاللَّهِ؛ ولِذا أسْقَطَ الزَّعْمَ مِن قَوْلِهِ: ﴿وهَذا لِشُرَكائِنا﴾ أيْ: ولَيْسَ لَهم سَنَدٌ في هَذِهِ القِسْمَةِ إلّا أهْواؤُهم. ولَمّا كانَ هَذا سَفَهًا بِتَسْوِيَتِهِمْ مَن لا يَمْلِكُ شَيْئًا بِمَن يَمْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ - بَيَّنَ مِن فِعْلِهِمْ ما هو أشَدُّ سَفَهًا مِنهُ بِشَرْحِ ما لَوَّحَ إلَيْهِ التَّعْبِيرُ بِالزَّعْمِ، فَقالَ مُسَبِّبًا عَنْ ذَلِكَ ومُفَرِّعًا: ﴿فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ﴾ أيْ: بِزَعْمِهِمْ أنَّهم شُرَكاءُ ﴿فَلا يَصِلُ إلى اللَّهِ﴾ أيْ: الَّذِي هو المالِكُ مَعَ اتِّصافِهِ بِصِفاتِ الجَلالِ والجَمالِ ﴿وما كانَ لِلَّهِ﴾ أيْ: عَلى ما لَهُ مِنَ الكِبْرِ والعَظَمَةِ والجَلالِ والعِزَّةِ ﴿فَهُوَ يَصِلُ إلى شُرَكائِهِمْ﴾ فَإذا هَلَكَ ما سَمَّوْا لِشُرَكائِهِمْ أوْ أجْدَبَ وكَثُرَ ما لِلَّهِ قالُوا: لَيْسَ لِآلِهَتِنا بُدٌّ مِن نَفَقَةٍ، فَأخَذُوا ما لِلَّهِ فَأنْفَقُوهُ عَلى آلِهَتِهِمْ، وإذا أجْدَبَ الَّذِي لِلَّهِ وكَثُرَ ما لِآلِهَتِهِمْ قالُوا: لَوْ شاءَ اللَّهُ لَأزْكى الذُّلَّ لَهُ، فَلا يَرُدُّونَ عَلَيْهِ شَيْئًا مِمّا لِلْآلِهَةِ. ولَمّا بَلَغَ هَذا غايَةَ السَّفَهِ قالَ: ﴿ساءَ ما يَحْكُمُونَ﴾ أيْ: حُكْمُهم هَذا أسْوَأُ حُكْمٍ. ذَكَرَ الإمامُ أبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمانُ بْنُ سالِمٍ الكَلاعِيُّ في سِيرَتِهِ «فِي (p-٢٨٠)وفْدِ خَوْلانَ أنَّهُ كانَ لَهم صَنَمٌ يُسَمّى: (عَمَّ أنَسٍ )، وأنَّهم لَمّا وفَدُوا عَلى النَّبِيِّ ﷺ ذَكَرُوا لَهُ أنَّهم كانُوا يَجْعَلُونَ مِن أنْعامِهِمْ وحُرُوثِهِمْ جُزْءًا لَهُ وجُزْءًا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ، قالُوا: كُنّا نَزْرَعُ الزَّرْعَ فَنَجْعَلُ لَهُ وسَطَهُ فَنُسَمِّيهِ لَهُ ونُسَمِّي زَرْعًا آخَرَ حُجْرَةً لِلَّهِ - عَزَّ وجَلَّ - فَإذا مالَتْ الرِّيحُ بِالَّذِي سَمَّيْناهُ لِلَّهِ جَعَلْناهُ لِعَمِّ أنَسٍ، وإذا مالَتْ الرِّيحُ بِالَّذِي جَعَلْناهُ لِعَمِّ أنَسٍ لَمْ نَجْعَلْهُ لِلَّهِ، فَذَكَرَ لَهم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنَّ اللَّهَ - عَزَّ وجَلَّ - أنْزَلَ عَلَيْهِ في ذَلِكَ ﴿وجَعَلُوا لِلَّهِ﴾ الآيَةُ، قالُوا: وكُنّا نَتَحاكَمُ إلَيْهِ فَيَتَكَلَّمُ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (تِلْكَ الشَّياطِينُ تُكَلِّمُكُمْ)، قالُوا: فَأصْبَحْنا بِرَسُولِ اللَّهِ وقُلُوبُنا تَعْرِفُ أنَّهُ كانَ لا يَضُرُّ ولا يَنْفَعُ ولا يَذْرِي مِن عَبْدِهِ مِمَّنْ لَمْ يَعْبُدْهُ». وقالَ ابْنُ هِشامٍ في مُقَدِّمَةِ السِّيرَةِ إنَّهم كانُوا يَقْسِمُونَ لَهُ، فَما دَخَلَ في حَقٍّ عَمَّ أنَسٍ مِن حَقِّ اللَّهِ الَّذِي سَمَّوْهُ لَهُ تَرَكُوهُ لَهُ، وما دَخَلَ في حَقِّ اللَّهِ مِن حَقَّ عَمِّ أنَسٍ رَدُّوهُ عَلَيْهِ، قالَ: وهم بَطْنٌ مِن خَوْلانَ يُقالُ لَهم الأدِيمُ. وقالَ عَبْدُ الرَّزّاقِ في تَفْسِيرِهِ: أخْبَرَنا مَعْمَرٌ عَنْ قَتادَةَ قالَ: كانُوا يَعْزِلُونَ مِن أمْوالِهِمْ شَيْئًا فَيَقُولُونَ: هَذا لِلَّهِ وهَذا لِأصْنامِهِمْ، فَإنْ ذَهَبَ شَيْءٌ مِمّا جَعَلُوا لِشُرَكائِهِمْ (p-٢٨١)يُخالِطُ شَيْئًا مِمّا جَعَلُوهُ رَدُّوهُ، وإنَّ ذَهَبَ شَيْءٌ مِمّا [جَعَلُوهُ لِلَّهِ يُخالِطُ شَيْئًا مِمّا جَعَلُوهُ لِشُرَكائِهِمْ تَرَكُوهُ، وإنْ أصابَتْهم سَنَةٌ أكَلُوا مِمّا جَعَلُوا لِلَّهِ وتَرَكُوا ما] جَعَلُوا لِشُرَكائِهِمْ، فَقالَ - عَزَّ وجَلَّ - ﴿ساءَ ما يَحْكُمُونَ﴾ وقالَ البَغَوِيُّ: كانُوا يَجْعَلُونَ لِلَّهِ مِن حُرُوثِهِمْ وأنْعامِهِمْ وثِمارِهِمْ وسائِرِ أمْوالِهِمْ نَصِيبًا [ولِلْأوْثانِ نَصِيبًا]، فَما جَعَلُوهُ لِلَّهِ صَرَفُوهُ لَلضِّيفانِ والمَساكِينِ، وما جَعَلُوهُ لِلْأصْنامِ أنْفَقُوهُ عَلى الأصْنامِ وخَدَمِها، فَإنْ سَقَطَ شَيْءٌ مِمّا جَعَلُوهُ لِلَّهِ في نَصِيبِ الأوْثانِ تَرَكُوهُ وقالُوا: إنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ هَذا، وإنْ سَقَطَ شَيْءٌ مِن نَصِيبِ الأوْثانِ فِيما جَعَلُوهُ لِلَّهِ رَدُّوهُ إلى الأوْثانِ وقالُوا: إنَّها مُحْتاجَةٌ، وكانَ إذا هَلَكَ أوْ انْتُقِصَ شَيْءٌ مِمّا جَعَلُوهُ لِلَّهِ لَمْ يُبالُوا بِهِ، وإذا هَلَكَ أوْ انْتُقِصَ شَيْءٌ مِمّا جَعَلُوهُ لِلْأصْنامِ جَبَرُوهُ بِما جَعَلُوهُ [لِلَّهِ] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب