الباحث القرآني

ولَمّا كانَ المُشْرِكُونَ عَلى أصْنافٍ: مِنهم عِدَّةُ أصْنامٍ، شُرِكُوا في العُبُودِيَّةِ لا في الخَلْقِ، ومِنهم آزَرُ الَّذِي حاجَّهُ إبْراهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - ومِنهم عَبَدَةُ الكَواكِبِ وهم فَرِيقانِ: مِنهم مَن قالَ: هي واجِبَةُ الوُجُودِ، ومِنهم مَن قالَ: مُمْكِنَةٌ، خَلَقَها اللَّهُ وفَوَّضَ إلَيْها تَدْبِيرَ هَذا العالَمِ الأسْفَلِ، وهم الَّذِينَ حاجَّهم الخَلِيلُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - بِالأُفُولِ، ومِنهم مَن قالَ: لِهَذا العالَمِ كُلِّهِ إلَهانِ: فاعِلُ خَيْرٍ، وفاعِلُ شَرٍّ، وقالُوا: إنَّ اللَّهَ وإبْلِيسَ أخَوانِ، فاللَّهُ خالِقُ النّاسِ والدَّوابِّ والأنْعامِ، وإبْلِيسُ خالِقُ السِّباعِ والحَيّاتِ والعَقارِبِ والشُّرُورِ، ويُلَقِّبُونَ الزَّنادِقَةَ وهم المَجُوسُ؛ لِأنَّ الكِتابَ الَّذِي زَعَمَ زردشت أنَّهُ نَزَلَ مِن عِنْدِ اللَّهِ سُمِّيَ بِالزِّنْدِ، فالمَنسُوبُ إلَيْهِ زِنْدِيٌّ، ثُمَّ عُرِّبَ فَقِيلَ: زِنْدِيقٌ، وكانَ هَذا كُلُّهُ في قَوْلِهِ (p-٢١٥)﴿فالِقُ الإصْباحِ﴾ [الأنعام: ٩٦] شَرْحًا لِآيَةِ ﴿إنَّ اللَّهَ فالِقُ الحَبِّ والنَّوى﴾ [الأنعام: ٩٥] دِلالَةً عَلى تَمامِ القُدْرَةِ الدّالَّةِ عَلى الوَحْدانِيَّةِ لِلدِّلالَةِ عَلى البَعْثِ - حَسُنَ كُلَّ الحُسْنِ العَوْدُ إلى تَقْبِيحِ حالِ المُشْرِكِينَ بِالتَّعْجِيبِ مِنهم في جُمْلَةٍ حالِيَّةٍ مِنَ الضَّمِيرِ في ﴿فالِقُ﴾ [الأنعام: ٩٥] أوْ غَيْرِهِ مِمّا تَقَدَّمَ، فَقالَ تَعالى شارِحًا أمْرَ هَذا الصِّنْفِ؛ لِأنَّ أمْرَ غَيْرِهِمْ تَقَدَّمَ؛ وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما -: إنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في الزَّنادِقَةِ: ﴿وجَعَلُوا﴾ أيْ: هو سُبْحانَهُ فَعَلَ هَذا الَّذِي لا يَدَعُ لَبْسًا في تَمامِ عِلْمِهِ وقُدْرَتِهِ وكَمالِ حِكْمَتِهِ ووَحْدانِيَّتِهِ والحالُ أنَّ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ لِأجْلِهِمْ قَدْ ( جَعَلُوا ) وعَبَّرَ بِالِاسْمِ الأعْظَمِ وقَدَّمَهُ اسْتِعْظامًا لِأنْ يَعْدِلَ بِهِ شَيْئًا ﴿لِلَّهِ﴾ أيْ: الَّذِي لَهُ جَمِيعُ الأمْرِ. ولَمّا كانَ الشِّرْكُ في غايَةِ الفَظاعَةِ والشَّناعَةِ، قَدَّمَهُ فَقالَ: ﴿شُرَكاءَ﴾ يَعْنِي: وما كانَ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ مُطْلَقًا؛ لِأنَّ الصِّفَةَ إذا ذُكِرَتْ مُجَرَّدَةً غَيْرَ مُجْراةٍ عَلى شَيْءٍ كانَ ما يَتَعَلَّقُ بِها مِنَ النَّفْيِ عامًّا في كُلِّ ما يَجُوزُ أنْ يَكُونَ لَهُ الصِّفَةُ، وحُكْمُ الإنْكارِ حُكْمُ النَّفْيِ. ولَمّا اهْتَزَّ السّامِعُ مِن هَذا التَّقْدِيمِ لِزِيادَةِ المَعْنى مِن غَيْرِ زِيادَةِ اللَّفْظِ، تَشَوَّفَ إلى مَعْرِفَةِ النَّوْعِ الَّذِي كانَ مِنهُ الشُّرَكاءُ فَبَيَّنَهم بِقَوْلِهِ: ﴿الجِنَّ﴾ أيْ: الَّذِينَ هم أجْرَأُ (p-٢١٦)المَوْجُوداتِ عَلَيْهِمْ وأعْداهم لَهم، فَأطاعُوهم كَما يُطاعُ الإلَهُ فَكانَ عِبادَةً لَهم وتَشْرِيكًا، وقَدْ رَأيْتَ ما لِلْبَيانِ بَعْدَ الِانْتِهاءِ مِمّا يَحْسُنُ لِلنّاظِرِينَ ﴿وخَلَقَهُمْ﴾ أيْ: والحالُ أنَّهم قَدْ عَلِمُوا أنَّ اللَّهَ خَلَقَهم أيْ: قَدَّرَهم بِعِلْمٍ وتَدْبِيرٍ، فَلِذَلِكَ كانَ خَلْقُهُ لَهم مُحْكَمًا ﴿وخَرَقُوا﴾ أيْ: العابِدُونَ ﴿لَهُ بَنِينَ﴾ أيْ: كَعُزَيْرٍ والمَسِيحِ ﴿وبَناتٍ﴾ أيْ: مِنَ المَلائِكَةِ، فَجَمَعُوا لِذَلِكَ جَهالاتٍ هي غايَةٌ في الضَّلالاتِ: وصْفُ المَلائِكَةِ بِالأُنُوثَةِ والِاجْتِراءُ عَلى مَقامِ الرُّبُوبِيَّةِ بِالحاجَةِ، وتَخْصِيصُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِما لا يَرْضَوْنَهُ لِأنْفُسِهِمْ بِوَجْهٍ؛ ومادَّةُ ( خَرَقَ ) تَدُورُ عَلى النُّفُوذِ والِاتِّساعِ والإطْلاقِ والتَّقْدِيرِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ولا مَعْرِفَةٍ لِيَحْدُثَ عَنْهُ الفَسادُ؛ ولِذَلِكَ قِيلَ لِمَن لا يُحْسِنُ العَمَلَ: خَرِقٌ؛ ولِلْمَرْأةِ: خَرْقاءُ، يَعْنِي أنَّهم كَذَّبُوا واخْتَلَفُوا واتَّسَعُوا في هَذا القَوْلِ الكَذِبِ، وأبْعَدُوا بِهِ في هَذِهِ المُجاوَزَةِ عَنْ حَقِيقَتِهِ، اتِّساعَ مَن سارَ في خَرْقٍ أيْ: بَرِّيَّةٍ واسِعَةٍ بَهْماءَ وسُوفَةٍ جَوْفاءَ مُتَباعِدَةِ الأرْجاءِ إلى حَيْثُ لَمْ يَسْبِقْهُ إلَيْهِ بَشَرٌ، فَضَلَّ عَنِ الجادَّةِ ضَلالًا لا تُرْجى مَعَهُ هِدايَتُهُ إلّا عَلى بُعْدٍ شَدِيدٍ، فَصارَ جَدِيرًا بِالهَلاكِ، وإلى ذَلِكَ يَرْجِعُ مَعْنى ما قُرِئَ في الشّاذِّ: وحَرَّفُوا - بِالمُهْمَلَةِ والفاءِ. ولَمّا لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِمْ أصْلًا حَقِيقَةٌ ولا شُبْهَةٌ، [وكانَ الخَرْقُ التَّقْدِيرَ (p-٢١٧)بِغَيْرِ عِلْمٍ]، دَلَّ عَلى ذَلِكَ [مُصَرِّحًا بِما أفْهَمَهُ مُحَقِّقًا لَهُ] تَنْبِيهًا عَلى الدَّلِيلِ القَطْعِيِّ في اجْتِياحِ قَوْلِهِمْ مِن أصْلِهِ، وذَلِكَ أنَّهُ قَوْلٌ لا حُجَّةَ لَهُ، ومَسائِلُ أُصُولِ الدِّينِ لا يُصارُ إلى شَيْءٍ مِنها إلّا بِقاطِعٍ، وذَلِكَ بِنَكِرَةٍ في سِياقِ النَّفْيِ فَقالَ: ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ ثُمَّ نَزَّهَ نَفْسَهُ المُقَدَّسَةَ تَنْبِيهًا عَلى ما يَجِبُ قَوْلُهُ عَلى كُلِّ مَن سَمِعَ ذَلِكَ، فَقالَ: ﴿سُبْحانَهُ﴾ أيْ: أُسَبِّحُهُ - سُبْحانًا - يَلِيقُ بِجَلالِهِ أنْ يُضافَ إلَيْهِ. ولَمّا كانَ مَعْنى التَّسْبِيحِ الإبْعادُ عَنِ النَّقْصِ، وكانَ المَقامُ يَقْتَضِي كَوْنَهُ في العُلُوِّ - صَرَّحَ بِهِ فَقالَ: ﴿وتَعالى﴾ أيْ: تَباعَدَ أمْرُ عُلُوِّهِ إلى حَدٍّ لا حَدَّ لَهُ ولا انْتِهاءَ ﴿عَمّا يَصِفُونَ﴾
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب